كيف تكونين صانعة أفلام في مصر؟ سؤالٌ وجوديّ عن تقاطع السينما والجندر

عَرفتُ منذ طفولتي أنني سأكون صانعة أفلام؛ هذا اليقين الطفولي تحوّل لاحقًا إلى شغفٍ مراهقٍ نهمٍ دفعني لمشاهدة  عشرات بل مئات الأفلام. بدأتُ بالأفلام المصرية القديمة، ثم انتقلتُ إلى الأفلام الأمريكية التي حظت بشعبية على  شاشات السينما والتلفزيون. 

في أواخر مراهقتي وبدايات شبابي ومع ازدياد سرعة الإنترنت واكتشافي للتورنت، أصبحت السينما العالمية في متناول يدي. اكتشفتُ أنني أحبُّ الأفلام الكورية، ووجدتُ اهتمامًا بالأفلام الوردية اليابانية. شاهدتُ أفلامًا من آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وبدأتُ أكتشف السينما العربية وأُعجبت خصيصًا باللبنانية. أصبحت لدي اهتمامات واضحة بنوعيات معينة من الأفلام، وصرت أملك ثقافة سينمائية خاصة بي.

في منتصف عشريناتي ذهبت لدراسة السينما، فتحوّل موقعي من مجرد عاشقة حالمة بالاقتراب من هذا العالم الساحر إلى صانعة تطمح لإيجاد صوتها الخاص.

في هذه الرحلة للبحث عن صوتي السينمائي بدأت تظهر أمامي عدة أسئلة ملحّة، وكان من الضروري الإجابة عنها. أولها: لمن ينتمي هذا الصوت؟ أو كما سألت سعاد حسني حسين فهمي في فيلم "خلي بالك من زوزو": من أنت؟.

في حوار صلاح جاهين المكتوب لذلك الفيلم التجاري، وبطلته راقصة جامعية في مصر ما بعد النكسة، هناك مشهد يبدو لطيفًا يمهّد لعلاقة الحب بين البطل والبطلة. 

يخبرها سعيد أنه لا يجيب عن ذلك السؤال لأنه أصعب سؤال، ثم يحاول قلب الطاولة عليها كأي رجل يمارس الـmansplaining: تعرفي إنتي تردي عليه؟. لكن قبل أن يعطيها فرصة للإعلان عن نفسها وإخباره من تكون، يقاطعها قائلًا: ثم إنت بتسأليني السؤال ده ليه يا آنسة زوزو؟.

وهنا بالنسبة لي يأتي الحوار الفارق، وهو سبب كتابتي لهذا النص. تقول زوزو بحماس: وفيها إيه؟. فيرد الذكر العالم بالأمور: كان لازم تسألي في الموضوع لترد هي بشقاوة وذكاء بنت أروبة في الموروث المصري، حين تكون طفلة صغيرة تتحدّث بكلام أكبر من سنها، فيفرح أهلها ويضحكون على نباهتها. تقول زوزو الجامعية المثقفة تربية العوالم صاحبات الثقافة الحياتية: ما هو هو ده الموضوع. أي واحد يقول لي أي كلام لازم أعرف هو مين أولًا عشان أعرف هو بيقوله ليه؟ عايز يستعرض معلوماته؟ ولا عايز يسفّه معلوماتي؟ ولا عايز يرضي بعض الناس؟ ولا عايز يعقدني وخلاص؟ ولا فعلًا هو يهمّه إني أستفيد؟ فلما أعرف إنت مين أعرف إنت عايز إيه. خدت بالك؟!" 

يتخذ باقي الحوار المنحى الذكوري المتوقّع، إذ يقلّل البطل من قيمة المونولوج الذي طرحته البطلة، ثم يُثني على طريقة نطقها متجاهلًا مضمون حديثها. 

أما هي، فتتجاهل تعليقاته وتحاول مواصلة الحديث عن اهتمامها بموضوع الإنسان وحقيقته. لكنه يقطع الحوار بشكل مفاجئ.

بعد هذا المشهد يأتي أبرز مشهد في الفيلم، وهي أغنية "يا واد يا تقيل". تُبرز كلمات صلاح جاهين ذات الإيقاع السهل الممتنع مع الموسيقى المرحة التي ألّفها كمال الطويل، وبأداء متقن من سعاد حسني أن الأمر لا يتعلق فقط بالذكورية، بل بفكرة "التقل" وكأن الحل هو أن تسحره بصبرها وطول بالها، لأنه يعجبها وستتمكن في النهاية من الإيقاع به.

ولا يبدو من قبيل المصادفة أن يكون مخرج هذه الأفلام هو حسن الإمام الملقب بـ"مخرج الروائع"، لأن أفلامه كانت تجارية وتستهدف شريحة واسعة من الجمهور في تلك الفترة.

