سجيناتٌ سياسيّاتٌ يَلوين قضبان السّجن والسجّان: سِيَر انتصارٍ على التعذيب

إذا ما استنفد جلّادو السجون السياسيّة أشكالَ التعذيب لانتزاع اعترافاتٍ من السجناء الرجال، يلجؤون في النهاية إلى انتزاع رجولتهم تبر الإخصاء، أو تهديدهم بذلك. وفي قصيدةٍ لمظفّر النوّاب تروي وقائع اعتقاله وتعذيبه، يقول:

"وجيء بكرسيّ حُفرَت هوّة رعبٍ فيه،

ومُزِّقَتْ الأثوابُ عليّ

ابتسم الجلّاد كأنّ عناكب قد هربَت

أمسكني من كتفي وقال،

على هذا الكرسيّ خصَينا بضع رفاق

فاعترِف الآن

اعترفْ

اعترفْ...1 "

والإخصاء هو المصير الذي لاقاه تحت التعذيب رجب، بطل رواية "شرق المتوسّط" لعبد الرحمن منيف، وباح به بين يدَي امرأةٍ تقول له: "ألا تراني عارية، ماذا تنتظر؟"، فيجيب: "أنا لستُ رجلًا!"2 .

لكن ما الذي يفعله الجلّادون لإخضاع السجينات أو انتزاع اعترافاتٍ منهنّ؟ إنّ العقل الذكوريّ يفترض بداهةً أنّ المرأة ستنهار بمجرّد تجاوزها عتبة السجن؛ ذلك الكائن "اللطيف" و"الدافئ" لا طاقة لها لتحمّل العذابات التي تنصبّ على الرجل!

صفات اللطف والدفء سَتردُ على لسان الجلّاد في شهادات السجينات التي نوردها هنا. يستخدمها في محاولة كسر إرادتهنّ وكيانهنّ، وإجبارهنّ على الاعتراف والتعاون. لكنّ السجينة السياسيّة تُظهر من الاستبسال والقوّة ما غَلَب "قَهر الرجال"، رافضةً أسطورة "الضعفَ كأنوثة، أو الأنوثة كضعف"3 . هذه القوّة تتجلّى في ثلاث محطّات: الجريمة، والعقاب، والانتصار.

I. الجريمة: امرأة   في  معارك  السياسة   و تحرير الأرض

إنّ "التهم" التي تُوجّه إلى السجينات السياسيّات هي بالأساس ثلاث: جريمة المشاركة في حرب تحرير الأرض، جريمة معارضة النظام القائم، وجريمة القرابة السياسية؛ أي أن تكون المرأة ذات صلةٍ بعائلةٍ سياسيّةٍ معارِضة. 

وسنمثّل لكلّ "جريمة" بسيرةٍ ذاتية: سيرة الكاتبة والمناضلة الفلسطينية عائشة عودة (1944) "أحلام بالحريّة" (2001)، وسيرة الطبيبة والمفكرة النسوية المصرية نوال السعداوي (1931-2021) "مذكّراتي في سجن النساء" (1982)، وسيرة المغربيّة فاطمة أوفقير "حدائق الملك" (2001) عن سجنها مع أولادها وبناتها بعد "انتحار" زوجها، الجنرال محمد أوفقير، الذي اتُّهم بمحاولة الانقلاب على ملك المغرب الحسن الثاني عام 1972.

1. جريمة تحرير الأرض: عائشة ضدّ جيش الاحتلال الصهيوني

كانت أول تهمةٍ وُوجهَتْ بها عائشة عودة، هي تذكيرها بـ"أنوثتها"، إذ يقول لها الجلّاد الإسرائيلي بعد اتّهامها بزرع قنبلة: "عايزة تكوني أجدع من الرجال؟"4 . وهذا التحيّز الذي لن يُؤخذ بالاعتبار عند التعذيب، واجهَته عائشة حتّى بين أهلها الذين حذّروها من اللعب بالنار مع العدوّ. فهذه معركةٌ للرجال لا للنساء، ولا طاقة للنساء بها، بحسب رأيهم. ولعلّ هذا التحيّز كان دافعًا أكبر لعائشة لتنخرط في المقاومة. تقول: "بحثتُ دائمًا عن التفوّق لأثبت أنّني لستُ أقلّ من الولد [...] وها أنا أدخل كبرى المعارك التي يدخل عليها الرجال [...] وعليّ التفوّق في الاختبار". وستُثبت عائشة أنّ الرجال ليسوا "أكثر صمودًا من النساء"5 .

