في عام 2025، اعتلى محمد رمضان خشبة مسرح كوتشيلا ببطن مكشوف وصدر محاط بحزام من العملات الذهبية اللامعة، فيما يغطّي جسدَه رداءٌ طويلٌ أشبه بالعباءة ينسدل خلفه رمز "العنخ" الذي يشير إلى الحياة في مصر القديمة، وهي إطلالةٌ صُممت لتُبهر وتفرض الحضور، وربما أيضًا لتستدعي الماضي. أضواءٌ تتوهّج، وكاميراتٌ تلمع، وخصرٌ يهتز بإيقاعٍ مثير. أصبح رمضان الفنّان المصري الأوّل الذي يؤدّي هذا العرض العالمي في كاليفورنيا، لكن هذه اللحظة التي خُطّط لها أن تكون احتفاءً بالفخر الوطني، سرعان ما تحوّلت إلى فضيحة قومية.
ما بدا إطلالة مبهرة انقلب إلى مادّة للتحقيق والمساءلة، حيث وُجّهت انتقادات حادّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بدعوى أن ملابسه تشبه زيّ الراقصات الشرقيات، ثم ظهرت مطالبات لمحاسبته قانونيًا، تزامنًا مع بلاغ رسمي قُدّم للنائب العام وتحقيقٍ فتحته نقابة المهن التمثيلية بحجّة أنه "أساء إلى الشعب المصري" بمظهره غير اللائق.
كانت هذه جولة جديدة من سلسلة الجدل الذي يرافق رمضان دومًا، وربما يرى البعض أن الكراهية التي تلاحقه تعود إلى صعوده المفاجئ إلى الثراء الفاحش وجرأته في إعلان نفسه "نامبر وان"، لكن رمضان ليس محور هذا النص، فما يهمّنا هنا هو ما فعله جسده—تحديدًا، كيف أيقظ هذا الجسد أشباحًا مدفونة؛ شبح "الخوال".
أجساد على هامش التاريخ
غالبًا ما عرفنا "الخوال" من خلال أعين الرحّالة الغربيّين في القرن التاسع عشر وكتابات المُستشرقين الذين صوّروه كشخصية تثير الفضول والاشمئزاز معًا. لكن في مصر كان الخوال شخصية مألوفة، عبر ظهوره في مناسبات مجتمعية مثل الزفاف والختان أو تواجده في المقاهي والموالد والمناسبات العامّة الأخرى، وهناك يرقص مرتديًا مزيجًا من الملابس النسائية والرجالية، إذ يضع الكحل والحلي، ويؤنّث مظهره عمدًا. لذا فلم لم يكن شخصية هامشية أو مخفية، بل كان جزءًا أساسيًّا من الترفيه اليومي، خصوصًا في المدن الكبرى مثل القاهرة.
يرى بعض الباحثين أن ظاهرة "الخوال" كانت نتاجًا للفصل الجندري. وفي هذا الإطار تقول الباحثة الهولندية كارين فان نيوكيرك (Karin Van Nieuwkerk): جرى الاستعانة بالخوال بسبب الفصل الجنسي بين النساء والرجال... فقد اعتُبروا بدائل للراقصات في التجمعات الرجالية1. ووفقًا لهذا المنظور فإن ظهورهم في الفضاء العام لم يكن دليلًا على انفتاح اجتماعي، بل استجابةً للقيود المفروضة على حركة النساء وظهورهن العلني.
لكن للقصة أبعادًا أخرى تتجاوز هذا التبسيط، فبالعودة إلى الجذور اللغوية، نجد أن كلمة "خوال" كانت تُستخدم في العصور الوسطى للإشارة إلى الخدم أو العبيد الذكور. كثيرٌ من الخوال الأوائل أدّوا عروضًا ترفيهية من الرقص والغناء داخل القصور الملكية وبيوت النخبة. ولكن مع مرور الوقت تحوّلت هذه الممارسة إلى حرفة مستقلة تُنقل عبر التعليم والتدريب، ويمكن إيجاد أصحابها عبر أماكن سكنية معروفة، كما دفعوا الضرائب شأنهم شأن أصحاب المهن التقليدية في العصور السابقة، ويكشف هذا المسار التاريخي أن الخوالات لم يكونوا مجرد بدائل للنساء، بل أدوا دورًا فنّيًا واجتماعيًا قائماً بذاته.
