تروي قصص الميثولوجيا في بلاد الإغريق ونوميديا القديمة عن المحاربات الأمازونيّات مقطوعات الثدي.
أثناء حديثي مع فتحي خلال جلسة خمريّة، أسرّ لي بأنه منذ أن بُتر ثدي زوجته بسبب السرطان، بدأ ينظر إليها كحاملة لإعاقة جسدية وليس كمريضة. عادة لا أريد الخوض في مسائل موغلة في الخصوصية مع رفاق الشراب، ولكنّ فتحي هو أحد الندماء القليلين جدّا الذين أنزوي معهم وأتحادث دون أثقال أو حرج. لم يكن تمرين المكاشفة ذلك هيّنًا. تحدّث فتحي عن "معاناته" مع زوجته، وكيف أصبح يُلزم نفسه بممارسة الجنس معها بعد أن يُغطي نصف صدرها بلحاف حتى لا يرى ذلك "التشوّه"، وفي أحيان كثيرة -وهي الغالبة- يكتفي بالإيلاج الذي يختزل كل العملية الجنسية بالنسبة إليه. تجنبت مناقشته حول الأمر، وأردت منه الاسترسال في أفكاره حتى تتجلى لي الصورة كاملة. كان من الصعب جدًا أن أغنم قصصًا موغلة في الخصوصية حول الموضوع، فما بالك بتفكيك نفسيات أولئك الذين جاورتهم لمعرفة تحوّل المرض إلى إعاقة منفّرة بنظرهم.
شيئًا فشيئًا أخذ فتحي في مكاشفتي حول خباياه الدفينة، ومع تصاعد الخمرة برأسه بدأ يجد الكلمات المناسبة لتوصيف حالته: "تنطفئ بداخلي الرغبة عندما أمرر يدي عرضًا على صدرها المبتور. يتملكني خوف من ذلك الفراغ المشوّه وآثار الندوب التي خلّفتها العملية. الأمر بالنسبة لي وكأنني أضاجع جثة". المفردات التي اعتمدها فتحي أبوكاليبسية بامتياز. لم أشأ بالمقابل أن أطرح عليه سؤالا تقليديًا ومتوقعًا حول ما إذا انعكست الأمور وكيف كان سيتقبل الأمر إذا كان هو صاحب الإعاقة. لم أكن أرغب في لعب دور الواعظ والمتفوّق الأخلاقي، لكنّني سألته عما إذا صارح زوجته بالموضوع، الأمر الذي عارضه بشدة: "كان طبيعيًا أن تكتشف برودي وجفائي، إذ لم أعد بنفس الحرارة كما في السابق. في البداية ظننت أنّني أصبت بالعنّة (عجز عن الجماع) فتملّكني الذعر، لكن عند أول زيارة إلى الماخور اكشتفت أنّني بخير". حاولتُ التخفيف عنه وحدثته عن أيريّات أبي حكيمة الذي ترك ديوانًا شعريًا كاملا يرثي فيه ذكره المُصاب بالعنّة، واستعنت له ببعض الأبيات التي أردت من خلالها مقصدًا راودته عن نفسي، وأعوّض به سؤالي الارتدادي الذي عزفت عن طرحه تفاديًا لتصنّع الموعظة:
ولتبكِ عينُك أيرًا لا حِراك بهِ // مقوّس المتنِ في أوصالهِ خوَرُ
يهوَى الغوانِي فتسترخِي مفاصِله // كأنهُ جلْدةٌ قد مسها مطرُ
كان يضحك، ولم أنتظر منه أن يستعير مجاز أبي حكيمة "كأنه جلدة قد مسّها مطر" لنفسه. سكت قليلا وارتعد من فكرة العنّة.