ستعترف عائشة باعتزازٍ واقتناعٍ راسخٍ أمام سجّانيها بالعمل البطولي الذي قامت به: "وماذا تظنّون؟ ألستُم محتلّين؟ وهل تتوقّعون أن نرميكم بالورود بدلًا من القنابل؟

نعم، أنا وضعتُ القنبلة، إنّه أقلّ شيءٍ أستطيع عمله من أجل وطني وشعبي"6 . لكنّ العقل الذكوريّ الصهيونيّ يأبى القبول بهذه الرواية! إنّه لا يصدّق أنّ امرأةً تجرؤ أو تقدر على عملٍ كهذا، لذا واصل السجّانون تعذيب عائشة لانتزاع أسماء "الفاعلين الحقيقيّين" الذين كانت تتستّر عليهم حسب زعمهم: "لكنّنا نعتقد أنّكِ لستِ من وضع العبوة، وأنّك تعترفين على نفسك لتحمي غيرك، فمَن هم الذين تتستّرين عليهم وتحمينهم؟"7 .

لكنّ الجيش الصهيوني يتأكّد يومًا بعد يومٍ أنّ بوسع النساء زعزعة أركانه، فها هي شابةٌ أخرى تُدعى عائدة سعد، تقوم بعملٍ بطوليّ آخر أثناء فترة أسر عائشة. "وها هي المرأة تنطلق من قمقمها ماردًا، فتكنس الأفكار الشوهاء التي تمنع المرأة من الإرادة وتلصق بها العجز، فأين أنتم أيّها المنظّرون العاجزون؟!"8 .

2. جريمة الرأي الحرّ: نوال السعدواي ضدّ الدولة

ألقى أنور السادات قبل اغتياله بأشهرٍ قليلةٍ خطابًا شهيرًا سيُعرف بخطاب 5 سبتمبر 1981، جاء بعد توقيعه اتّفاقية كامب ديفيد وما تلاها من هجومٍ شرسٍ عليه من الداخل المصريّ ومن خارجه، وأنهى خطابه بقراراتٍ من بينها التحفّظ على "فئةٍ من الشعب تحاول إحداث الفتنة الطائفية". وكان الخطاب ذا صبغةٍ نافذة، إذ بدأَت بعده مباشرةً حملة اعتقالاتٍ واسعة شملَت ما يزيد عن 1500 معتقل/ة سياسيّ/ة من معارِضي/ات الاتفاقية، من كتابٍ وصحافيّين/ات وناشطين/ات سياسيّين/ات ورجال دين، وكانت من بينهم نوال السعداوي.

تُلخّص نوال "جريمتها" فتقول: "الجريمة الكبرى أنّني امرأة حرّة في زمنٍ لا يريدون فيه إلّا الجواري والعبيد"9 . إذ ألقت نوال محاضرة في "جامعة عين شمس"، قالت فيها رأيها بوضع النساء، والمجتمع، والطبّ، والأدب، والسياسة. ولأنّها فردٌ من تلك الطائفة التي "تهدّد الوحدة الوطنيّة" حسب السادات، اعتُقلت وسُجنت. 

ولم تكن نوال السعداوي المعتقلة السياسيّة الوحيدة، بل سبقَتها إلى السجن بساعاتٍ مناضلاتٌ غيرها، والتحقَت بهنّ أخرياتٌ في ما بعد، مثل أستاذة الأدب الفرنسي أمينة رشيد، والصحافية صافيناز كاظم، والروائية لطيفة الزيّات. وبلغ عدد المعتقلات في العنبر ذاته مع نوال السعداوي قرابة 14 معتقلة.