تُستحضر صورة الخوال أحيانًا كدليل على ماضٍ كان فيه التنوع الجنسي والجندري أكثر حضورًا، وكأننا نملك تاريخًا أفضل من واقعنا اليوم. لكن هذه ليست حكاية رومانسية عن أسلاف يمكن تبنّيها بسهولة، فرغم شهرتهم وظهورهم في المناسبات العامة، ظلّ الخوالات على هامش المجتمع، إذ انحدر أغلبهم من الطبقات الفقيرة أو الأقليات من الغجر أو اليهود أو الأقباط أو الأرمن، لذا لم تكن المتعة ولا الأداء مجرّد تعبير عن الذات، إنما أقرب إلى وسيلة للعيش وربما البقاء حتى.
لم يُنظر إلى هؤلاء المؤدّين كمثليين جنسيًا بالمعنى المعاصر. وكما كان الحال مع الراقصات غالبًا ما افترض محيطهم أنهم متاحون جنسيًا، وهو افتراضٌ كان يتحقق أحيانًا سواء برغبتهم أو بدافع الضرورة. لم تكن اختلافاتهم الجندرية تُفهَم كهُويّة، بل كدورٍ اجتماعي يتشكّل عبر العمل والأداء الاستعراضي والتراتبيات الطبقية والعرقية والجندرية، إذ كان الخوالات مقبولين -بل مرغوبين ومحبوبين أحيانًا- لكن ضمن حدود اجتماعية معينة.
إن فهم شخصية الخوال يعني إدراك أهمية الالتفات إلى هوامش التاريخ، ليس فقط لاستعادة مَن طواهم النسيان، بل لفهم البُنى التي جعلت تهميشهم ممكنًا، فحتى السرديات التاريخية التي تزعم الانحياز للفئات المهمشة، كثيرًا ما تُعيد إنتاج معايير الاحترام السائدة، وتميل إلى التركيز على الرموز الواضحة للنضال والمواجهة. لكن ماذا عن أولئك الذين سكنت حياتهم الجسد والرقصة، خفّة المتعة وثقل العار؟ إن الخوال يربك الحكايات المألوفة عن المقاومة، ويفتح بابًا لفهم كيف تمّت مراقبة الأجساد وضبطت الرغبة وأعيد تشكيل المجال العام، فإن قصّته تكشف كيف أُعيد ترسيم حدود النوع الاجتماعي في سياق الاستعمار وبناء الدولة المصرية الحديثة، وكيف جرى إخراج أشكال البهجة من الحياة العامة باسم النظام والانضباط.
من الرقص إلى الرقابة
مع الوقت بدأت البهجة التي أثارها الخوال، والرغبة الكامنة في تمايلاته، والخط الذي محاه بين الأداء الاستعراضي والإغراء، تُقلق مجتمعًا على وشك التحوّل. رأت السلطات الاستعمارية البريطانية في هذا التسيّب الجندري انحلالًا أخلاقيًا ودليلًا على فساد الشرق المزعوم. صحيح أن بريطانيا لم تفرض في مصر "قوانين اللواط" التي استعانت بها في مستعمراتٍ أخرى2، لكن الاستعمار لا يعمل فقط عبر التشريعات، بل عبر تحوّلات ثقافية أعمق وأكثر تعقيدًا. ومع صعود النزعة الوطنية تبنّت النخب المصرية القيم التطهّرية ذاتها، انطلاقًا من حرصها على إثبات أهليتها للحكم الذاتي وبناء الدولة الحديثة، فلم تعتمد منطق الانضباط فقط بل عمّقته، لذا أصبحت شخصيات مثل الخوال -حيث تتقاطع وتذوب الحدود بين الجندر والطبقة والعرق- عبئًا، ومن هنا كان لزامًا محو الطبقات الدنيا وتجسيداتها الفوضوية. ومع مطلع القرن العشرين، بات الخوال من بقايا الماضي وتحوّلت الكلمة نفسها إلى إهانة.