في محاولتي لفهم من أنا حقًا، واجهت نفسي بحقيقة أن هناك تراثًا سينمائيًا كبيرًا شكّلني وعلّمني، وهو جزء من ذاكرتي، لكنه ذكوري؛ صوتُه صوت لا يراعي موقعي الجندري ومع ذلك هو السائد. حتى عندما أفكر في هويتي كصانعة أفلام يتبادر هذا المشهد إلى ذهني. المختلف الآن أن سنوات الدراسة والمشاهدة والممارسة جعلتني أتذكر هذا المشهد وأحب الأغنية، لكن في الوقت ذاته أفهم موقفي النقدي من البطلة. 

السينما المشتبكة

إدراكي ذلك أثار بداخلي نقاشًا حول التقاطعية بين الجندر والسينما، لكنني لم أستطع الإجابة على السؤال بمفردي. لذا في عام 2016 ومن خلال مجموعة نسوية، قررت إنشاء نادي "سينما غير"، وهو مساحة تُعرض فيها أفلام تتشابك مع قضايا الجندر والأدوار الجندرية، ومناقشة هذه الأفلام من أجل فتح باب لجعل السينما معبّرة عنا. في فترة ما بعد 2011 و2014 وفي لحظة مليئة بالفورة والثورة دفعت جميع الأقليات لمحاولة إيجاد مكان لها في هذا السياق الجديد، كان هذا النادي مساحة آمنة نتحدّث فيها عن تمثيل النساء وجسد المرأة والرغبات الجنسية الغيرية والمثلية، وعن الآخر وكيف يحدث هذا التغريب؟ كيف نصبح نحن "الآخر" في مجتمع ننتمي له نظريًا؟ كيف نخفي جزءًا أو أجزاءً من هويتنا بعد أن جربنا أن نكون نحن للحظة وجيزة، في ما بين عامي 2011 و2013؟ بعد هذه اللحظة تغير الكثير، وكان ذلك النادي مساحة كي لا نفقد كل ما اكتسبناه ولو لحظيًا. ولكن اضطررنا لإغلاقه لأسباب أمنية، مع تهديد ذلك الأمان، فيما أصبح التغريب هو الواقع الذي يجب أن نتعايش معه. وهنا وجدنا أن الرمزية هي آخر ملاذ لنا للوجود.

وفي وسط هذا البحث والمشاهدة والنقاشات أصبحنا نتحدّث عن الترميز الكويري، وهو كيفية الإشارة أو الإيحاء بالهوية الجندرية للشخصية أو السياق بدون التصريح بها، بحيث يتمكّن الفيلم من تمريرها وكيف بعد النظر والتدقيق. أصبح الترميز البعيد عن الكويرية، هو الطريق الذي اتّخذه صناع السينما في الدول والثقافات التي تحتوي على الكثير من التابوهات والقليل من الحرية.

سينما المهمّشين بدون مهمّشات

هذا الترميز هو ما نسميه في أدبيات السينما العربية بالإسقاط والرمزية أو بأفلام المهرجانات أو بالأفلام الفنية التي ليس لها جمهور. ولكن في الحقيقة هي سينما المهمشين سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا؛ أولئك الذين لا يرون الذكورة في شخصية "ولد تقيل"، ولا الست الناعمة أو روقة في فيلم "العار" الست المثالية التي يطمح إليها كل الرجال.

سينما تزخر بالكثير من الأبطال المضادّين، مثل أحمد زكي في دور محامي التعويضات الذي فقد وظيفته في النيابة لأنه لم يكن فاسدًا. وحين خسر كل شيء قرّر أن يلعب بقانون زمن الانفتاح، وأصبح يقتات على حوادث أبطالها الفقراء الذين كان يومًا ما منهم في فيلم "ضد الحكومة" (1992) لعاطف الطيب. أو مثل عادل إمام في دور لاعب الكرة الذي يشعر أن موهبته مظلومة، والقاهرة تسحقه بين طلاقه وإفلاسه وإهدار أحلامه الكروية في فيلم "الحريف" (1983) لمحمد خان. أو مثل شخصية "يحيى" في رباعية يوسف شاهين الذاتية التي يبحث فيها عن موقعه كفنان ومخرج في خضمّ تاريخ عائلي واجتماعي وسياسي معقّد ومتغيّر.