ينطوي المثل العربيّ القائل إنّ "الحبس للرجال" لا "للنساء" على مفارقة، هي أنّ الرجل نفسه هو الذي يُدخل المرأة السجن.

عندما جاء رجال الأمن لاعتقال نوال السعداوي، وعبَروا بها شارعًا عامًا إلى السيّارة، سمعَت الكاتبةُ سيّدةً تصرخ في وجوههم: "يا خيبتكم، تشهرون البنادق في وجه امرأة! اذهبوا وحاربوا إسرائيل"10

وانتهَت نوال السعداوي في تجربتها السجنيّة إلى أنّ أغلب النساء من غير المعتقلات السياسيّات دخلن السجن بسبب "قهر" الرجال، بعد قهر الفقر والجهل؛ مِنْ "أبٍ يكوي ابنته لتسرق، وزوجٍ يضرب زوجته لتمارس الدعارة، وأخٍ يهدّد أخته لتهرّب له الحشيش والمخدّرات، ورئيس عصابةٍ سرق طفلةً ودرّبها في الشوارع على التسوّل"11 .

3. جريمة القرابة السياسية: فاطمة أوفقير ضدّ العدم

في 16 آب/أغسطس 1972، نفّذ الجنرال المغربي محمّد أوفقير محاولة انقلاب فاشلة على الملك الحسن الثاني، انتهَت إما بانتحاره أو رميه بالرصاص، حسبما تشير الروايات المتضاربة. وعلى إثر تصفية الملك جميع المشاركين في محاولة الانقلاب، أعطى الأوامر بفرض الإقامة الجبريّة على عائلة أوفقير المكوّنة من الأمّ فاطمة وأبنائها الستّة، ثمّ أذن بسجنهم جميعًا؛ سجنٌ كانوا يظنّون أنّه مؤقّت، فإذا به يدوم قرابة عشرين سنة!

الجريمة في حالة فاطمة هي ببساطةٍ لقبها الموروث عن زوجها؛ إذ "كان أمرًا عاجلًا وضروريًّا اضطهاد جميع أولئك الذين يحملون اسم أوفقير"12 . وأعطى مولاي عبد الحفيظ العلوي، وهو جنرالٌ كان يُعتبر "ظلّ" الملك ويده اليمنى، سببًا آخر حتّى لا يفرج عنهم، عامدًا إلى تخويفه من محاولة عائلة أوفقير الانقلاب عليه مرّةً أخرى! فإذا "نجحوا في مسعاهم، لن يشفقوا عليك ولا على أبنائك"13 . وهذا العقاب الذي سُلِّط على فاطمة وأبنائها لا يمكن تفسيره بغير الاستضعاف الكامن في عقلٍ استبداديّ، يعتقد بتعذيب روح رجلٍ ميّت عن طريق تعذيب زوجته وأبنائه.

إنّ هذه "الجرائم" الثلاث: جريمة المشاركة في حرب التحرير، وجريمة الرأي السياسي المعارِض، وجريمة القرابة السياسية، سيُعدّ لها الجلّاد ما استطاع من ألوان العذاب والعقاب، في سعيٍ مَرَضِيّ لتحطيم نفوس السجينات.

II. العقاب أو اشتهاء الموت

إنّ فكرة السجن في حدّ ذاتها كافية لترهيب المعتقلات، لاسيّما أنّ السجّان رجل، والجلّاد رجل، والنظام رجل. تقول نوال السعداوي: "أصعب لحظةٍ في حياتي هي التي سبقَت دخولي الزنزانة"14 .

يحرص الجلّاد كثيرًا على حياة السجينة! فقد توجّه الجنرال العلوي إلى الخادمة المكلّفة إطعام فاطمة وأولادها بالقول: "ليس المطلوب قتل هؤلاء الأشخاص [فاطمة وأبنائها]، إنّما يجب عليكِ أن تضنينهم وتنكّدي عيشهم"15

والجلّاد لا يريد موت السجينة لأنّه يخاف الموت أيضًا. هذا الخوف نجده في كثيرٍ من السيَر الذاتية للسجينات. فها هي عائشة عودة تصِف نجاتها من الموت بعد التعذيب: "نعم، كانوا خائفين، إنّهم يخافون أن أغدو شهيدة، إنّهم يخافون الشهداء"16 . فغاية التعذيب هي حمل السجينة على طلب الموت، لا تحقيق موتها في حدّ ذاته.

