الصدفية: حين يصير جلدكِ منطقة مشبوهة

بدأ كلّ شيء في عمر الثالثة عشرة. لم يكن غريبًا أن ألحظ التغيّرات على جلدي، إذ كنتُ أعرف تلك البقع جيدًا، فقد أصيب أحد أقاربي أيضًا بمرض جلدي مزمن. راقبت ألمه، ودعوت له بالشفاء، دون أن أتخيّل أن الداء ذاته سيصيبني يومًا.

عندما قال لي الطبيب اسم "الصدفية" وهو مرض جلديّ مناعيّ مزمن، لم أندهش كثيرًا، ورغم ذلك بكيت فور خروجي من العيادة، وكأنني كنتُ أعرف ما ينتظرني، حتى في ذلك العمر المبكر.

كانت لحظة اكتشاف المرض لحظة فارقة؛ كلّ شيء تغيّر دفعة واحدة، وللأبد.

ما تعلمته في البدء لم يكن طبيعة الأعراض، ولا العلاجات المتاحة، بل الكتمان، فأول ما قيل لي: "لا تحكي لحدا… مشان المستقبل." لم أفهم. أيّ مستقبل؟ لم أتلق جواب. فقط جملة واحدة: "لأنك بنت."

ما كان يشغلني هو: كيف سأشفى؟ ومتى؟ لكنّهم لم يعودوا يرونني سوى فتاة تحمل "عيبًا" يجب إخفاؤه. فـ"المستقبل" الذي يُراد الحفاظ عليه هو الزواج، وكلّ ما قد يشكّل عائقًا أمامه يجب طمسه.

في مجتمعات مثل مجتمعنا، الجسد الأنثوي ليس ملكًا لصاحبته، بل يُفحَص ويُقيَّم باستمرار، كما لو هو مشروعًا عامًا؛ البشرة، الوزن، الشعر، الطول... كلها تفاصيل تحت المجهر، وأيّ انحراف عن "المقبول" يتحوّل فورًا إلى مبرّر للنبذ.

مع الوقت أدركت أن الفتاة المصابة بالصدفية لا تُعامَل كما يُعامَل الشاب، فالمجتمع يتسامح مع ندوب الرجل، ويراها تفاصيل لا تشوّه الصورة. أما المرأة فعليها أن تُخفي، أن تُبرّر، أن تُنكر. المرض هو نفسه، لكن عبء التبرير يقع على جهة واحدة فقط.

وصحيح أن المرض يصيب الذكور والإناث بالتساوي، لكنه لا يُعاش بالمقدار ذاته، فالتجربة لا تتشكّل من المرض وحده، بل من السياق المحيط به. أن تكون مريضًا في جسد رجل شيء، وأن تكوني مريضة في جسد امرأة شيء آخر تمامًا.

الفتاة وهي في أبهى حالاتها، تظلّ في موروثنا الشعبي "همًّا يُلاحق حتى الممات". فكيف إن كانت مصابة بمرض جلديّ مزمن؟ تصبح كمن تمشي على خيطٍ رفيع يشده الترقّب والخوف، في مجتمعٍ يطلب منها المثالية ولا يقبل بأقلّ منها.

لذلك لم تكن آلام الصدفية وحدها ما يثقل عليّ، بل الوصمة الاجتماعية المرتبطة بها. لم يكن عليّ أن أتعامل مع دوّامات الألام اللامتناهية من الحكة، والاحمرار، والتقشّر، وغيرها فحسب بل مع نظرات الناس. الأسئلة المفاجئة في وسائل النقل، والأماكن العامة، أو حتى بين الأقارب: "شو هاد؟" جملة تبدأ بها معظم المحادثات، تُقال بنبرةٍ تجمع بين الاشمئزاز والشفقة وأحيانًا الاتهام.

"احمدي الله ما عندك سرطان"

قال لي أحد أقربائي مرّة: "احمدي الله، ما عندِك سرطان." وكأن المصائب درجات، ولا يحقّ لنا الشكوى إلا إذا بلغنا ذروتها.

مع الأيام كانت تنهال عليّ النصائح: خلطة الزنجبيل، أسماك الزينة، الاستغفار، إنقاص الوزن، سكب مواد حارقة على الجلد. قال لي أحدهم: "لو بتدعي ربّك، وبتصلّي، وبتلعبي رياضة، بيروح." لم أعلّق. كنت أكتفي بالابتسام، لا بسبب موافقتي، بل لأنني سئمت من التفسير.