طلبت من فتحي أن يحدثني عن فترة المرض، لأنّي شهدت استبساله إلى جانب زوجته في محنتها. طوال تلك الفترة كان يحارب إلى جانب "أم صغاره" كما يقول، وبعد عملية البتر لم يكن يتوقع حجم التغييرات التي ستحدث لاحقًا. معترك المرض وتقلبات الحالة الصحية لزوجته هيمنا على سير الأحداث، وفور التخلص من أثقال المعاناة التي خلفتها مواجهة السرطان، تغيرت الأمور جذريًّا: "صرت أتعامل مع حالتها ليس كمخلفات مرض، وإنما كإعاقة"، هكذا حسم فتحي موقفه من مرض زوجته، ومن ثم حدثني عن إحدى المرّات التي اصطحب فيها زوجته إلى المستشفى أثناء فترة العلاج الكيميائي، وكيف التقى بأحد الأزواج الذين شاركه "محنته". زوجة الأخير مصابة بسرطان الرحم، وفيما اتفق الأطباء المباشرون لحالتها على استئصال الرحم لمنع انتشار المرض، عارضهم الزوج بشدة قائلا: "ما عندي ما نعمل بشقف فارغ"، أي جسد فارغ لا يصلح لشيء. حاول الأطباء إقناعه بأنّ نتائج العملية لن تؤثر على الممارسة الجنسية، وعلى المتعة تحديدًا، لكنه لم يقتنع.
كلمة الشقف لها حضور قوي في استعمالات التونسيين اللغوية، وتُمثّل تقاطعًا لرمزيات سياسيّة واقتصادية ووجدانية. فالشقف هو مركب البحّارة الخالي من اللوازم والمتاع، ويشار به كذلك لدى باعة الأسواق المركزية أثناء عملية الوزن للإشارة إلى وزن العربة دون حمولة لكي يصلح لعملية الخصم أثناء البيع والشراء. تسلّلت العبارة إلى المنطوق النقابيّ مع الجيل المؤسّس للاتحاد العام التونسيّ للشغل، وأصبحت له إشارات ثابتة مقترنة بالمركزية النقابية والحفاظ على هيكل النقابات في وقت الأزمات. لكن الشقف الفارغ في عين صاحبنا هو جسد حامل لإعاقة، وبنظره قد فقد عدّة الجنس وآلية الإنجاب وكأن ضمان "الشقف" القادر على الإنجاب، هو ضمانٌ لتفوّقه. صاحبنا الذي عرج عليه فتحي في كلامه، أصرّ على أن "يمنّع الشقف" (أي ينقذه) ولكن في سياق آخر.
رغم ما أتاحه لي حديث فتحي من زاوية مهمة للنظر، إلاّ أنني أردت أن أقترب من حلقات الاضطهاد الفعلية، أي النساء اللواتي عانين من ويلات المرض وبُتر أحد أعضائهن كضريبة للعلاج أو الوقاية.
مزامير الخلاص
رغم ما أتاحه لي حديث فتحي من زاوية مهمة للنظر، إلاّ أنني أردت أن أقترب من حلقات الاضطهاد الفعلية، أي النساء اللواتي عانين من ويلات المرض وبُتر أحد أعضائهن كضريبة للعلاج أو الوقاية. أتاحت لي علاقة القرابة مع عليّة بأن أغنم بعض القصص عن نساء تعرضن لعملية بتر بسبب السرطان وتحوّلن في نظر أزواجهن إلى حاملات إعاقة، فكانت مرآتي لذلك العالم. عليّة هي إحدى الناجيات من السرطان، وكانت على اتصال قوي بنساء أصبن بنفس المرض. هناك زوجات اخترن العودة إلى منازل عائلاتهنّ الأصلية هربًا من الإهمال والشفقة والعنف الخفي المسلّط عليهنّ من أزواجهنّ. هناك من تركت الجنس منذ إصابتها بالسرطان. ليس اختيارًا، ولكن قسرًا. من بينهن من كان أحد أبنائها يرفض مناداتها بأمي بعد أن لاحظ غياب ثديها الحلوب، وكأنه إعلان انتفاء للأمومة.
حدّثتني عليّة عن منجيّة التي تعرضت إلى خذلان مماثل. كانت تُسرّ لها بأن الجفاء والعزوف أشد وطأة من العنف الذي تذوقت ويلاته سابقًا بسبب خلافات مع زوجها: "ذهب نصف صدري حاملا معه المرض، أو معلنًا هدنة مطولة معه. لكن بالمقابل، ذهب معه اهتمام زوجي. حتى ابني ذو السنتين نفرني بعد بتر ثديي". الأمر أشبه بقصة عازف المزمار، ذلك الرجل الذي زار أحد المُدن ليخلّصها من الجرذان عازفًا لحن مزماره، فتبعه الأطفال وفرغت المدينة من صراخهم وضحكهم وصخبهم لتتحول إلى مكان مهجور لا حياة فيه. لحن الخلاص الذي أنقذ المدينة من اكتساح الجرذان، حرمها من أطفالها. نفس المعادلة حضرت لدى منجيّة، فمقابل العلاج سُلب منها حضور زوجها واهتمامه إلى جانب نفور ابنها الذي عجزت عن التعامل معه.