لماذا اختفى الخوال؟ لأنه شكّل تهديدًا للنظام الجديد الذي فرضه الاستعمار والحداثة القومية، فكما يشير المؤرخ ويلسون شاكو جاكوب (Wilson Chacko Jacob)، كان تحوّل مدلول "خوال" من راقصٍ إلى شتيمة في الشارع جزءًا من مشروع تطهير الخيال الوطني الجديد، إذ لم يكن هناك مكان للنعومة أو الغموض الجندري أو الجسد الحسي، بل تصدَّر الساحة نموذج الرجولة المنضبطة والعسكرية التي تطلّبتها الدولة الحديثة في مصر. الخوال بخرزه الملون وتمايله، بإغرائه وغموضه، كان لا بد أن يُمحى لإفساح المجال أمام المواطن الذكوري المستقيم "الأفندي"3.
بحلول منتصف القرن العشرين، بدأت ملامح جمالية رقص جديدة بالتشكل - أعادت رسم الحركة بوصفها عصرية وصحية ومحترمة اجتماعيًا. وكما أشار الباحث أنتوني شاي (Anthony Shay) تأسّست فرقة رضا، أول فرقة فولكلورية ترعاها الدولة في مصر عام 1959، وقدّمت رؤية "منقحة" للهوية الوطنية4. شملت عروضهم راقصين وراقصات، لكن بدلًا من اللعب على حدود الجندر، أعادت تأكيد نموذج ثنائي مغاير للجنس ومقبول اجتماعيًا. كان الرجال مستقيمين وذوي بنية رياضية، والنساء رشيقات ومحتشمات. اختفت الليونة الجندرية والإغراء اللّذين ميّزا الرقص الشعبي ذات يوم. في هذه اللوحات الراقصة، كانت الرجولة والأنوثة مُفصّلتين بعناية، وأصبح الرقص أداة لتأكيد هوية مصرية جديدة. استمر الجسد في الرقص وإن حُرِّم عليه أن يُشتهي.
يُذكّرنا الخوال بأنّ التنوع الجندري لم يكن دائمًا محصورًا في الأطر الغربية للهوية. هل كان فنّان دراغ؟ مثليًا؟ امرأة عابرة جنسيًا؟ الخوال لا يندرج تحت أيٍّ من هذه التصنيفات الحديثة. لم يكن "هوية" بل دورًا عاملًا في مجال الترفيه والمتعة، غالبًا ما انتقلت مهنته بالتعليم والممارسة أو الوراثة. كانت كويريّته متجسدة وسياقية: يُعرَف بما يفعله لا بما "هو عليه". في عالمه لم تكن الذات حقيقة داخلية، بل سلوكًا اجتماعيًا يُمارَس ويُجسَّد. لكن الحداثة فرضت منطقًا جديدًا يركّز على التماسك والخصوصية والحقيقة الداخلية. وفي خضم هذا التحوّل أصبح الخوال شخصية عصية على التصنيف؛ حضوره فائض لا يُحتوى ولا يُؤطر. لم يعد صالحًا لمجتمع يُحبّ النظام، ويخاف من الالتباس، ويريد كل شيء أن يكون مهذّبًا ومفهومًا من الوهلة الأولى.
لكن ما يُقمَع لا يختفي بالضرورة، إذ يعود أحيانًا بشكل فاضح ومفاجئ عبر جسد فنّان على مسرح عالمي.
حين ينهض المنسيّ
ماذا يعني أن يتحوّل نجمٌ شعبيّ إلى وعاءٍ لشخصيةٍ منسيّة؟ ولماذا أثارت رقصة واحدة في كوتشيلا هذا القدر من الذعر الثقافي العابر للطيف السياسي من المحافظين إلى التقدميين؟ هذا الهلع لم يبدأ مع بدلة الرقص الشرقي وعباءة "العنخ" التي ارتداها رمضان، بل سبقه حدثٌ آخر كشف جانبًا مظلمًا من النفس الوطنية والذي كان شغفٌ بالتلصّص وميلٌ جماعيّ للمراقبة من خلف الستار يتبعه استنجادٌ باسم الفضيلة، وذلك عبر بلاغات عن "خدش الحياء" و"الاعتداء على قيم الأسرة". إنه نوعٌ من المشاركة المشروطة: نشاهد، ننتشي، ثم نُدين. شهوةٌ معلّقة بين الرغبة والإنكار، تتغذى على الفضيحة لكنها تحافظ على مسافة أخلاقية آمنة.