كلّ هذا جعلني أتقن فنّ الانسحاب. اعتذرت عن الذهاب إلى البحر، وحضور الأعراس، وعن أيّ موقف يتطلّب كشف جزء من جسدي. وتدريجيًا صار الصيف فصلًا للقلق، والقميص بنصف كم قرارًا يتطلّب شجاعة. والتصوير تحدّيًا، فأيّ ظهور قد يكشف شيئًا لا يجب أن يُرى.

ما فكرت فيه طوال تلك السنوات لم يكن فقط كيف أشفى، بل كيف أُخفي. كيف ألتقي بالآخرين دون أن يُطرح السؤال. كيف أُسارع بالهرب حين يسألني أحدهم "شو هاد؟" بصوتٍ مرتفع في مكان مزدحم. 

حتى حين بدأتُ التعايش مع فكرة المرض المزمن، بقي الكتمان أقوى. صار تلقائيًا وجزءًا من لغتي مع العالم. 

مع مرور الوقت زادني المرض قوّة، إذ صقلني من الداخل حتى أصبحتُ امرأة لا تشبه البدايات، بل تشبه كلّ ما نجا.

هناك إرهاق لا يُقاس؛ إرهاق الجهد المستمر كي تبدين "طبيعية"، والتعامل مع الجلد كما لو كان منطقة مشبوهة، ومراقبة كلّ ما يُكشَف، والاعتذار بصمت.

سمعتُ عن فتيات فُسخت خطبتهنّ بعد أن علم الطرف الآخر بإصابتهن. لا أحد يذكر السبب صراحة، إذ تُقال جمل مثل: "ما في تفاهم"، أو "الظروف ما ساعدت". لكن الفتاة تعرف، وتتحمّل العبء وحدها.

مع الوقت استسلمت على مضض لواقع أنني أنام وأستيقظ كلّ يوم على ألمٍ لا ينتهي. وبدأت الاعتياد. لكن الحقيقة؟ لا أحد يعتاد على الألم. في الواقع ليس من المنطقي أن يُقنعنا المجتمع بذلك.

لماذا أكتب قصتي؟ 

لا أكتب لأطلب الشفقة، ولا لأبرهن على قوتي. أكتب لأن ما عشته بكلّ تفاصيله كان حقيقيًا. مررتُ به بصمتٍ طويل كما فعلت كثيرات غيري، ما زال الصمت يكمّم أفواههنّ إلى اليوم.

ثقل التجربة لم يكن في المرض وحده، بل في النظرة المحيطة به، وفي الوصمة التي التصقت بي منذ اللحظة الأولى كأن الألم الجسدي لا يكفي. هي طبقات من الخوف والتبرير تُفرَض على كلّ من تجرأ أن تظهر بجسدٍ لا يشبه ما يريدونه.

الأمر لا يتعلّق بالجمال، بل بالمكانة التي تُمنح لك أو تُسحب منك بسبب مظهرك. أتساءل: هل من حقي أن أظهر؟ أن أتكلم؟ أن ألبس ما أريد؟ أن أعترف بتعبي؟

هناك أيّام أبدو فيها بخير، وأخرى أنهار فيها بصمت. وبين هذه وتلك يظلّ الأمل موجودًا رغم كلّ شيء. الأمل بأن أعيش كما أنا دون أن أبرّر أو أختبئ. فنحن أموات إن فقدنا الأمل بالشفاء، أو توقفنا عن السعي إليه.

أحاول من خلال تجربتي مع الصدفية، أن أتعلم كيف أعتني بجسدي - وليس فقط جلدي - بل كيف أراه كحق لا كعيب. كيف أقاوم ولو بهدوء، نظرةً لا تراني كاملةً إلا إذا كنتُ خالية من الندوب.

عدوى الخوف

الصدفية ليست مجرّد بُقع على الجلد، بل هي مرض مناعيّ مزمن تتجدّد فيه خلايا الجلد بسرعة بدلًا من أن تتساقط بشكل طبيعي، فتتراكم وتُسبّب لُويحات سميكة ومؤلمة ومثيرة للحكّة، ويرافقها أيضًا العديد من الأمراض على المدى الطويل، مثل: الاكتئاب، والتهاب المفاصل، والأعصاب.

قد تظهر الصدفية في أي عمر، لكن ذروتها تكون عادة بين 15 و25 عامًا، أو بين 50 و60. قد تصيب الأطفال، وأحيانًا ترافقها مضاعفات كالتهاب المفاصل الصدفي، الذي يسبّب آلامًا شديدة في المفاصل والكعب وأسفل الظهر، وتورّمًا في الأصابع، وتغيّرات في الأظافر. وفي حالات نادرة قد يسبّب التهابًا في العين يهدّد البصر.