وحتّى تطلب السجينة الموت، ينوّع الجلّاد من أساليب تعذيبه، ويتّخذ عادةً مسارًا تصاعديًّا كلّما تصلّبَت السجينة: "إذا بتحكي بتوفّري على حالك العذاب"17 . في هذا المسار، ستكتشف السجينة حجم صمودها أو حجم ضعفها، وكثيرًا ما تدخل في جدالٍ مع ذاتها، تحدّثها وتقوّيها كأنّها إنسانة أخرى: "اصمدي يا عائشة، كوني نموذجًا للصمود"18 .

في نماذج السيَر الذاتية التي اطّلَعنا عليها، وقفنا على قرابة ثلاثين شكلًا من أشكال التعذيب الذي سُلّط على السجينات. بعض تلك الأشكال نجده في السيَر الذاتية للسجناء الرجال أيضًا، وبعضها الآخر مُورس بعقلٍ متحيّزٍ ضدّ النساء، وهو ما يهمّنا هنا. ويمكن ردّ أشكال التعذيب هذه إلى نوعَين رئيسَين: الإيذاء النفسي، والإيذاء الجسدي.

1.  الإيذاء النفسي 

يبدأ الترهيب البوليسيّ من لحظات الاعتقال الأولى، ويحرص على الظهور بكامل عدّته وعتاده في وجه المُعتقلة. مثلًا، القوّة التي اعتقلَت نوال السعداوي كانت تتألّف من عشرات رجال الأمن المسلّحين، في رسالةٍ واضحةٍ عن موقف النظام من "جريمة الرأي الحرّ": لا فرق بينها وبين الإرهاب، والإرهاب لا يواجَه إلّا بالإرهاب. 

وبما أنّ السلطة الأمنية متماهيةٌ مع السلطتَين التشريعية والتنفيذية، لا يحتاج رجال الأمن إلى أُذونٍ أو أوامر نيابيّة، وحضورهم وحده يكفي لإثبات شرعية الاعتقال. وفي حال رفض تسليم النفس، كما فعلَت نوال السعداوي، يُباح كلّ شيءٍ بغرض الاعتقال عنوة، كتحطيم الباب واقتحام المنزل19 .

وبحسب الغاية من الاعتقال - إن كان انتزاع الاعترافات أو الإخضاع - يُنتقى نوع التعذيب. ويبدأ الإيذاء النفسي بوصم السجينة بالعهر: "قولي لنا كم واحدًا نمتِ معه؟"، "أنت شرموطة، وأنت تعرفين ذلك"20

التوصيف نفسه ستُرمى به نوال، بطلة فيلم "حرائق" (2010) لوجدي معوّض، بعد تنفيذها عمليّة اغتيال رئيس طائفةٍ مسيحيّةٍ متشدّدة، ومن ثم تعرّضها للاعتقال21 .

هكذا، إن كان انتزاع الرجولة وسيلةً لانتزاع الاعترافات من الرجال، فإنّ الوسيلة إلى اعترافات النساء هي انتزاع "الشرف"، وفق المفهوم الذكوريّ للشرف، في ذهن الجلّاد.

ويتواصل مسلسل التعذيب النفسي من دون توقّفٍ مستهدفًا نقاط ضعفٍ يفترضها الجلّاد في الكيان النفسي للسجينة. ولأنّ تصوّر التعذيب قد يكون أكثر رهبةً من التعذيب نفسه، ينوّع الجلّاد صوَر التهديد في ذهنها، ومنها مثلًا، إسماعها أصوات الألم في الغرف المجاورة عمدًا، لبثّ الرعب في كيانها. "بدأَت أصوات تعذيب تداهم سمعي من الغرف المجاورة، صراخ، أنين، جلد، ضرب، مسبّات، استغاثات". وقد يصل الأمر إلى جرّ جثث السجناء الذين قُتلوا تحت التعذيب أمام السجينة: "تحسّستُ الأرض للتأكّد من أنّ ما أراه ليس كابوسًا، حين تبيّنتُ أنّه كان يسحب جثّة، كانت الجثّة ليعقوب عودة، رأيتُه جثّة هامدة، لقد قتلوه!"22

ويستعمل الجلّاد عائلة السجينة لإضعاف عزمها وتحطيمها، ففاطمة أوفقير تحمّلَت شتّى صنوف العذاب، لكنّ "مُرّ العذاب بالنسبة لي هو أن أشاهد الأولاد يسقمون وينهارون صحيًّا يومًا بعد يوم"23 .