في عام 2022 أدّى تسريب مقطعٍ جنسي إلى وضع محمد رمضان تحت مجهر الرأي العام، وقد انتشر المقطع المهتزّ والغامض عبر الدردشات ومواقع التواصل مرفقًا بتعليقات وتكهّنات مفادها أن رجلان يمارسان الجنس أحدهما كما أُشيع هو رمضان. لكن حقيقة كونه هو أم لا ليس أمرًا هامًا. غير أن الأمة تخيّلت وانشغلت، ففي مصر حيث تتسلّل الرغبات المثلية إلى نسيج العلاقات وتُقابل رغم ذلك بالوصم والتجريم، وجدنا أنفسنا أمام المحرَّم الذي لا نتوقّف عن التحديق فيه، حتى ونحن نتظاهر بالاستنكار. نُحدّق بشيء من الفضول ومن الخوف ومن الرغبة أيضًا.
وقتها لم يكتف رمضان بالنفي فقط، بل قدم استعراضًا لرجولة مفرطة ترتكز على ثرائه الفاحش، إذ قال ساخرًا: "أنا ما بركبش رجالة، أنا بركب لامبورغيني". وبعد حفلة كوتشيلا أوضح أنه لم يكن يرتدي حمّالة صدر، بل هو مَن ينزعها عن النساء. لم تكن ردوده مجرّد نفي، بل تأكيدًا على الصعود الطبقي والتباهي بالفحولة. لكن شيئًا ما تصدّع، فمجرد الحاجة إلى الرد وصياغة عبارة أقرب إلى النكتة منها إلى الدفاع، كشف هشاشة أدائه للرجولة.
لم يكن الأمر مجرّد تحريكٍ للخصر، بل هو متعلق بمَن فعل ذلك وفي أي سياق. السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان محمد رمضان يستحق الهجوم، بل لماذا لامس ذلك المشهد وترًا حساسًا في الوعي الجمعي؟ من يُسمح له أن يرقص؟ وأين؟ ومن تُقبل رقصته؟ وما هي الحكايات التي تُروى من خلال الجسد عندما يتحرّك؟
كما يكتب ستافروس كاراياني (Stavros Karayanni) فإنّ الرقص الشرقي يُربك السلطة الاستعمارية والوطنية إذ تنكسر الهيبة الرسمية أمام فتنة لا يمكن كبحها5. وقد جسد رمضان ذلك تمامًا حين صعد إلى خشبة مسرح كوتشيلا، إذ أيقظ شيئًا كان مكبوتًا لكنه لم يُحلّ بعد، وهو ما نتج عنه انتشار منشورات تقارنه بالخوالات التاريخيين والتي تسخر وتتذكر وتتملّص. مشهد رجلٍ يرقص بإغراء مرتديًا زيًّا أنثويًّا استدعى سلالة يدّعي كثيرون أنها اختفت، لكنها ما تزال تسكن اللاوعي الثقافي.
وهنا تكمن المفارقة الأخيرة؛ فمحمد رمضان بكل ما لديه من ذكورية مفرطة وأحلام لامبورغيني، يستحضر ما حاولت الأمة دفنه طويلًا. صار خللًا في الزمن. بوّابة. صدًى فاضحًا ولامعًا للخوال.
- 1
Karin van Nieuwkerk, A Trade like Any Other (University of Texas Press, 1995), 33
- 2
Alok Gupta, This Alien Legacy: The Origins of ‘Sodomy’ Laws in British Colonialism, Human Rights Watch (New York, 2008)
- 3
Wilson Chacko Jacob, Working Out Egypt (Duke University Press, 2011), 179
- 4
Anthony Shay, “The Male Dancer in the Middle East and Central Asia,” Dance Research Journal, 38, nos. 1 & 2, 2006, pp. 137-162.
- 5
Stavros Stavrou Karayanni, Dancing Fear & Desire: Race, Sexuality and Imperial Politics in Middle Eastern Dance (Waterloo, Ont.: Wilfrid Laurier University Press, 2004), pp. 24-25
إضافة تعليق جديد