بعيدا عن حالة منجيّة، حدثتني عليّة عن منال التي توفيت جراء معاناتها الطويلة مع السرطان. كانت قد أصيبت به منذ فترة قصيرة قبل زواجها، ولكنها كابدت وحاولت إخفاء الأمر عن محيطها حتى لا تبطل حلمها بالزواج، خاصة وأنها تجاوزت الأربعين ونيّف. بدأت منال بجلسات العلاج سرًا ولم تشرك أحدًا بالموضوع، لكن حين بدأت تأثيرات العلاج الكيميائي تظهر عليها، تفطّن زوجها إلى مرضها وثارت ثائرته لتنتهي الأمور بالطلاق "للضرر". بالنسبة إليه كان الأمر ضربًا من الخيانة. الطلاق للضرر من أجل أسباب متعلقة بالمرض واستئصال الأعضاء للوقاية أصبح شائعًا في تونس، وإن كان قديمًا يُغلّف بأسباب أخرى أو تحت عناوين مغايرة. شكّل الأمر صدمة كبيرة لمنال التي لم تستطع الاستمرار بالعلاج فيما بعد. انسحبت من بيتها الزوجي وعادت إلى منزل والديها. أثناء عزلتها تلك، شيّدت جدرانًا سميكة حول مرضها، ولم ترغب في الحديث عن ألمها مع أي أحد إلى أن ماتت. انسحاب منال وتركها للحياة الزوجية، يشبه إلى حد كبير أسطورة الفيلة البيض التي تنسحب من القطيع عندما تستشعر موتها القريب، وتذهب إلى إحدى الجبال النائية حتى تنفق هناك في هدوء.
معاجم الإعاقة، بين التصوير الساخر والترميز المؤلم
في المجالس النسائية الجماعية، إما لمأتم أو فرح أو مناسبة ما، يغلب خطاب التضامن على النساء حين يتحدّثن عن أيّ امرأة أصابها السرطان واضطرت إلى بتر ثديها، كما تحضر مفردات القدرية والحتمية بشكل كبير، وكأنّ ذلك يقي عهدتهنّ من لعنة المصاب. هو الخوف الجماعيّ الذي تصنعه هيمنة الحضور الذكوريّ في مجتمع قرويّ صغير تكاد تختفي فيه الأسرار والخصوصيّات. هناك مراوحة بين المباشرتيّة، أي الإشارة إلى الأعضاء بأسمائهن، أو المجاز الغالب على الأمر وهو في أغلب الأحيان من وحي الغلال والخضار، فالقرية التي تسكنّ بها فلاحية وأغلب سكّانها يمتهنون فلاحة الأرض وبيع المنتوجات بالأسواق. "
الثدي المبتور: من علامة قوة إلى وصم إعاقة
تروي قصص الميثولوجيا في بلاد الإغريق ونوميديا القديمة عن المحاربات الأمازونيّات مقطوعات الثدي. تُحيل الكلمة في اشتقاقها اللغوي الإغريقي القديم إلى لفظين، أ ومازوس، وتعني بلا ثدي. نقلا عن الأساطير المتوارثة والحفريات التي أقيمت في كلّ من سوريا ومناطق أخرى، فإن الأمازونيّات كنّ بالأصل مقاتلات يعمدن إلى قطع أثدائهنّ حتى يتمكنّ من استعمال القوس والنبال. ينحدر نسلُهنّ من إله الحرب وآلهة القنص والصيد، فيما تربط السرديّات التاريخيّة المؤسطرة تواجدهنّ بالمجتمعات الأمومية، أين كنّ سيّدات الحرب وسيطرن على الرجال ليخترن أجملهم من القبائل المجاورة لغرض الإنجاب فقط. يُورد المؤرخ ديودور (أو ديودورس) أن الأمازونيات وهبن حياتهن للحرب، ولا يتمتعن بحرية الإنجاب إلا إثر الانتهاء من التزامهنّ العسكري. يجري الاحتفال بالمواليد الإناث، فيما يتعرّض المواليد الذكور إلى بتر أعضائهم والإبقاء عليهم كعبيد أو نفيهم بعيدًا مع آبائهم. أما الإناث فإنهنّ يخضعن إلى تقاليد مبكرة بحرق أحد الثديين. في ذات السياق، تشير المؤرخة أدريان مايور في كتابها "الأمازونيات" إلى أنّ الإغريق كانوا يتناقلون بكثير من الدهشة قصصًا عن محاربات دهاة وشرسات من النساء، يركبن الجياد ويُطلقن السهام، مبرزة التناقض مع دور النساء داخل المجتمع الإغريقي الذي كان مقتصرًا على شؤون المنزل والإذعان لسلطة الرجل. تذهب نفس المؤرخة إلى أن الأمازونيّات هنّ من اخترعن الوشم على الجسد.