ويهيّء الجلّادُ السجينةَ لألوان التعذيب بإخبارها مباشرة: "راح أشلّك، راح أخلع عيونك، راح أشوّه وجهك وأخلّيكِ مثل القرد"24 .

وبتشبّث السجينة بالكتمان أو العناد، ينتقل الجلّاد من تَخْيِيل العذاب إلى تحقيقه، فينصبّ الجحيمُ ليُذيق الجسد ألوانًا من الألم لا يمكن تصوّرها.

2. الإيذاء الجسدي

لا تُستثنى السجينة ممّا يُسلّط على السجين من البصق، والركل، والصفع، والضرب على الرأس، ونفث الدخان في الوجه، والجلد، والتثبيت، والحرمان من النوم بسكب الماء أو تسليط الضوء، والتجويع والعزل25

وربّما يكون التعذيب هو المجال الوحيد الذي طُبّقت فيه المساواة تامّةً بين الرجال والنساء. لكنّ الجلّاد يبحث دائمًا عن نقاط هشاشةٍ في طبيعة جسد السجينة، فيحاول تدمير كيانها من خلال تدمير تلك النقاط. وكثيرًا ما يلجأ إلى استعمال ورقتَين حاسمتَين: استغلال الدورة الشهريّة، أو الاغتصاب.

في جميع الشهادات التي اطّلَعنا عليها، عانت السجينات من تجاهل دورتهنّ الشهريّة، فلم يُزوّدن بالفوط الصحيّة، كما حُرِمن من الاستحمام. مثلًا، طيلة ما يقارب 10 سنواتٍ في السجن، لم تلمس فاطمة أوفقير وبناتها الماء الدافئ26 . وتروي نوال السعداوي كيف كانت السجينات في عنبر الأمهات يتصارعن على جرادل الماء حدّ التضارب. أمّا عائشة ورفيقاتها السجينات، فبقينَ لأكثر من شهرٍ محروماتٍ من تبديل ملابسهنّ أو الاقتراب من الماء والصابون، حتّى غزاهنّ القمل "وراح يسبح كيفما شاء"27

لكن أمام فشل كلّ هذه الوسائل في إخضاع السجينة، يتحوّل هدف الجلّاد من هدفٍ سياسيّ إلى شخصيّ: إنّه رجل، وعليه أن ينتصر على المرأة في النهاية، لذا يستخدم ورقته الأخيرة لإثبات رجولته أمامها: الاغتصاب.

"هجم القصير وثبّت ركبتَيه في بطني فزاد ضغط القيد على عمودي الفقري، كاد يقصم ظهري وأصبح الألم يفيض كشلّالٍ من نار. أمسك الطويل بعصا، باعد ساقيّ وثبّتهما بركبتَيه، وثبّتَت الفتاة رأسي بقدمها. "عزرائيل" يحاول بالعصا اختراق رحمي!"28 .

الاغتصابُ الذي تعرّضَت له نوال في فيلم "حرائق" زرع في بطنها جنينًا من الجلّاد أبو طارق. حاولَت نوال في ما بعد إسقاطه بالضرب على بطنها لكن من دون جدوى، إذ أنجبَت في النهاية توأمًا، ذكرًا وأنثى29 .

إنّ ألوان العذاب التي اختبرَتها السجيناتُ السياسياتُ كافيةٌ لتحطيمهنّ، وإخضاعهنّ، وتطويعهنّ لرغبات الجلّاد المرَضيّة. لكنّ الاستبسال الذي أظهرنَه فاق العذاب ومعه كلّ التصوّرات التي ترى في النساء كائناتٍ طيّعة تلين أمام الاستضعاف.