المرض لا علاقة له بالنظافة. ومع ذلك تحيط به وصمة، وكأن الناس يخشونه أكثر ممّا يخشون أمراضًا أخطر.

أغرب ما في التجربة أنّ المرض ليس معديًا، لكن الخوف منه معدٍ. هو مجرد حالة طبية، لكن نظرات الناس والأسئلة السطحية والهمسات والوصمة هي ما يجعله حملًا مضاعفًا.

لم تكتفِ الصدفية بأن تسكن جسدي، بل ارتدت كلّ أقنعتها فيه. مررتُ بتقلّباتها جميعًا: لويحات خشنة، ونقاط مباغتة، وبثور موجعة، واحمرارٌ يلتهم الجلد من أطرافه. وكأنني كنتُ مرآةً عاكسة لكلّ وجوه المرض في آنٍ واحد.

الألم العضوي رغم قسوته لم يكن الأثقل. كانت المعركة الأشدّ تلك التي خضتها بصمت داخلي، في مجتمعٍ شرقيّ لا يُحسن الإصغاء، ولا يملك لغةً للرحمة حين يواجه ما لا يفهمه. مجتمعٌ يرى الجلد قبل الروح، ويُحمّل الندوب ما لا تحتمله من الأحكام والوصمات.

وما يزيد وطأته أنني لستُ وحدي. كثيرون مثلي عاشوا الألم نفسه، لكنهم صمتوا طويلًا حتى خفتت فيهم الرغبة في البوح، وفقد بعضهم الإيمان بإمكانية الشفاء، لا من المرض فحسب بل من قسوة نظرة الناس أيضًا.

لا أطلب تعاطفًا

الصدفية رحلة تعايش دائم مع الجلد: مع تحوّلاته، ونوباته، وحكّته، وتقشّره، ونزيفه أحيانًا. لا علاج نهائي لها حتى اليوم، لكن العلاجات المتاحة تساعد في التخفيف من حدّتها والتحكّم بها؛ من المرطّبات الطبيعية كزبدة الشيا، إلى العلاجات البيولوجية، والتعرّض لأشعة الشمس في الأوقات المناسبة، وماء البحر، وأدوية المناعة.

إلى جانب تلك العلاجات التلطيفيّة، نُصحتُ مرارًا بعلاجات غريبة. وصل الأمر حدّ اقتراح البعض عليّ أن أسكب الأسيد على المناطق المصابة "لأحلّ المشكلة". كنت أكتفي بالابتسام، لا لأنني صدّقت بل لأنني تعبت. لم أجرّب أو أخاطر بما تبقّى من جلدي السليم. لكنني رأيت بأمّ عيني كثيراتٍ ساءت حالتهنّ بعد تلك "الوصفات" التي خلّف بعضها مضاعفات خطيرة.

لا أكتب هذه السطور لأطلب تعاطفًا، ولا لأقنع أحدًا بتقبّلي. أكتبها لأقول إنني كنتُ فتاة صغيرة حين بدأت هذه الحكاية، وأصبحتُ امرأة تحملها اليوم، لا لأنها تُعرّفها بل لأنها رافقتها. وربما… حان الوقت لأن أتوقّف عن الاعتذار منها.

بإمكان الجلد أن يشفى، وإن كان أحيانًا يعود صافيًا، وأخرى يبقى كما هو. لكن الخلل الأكبر ليس فيه، بل في النظرة، في التعليقات، في الأحكام، في فكرة أن الجَمال يجب أن يكون بلا ندبة، بلا بقعة، بلا قصة.

أنا لا أؤمن بأن هذه الحكاية انتهت وربما لن تنتهي، لكن ما أعرفه جيدًا هو أنني بدأتُ أراها بعيوني لا بعيون الآخرين.

سواء كنا من حاملي الصدفية أو لا، فإن الأمل حقّ. الأمل في العيش بكرامة داخل مجتمع لا يعاملنا كنسخٍ مكرّرة، بل كأفراد لكلٍّ منّا حكايته، وكل منا يستحقّ الرحمة. 

    صفا علاف

    فنانة سورية مقيمة في دمشق. تهتم بتوثيق التجربة الشخصية من خلال الفن، وتتناول في أعمالها مواضيع مثل الصحة النفسية و الجسدية، النسوية، والحرب. 

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • سيتم تحويل عناوين المواقع الإلكترونية وعناوين البريد الإلكتروني إلى روابط تلقائياً.