رغم الهالة البطولية المحيطة بهؤلاء المقاتلات، ورمزية الثدي المبتور التي تشير إلى علامة تفوق حربيّ وجنسيّ، إلاّ أن نفس الأساطير ألحقت بهن هزائم ضد أبطال ذكوريين، إحداها كانت على يد هرقل الذي كان عليه اجتياز إثني عشر اختبارًا لإثبات ألوهيته وقوته، ومنها مواجهة ملكة الأمازونيّات. نفس الشيء بالنسبة إلى أخيل بطل ملحمة طروادة، الذي تمكن من قتل إحدى ملكاتهنّ لتنتهي أسطورة النساء الشرسات المحاربات بهزيمة ضد البطل الهرقلي أو الأخيلي الذكر.
الأسطرة المفرطة لتفوق المحاربات الأمازونيات، واقتران سطوتهنّ بصورة الثدي المبتور والقوس، تقابلها هزائم مريرة ضد أبطال ذكوريين. هي ذاتها الصورة الحاضرة لدى منجيّة ومنال، اللواتي حاربن المرض ولكن هزمن في الآخر على يد أنانية ذكورية.
تراكمت عليّ الصور عندما ذهبت إلى أحد الأخصائيين لرسم أول وشم لي. بعد أن أنهى عمله، دخّنا سيجارة وبدأ يحدثني عن أكثر التجارب المؤثرة التي عاشها. أسر لي بأنه تلقّى ذات مرة امرأة فقدت صدرها الأيسر بسبب السرطان، وطلبت منه أن يضع لها وشمًا مكان عملية الاستئصال والندوب التي خلفتها. "لم يكن الأمر عملية تجميلية، بل كان ضربًا من التطبب والعلاج"، هكذا كلمني محدثي. الوشم لم يهب المرأة ثديًا آخر، ولكنه منحها هوية جديدة. قد لا يكون لدى النساء اللواتي سمعت عنهن أملا لوضع أوشام مكان الثدي المبتور مثل الأمازونيات، وقد لا يحتجن إلى قناع فينديتا حتى يخفين حروق الجسد وتشوهاته ويجمّلن حضورنا بهالة من الرومانسية المزيفة، وإن كان الوشم أيضًا ضربًا من رومانسية الرمز وترفًا بعيد المنال. ما بقي على أجسادهن أعمق من الوشم وأشد وقعًا من الندب، ولا تنفع معه هرطقات الحديث عن الأخلاق والشهامة. لربما هي آثار فيل أبيض تائه يبحث عن صوت عازف المزمار القادم من بعيد، فيما تقضم الفئران جلدته النديّة من كل جانب. ولربما هي أيضًا آثار جروح الطرواديين والهرقليين الذين مروا على أجسادهنّ، مخلّفين أمارات الانتصار المزيّفة. أيا كانت، فإن أثداء منجيّة ومنال وغيرهن، ستبقى عناقيد ثمرٍ مبتسرة سقطت قبل أوانها، وسطّرت في تهاويها حمولةً من القهر والمعاناة.
المراجع المعتمدة:
Les amazones: mythes, réalités; images. Article dans Les Cahiers du GRIF
Joseph Campbell; Les héros aux mille et un visage
فيلم "عصفور السطح" لفريد بوغدير
أيريات أبي حكيمة، الديوان
التعليقات
مقال متقن مؤثر مؤلم وجميل في آن معاً، شكراً هيكل !
إضافة تعليق جديد