مقاومةٌ تتفوّق على التعذيب

يجمع بين السجينات السياسيّات شغفهنّ بالمطالعة والكتابة، قبل الاعتقال، وخلاله، وبعده. وقد مدّهنّ تكوينهنّ الثقافي بتلك الصلابة في الوعي والثبات على المبادئ. تقول فاطمة أوفقير: "عندما قرأتُ "الاعتراف" لأرثور لوندون، ثمّ "الصفر والنهاية" لأرثور كوستلو، أدركتُ أنّهم يطبّقون علينا الطُرق المجرّبة من قبل الأنظمة الشيوعيّة على سجنائها السياسيّين، إنّهم يسعون لإرهابنا لإبقائنا تحت سلطتهم"30

من جهتها، حرصَت نوال السعداوي على الكتابة في السجن؛ فــ "قبل أن تغلق الشاويشة علينا باب العنبر كان معي القلم والورق"31

أما عائشة عودة، فكانت قبل اعتقالها تقرأ سرًّا أعداد جريدة "الحريّة" للقوميّين العرب32 ، وكانت تقوّي نفسها تحت التعذيب باستحضار صمود سجيناتٍ سابقات، مثل الجزائرية جميلة بوحيرد التي "مَرّتْ بتجربة الكهرباء... وفكّرتُ: "لستُ أقلّ منها، فلأجرّبها إذا كان لا بدّ منها"33 .

لقد أضفى الشِّعر والأدب دفئًا على لياليهنّ الباردة في السجن، وساعدهنّ تكوينهنّ الثقافيّ على إخراج قصصهنّ للضوء.

لم تكتب عائشة عودة سيرتها بغاية توثيقها فقط، بل دفعها للكتابة التحيّزُ الذي وجدَته في سيرة سجينٍ سياسيّ مرّ على السجن الذي كانت فيه مع رفيقاتها، ولم يذكرهنّ في كتابه إلا بشكلٍ عابر. تكتب: "ربّما يعتقد أنّنا ضلعٌ قاصر!"34 . هذا رغم أنّ عائشة وثّقَت مشاهد لرجالٍ "انهاروا بسرعة" واعترفوا على مَن معهم، في حين صمدَت هي حتّى النهاية.

هذا التكوين الثقافيّ زوّد السجيناتِ أيضًا ببلاغةٍ في البيان والمواجهة، حتّى كان الجلّادُ يتجرّد أمامهنّ من كلّ حجّة، فلا يبقى له سوى الضرب حجّةً لحضوره. تقول عائشة لجلّاديها الذين تفاخروا أمامها بقوّة إسرائيل وتحضّرها: "إذا كنتم أقوياء ومتحضّرين، فما حاجتكم لأن تضربوا فتاةً "حقيرة" مثلي كما تقول؟!"35

وكان للرسالة البليغة التي وجّهَتها نوال السعداوي ورفيقاتها إلى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، إثر اعتلائه سدّة السلطة، أثرًا مباشرًا في صدور قرار الإفراج عنهنّ جميعًا.

وكما يمعن الجلّاد في تعذيب السجينة، تمعن هي في تعذيبه بطريقتها. وإن كانت غاية الجلّاد تحطيم السجينة، فإنّ غايتها إظهار فشله في ذلك. وأكثر ما يثير جنونه هو برودها وعدم مبالاتها به، "حتّى إنّها لا تصرخ هذه الشرموطة!"36

يظهر هذا البرود في الصمت، كما في الغناء! في الواقع، كثيرٌ من السجينات واجَهن جلّاديهنّ بالغناء،

حتّى أنّ نوال، بطلة فيلم "حرائق"، عُرفت في السجن بـ"المرأة التي تغنّي" La femme qui chante. فكانت كلّما سمعَتْ صراخ النساء تحت التعذيب، رفعَت صوتها بالغناء لتشدّ من أزرهنّ:

"نامي نامي يا صغيره

تانغفى عا لحاصيره"37

وأثار غناء نوال جنونَ الجلّادين، ولم يُسكِتها عنه الضربُ والركل، حتّى اغتُصبت، وقال لها مغتصِبها: "غنّي هلّأ". لكنّها مع ذلك، لم تكفّ عن الغناء. 