ما يجمع كل هذه الأفلام أن صناعها رجال، مثل عاطف الطيب ومحمد خان ويوسف شاهين، وأن أبطالها من الرجال. حتى حين كانت البطلات من النساء مثل فاتن حمامة في "يوم حلو ويوم مر" (1988) أو شريهان في "الطوق والأسورة" (1983) لخيري بشارة، كانت الحبكة تحتوي على الكثير من الدراما العاطفية والأسى الذي لا ينتهي دون أي لحظة انتصار واحدة حتى وإن كانت مؤقتة. لا مرافعة ختامية مطولة في "ضد الحكومة"، ولا آخر مباراة لفارس في الشارع وهو يغلب اللاعب الجديد، ولا حتى جائزة مهرجان برلين السينمائي في فيلم "إسكندرية ليه" أو "إضراب النقابة" في "إسكندرية كمان وكمان".

النساء في هذه الأفلام -التي أخرجها رجال- مظلومات ومسحوقات ويُقدَّمن في بصريات مؤلمة لا تُنسى. مثل مشهد سيمون وهي تشعل النار في نفسها باستخدام غاز الأنبوبة، أو مشهد شريهان وهي تُدفن حيّة وأمها تشاهدها تموت دفاعًا عن الشرف.

حتى في فيلم "عرق البلح"، يبدأ الفيلم بتتابع فانتازيا حيث يدخل رجال مقنعون ويخطفون كل رجال القرية ما عدا طفلًا وكهلًا لا يتحرّكان ولا يتكلّمان. ونرى النسوة في هذه القرية وهن يعانين من غياب الرجال. هنا استخدمت النساء كرمز للحديث عن التغيرات التي حدثت في المجتمع ما بعد النكسة. رضوان الكاشف صنع فيلمًا جميلًا، ولكن الترميز استخدم النساء بصفتهنّ الأضعف والأقل حيلة. إما ينكرن رغباتهن الجنسية أو يتصرفن بناءً عليها، لكنهن جميعًا ينتظرن أحمد ليتسلّق نخلة؛ هذا المراهق الذي افتتنت به النساء أمومةً أو رغبة مكبوتة.

صوت وسط الكلّ

كيف تجد امرأة مصرية مكانها كمخرجة في هذا المشهد؟ حين كنا نكبر كان هناك مخرجات في التلفزيون، وكانت عطيات الأبنودي تصنع الفيلم التسجيلي. 

لكن في الألفينات ولأول مرة ظهرت أفلام لمخرجات سيدات خرجن من إطار ماسبيرو، ومن المسلسل والفيلم التلفزيوني، من بينهن (ساندرا نشأت، كاملة أبو ذكرى، هالة خليل، هالة لطفي) على تنوّع تجاربهنّ واختلاف أصواتهنّ يظل هناك قاسم مشترك مهم بينهن جميعًا. سواء من صنعن أفلامًا تجارية مثل ساندرا، أو مستقلة مثل هالة لطفي، أو حاولن أن يكنَّ في المساحة الوسط بين التجاري والمستقل مثل هالة خليل وكاملة أبو ذكرى، إلا أن كلّ أعمالهنّ كانت آمنة إما عن الحب أو عن معاناة النساء. لكنها رغم ذلك فتحت الأبواب المغلقة.

أغلبهنّ قدمن فيلمًا أو فيلمين أو ثلاثة قم عدن إلى التلفزيون. أما هالة لطفي فقد فتحت شركة إنتاج خاصة بها تحاول من خلالها دعم مخرجين-مخرجات آخرين، فتحوّلت من مخرجة إلى منتجة. الوحيدة التي اختلفت هي ساندرا نشأت، لأنها بعد فيلمها "مبروك وبلبل" (1998) الذي كان فيلمًا غير تجاري، اختارت العمل في ثنائيات مع كريم عبد العزيز ثم أحمد عز لصنع أفلام تجارية. بدأت كما الشائ عبر فيلم رومانسي كوميدي "ليه خلتني أحبك" (2000)، ثم اتجهت إلى مجموعة أفلام كوميدية وأفلام الأكشن والغموض حتى آخر أفلامها "المصلحة" في عام 2012.

ولكن في هذا العام 2024 نشهد موجة نسائية جديدة في الأفلام، مثل نهى عادل في "دخل الربيع يضحك"، وهبة يسري في "الهوى سلطان"، وهالة القوصي في "شرق 12"، وجيلان عوف في "الفستان الأبيض"، وندى رياض كمخرجة مشاركة في "رفعت عيني للسما". المختلف هذه المرة هو تنوع التجارب فجميعها أبطالها نساء.

هذه الموجة الجديدة أعتقد هي نتاج سنوات من محاولة فهم من نحن ولماذا نصنع السينما، وكيف أنه في هذه اللحظة يجب أن يكون للبعض صوت وسط الكلّ. وكلّ هؤلاء النساء عن قصد أو عن غير قصد ، يعملن في هذه التقاطعية التي لا بد منها بين الجندر والسينما.

منة إكرام

سيناريست ومخرجة من مصر

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.