وكان لغناء السجينات الذي تناهى إلى مسامع عائشة في عزلتها وَقْعٌ بالغ، فقد آنسَها وقوّاها: "لستِ وحدك يا عائشة، هؤلاء مناضلاتٌ لا يبكين، بل تنطلق حناجرهنّ في الغناء والإنشاد"38 .

هكذا كان نضال السجينات خلف القضبان. فلَم تكن معركتهنّ من أجل الحريّة فقط، بل كانت أيضًا معركةً ضدّ التحيّز والتصوّرات النمطيّة عن النساء. ولعلّ تدوين السجينات قصصهنّ، بكلّ ما فيها من عنفٍ ومحاولات إخضاعٍ ومحو، هو بحدّ ذاته انتصارٌ على رواية السجّان وسرديّته. 

  • 1مظفّر النوّاب، قصيدة "بكائيّة على صدر الوطن"
    https://poetsgate.com/poem.php?pm=21129
  • 2عبد الرحمن منيف، "شرق المتوسّط"، مصر ولبنان، دار التنوير والمؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ط. 19، 2016، ص.217.
  • 3 نوال السعداوي، "مذكّراتي في سجن النساء"، بيروت، دار الآداب، ط. 1، 2000، ص. 70.
  • 4عائشة عودة، "أحلام بالحريّة"، رام الله، فلسطين، مواطن، ط. 2، 2007، ص. 71.
  • 5عائشة عودة، نفسه، ص. 53.
  • 6عائشة عودة، نفسه، ص. 101.
  • 7عائشة عودة، نفسه، ص. 126.
  • 8عائشة عودة، نفسه، ص. 138.
  • 9نوال السعداوي، نفسه، ص. 11.
  • 10 نوال السعداوي، نفسه، ص. 29.
  • 11 نوال السعداوي، نفسه، ص. 79-80.
  • 12فاطمة أوفقير، "حدائق الملك"، ترجمة ميشيل خوري، دمشق، ورد للطباعة والنشر، ط. 1، 2000، ص. 144.
  • 13 فاطمة أوفقير، نفسه، ص. 139.
  • 14نوال السعداوي، نفسه، ص. 55.
  • 15 فاطمة أوفقير، نفسه، ص.151.
  • 16عائشة عودة، نفسه، ص.156.
  • 17عائشة عودة، نفسه، ص. 83.
  • 18عائشة عودة، نفسه، ص.51.
  • 19نوال السعداوي، نفسه، ص. 26-28.
  • 20عائشة عودة، نفسه، ص. 63، 140.
  • 21فيلم Incendies، قصّة واقعيّة، د. 01:08:57
  • 22عائشة عودة، نفسه، ص. 148.
  • 23فاطمة أوفقير، نفسه، ص. 145.
  • 24عائشة عودة، نفسه، ص. 55.
  • 25عائشة عودة، نفسه، ص. 55، 64، 65، 72، 73، 78.
  • 26فاطمة أوفقير، نفسه، ص. 197.
  • 27عائشة عودة، نفسه، ص. 178.
  • 28عائشة عودة، نفسه، ص. 149.
  • 29ستكتشف نوال أنّ أبو طارق هذا هو ابنها، وهو بذلك أبٌ لابنَيها أيضًا.
  • 30فاطمة أوفقير، نفسه، ص. 132.
  • 31نوال السعداوي، نفسه، ص. 14.
  • 32عائشة عودة، نفسه، ص. 44.
  • 33عائشة عودة، نفسه، ص. 161.
  • 34عائشة عودة، نفسه، ص. 195.
  • 35عائشة عودة، نفسه، ص. 91.
  • 36عائشة عودة، نفسه، ص. 64.
  • 37فيلم Incendies، د. 01:18:47
  • 38عائشة عودة، نفسه، ص. 166.

وليد نعمان

وليد نعمان مختص في اللسانيات والآداب والحضارة العربيّة.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.