في سنة 1978 نشر الناقد السينمائي البريطاني روبرت وود والذي اشتهر بكتاباته النقدية القيمة عن مخرجين كبار من أمثال ألفرد هتشكوك، انجمار برجمان وهوارد هوكس مقالاً بعنوان "مسؤوليات ناقد سينمائي مثلي" في مجلة "فيلم كومنت" الأمريكية المتخصصة في النقد والتحليل السينمائي والثقافة الحديثة1 . لأسباب كثيرة، كان هذا المقال القصير نسبيًا علامة فارقة في مسيرة مؤلفه الفكرية، وفي علاقته مع السينما التي عشقها وامتهن الكتابة عنها، وكذلك في علاقته مع قرائه. ورغم مرور أكثر من 40 سنة على صدور هذا المقال، ورغم كل الحروب التي تجرّأ الفكر النسوي والكويري على خوضها في تلك السنوات الأربعين، وكل ما طُرح من إمكانات بديلة لفهم العالم وتفنيد تصورات وأليات القمع القيمي، ما زلت أجد في منهج المقال وأفكاره رؤية كويرية أصيلة للسينما ودورها، ولموقف الناقد/المشاهد منها، وعلاقته بذاته وبالمجتمع الذي يعيش فيه، وهي رؤية سابقة لعصرها؛ فالكويرية في وقت صدور المقال لم تكن معروفة كاصطلاح أو كنظرية.
والحقيقة أنه عادة ما جرت قراءة هذا المقال باعتباره موجهًا لقرّاء روبرت وود المطّلعين على وجهات نظره في السينما، فكاتب المقال يعيد تقييم كتاباته النقدية السابقة من منظور شخصي تأملي، ويتطرق فيه لمتغيرات في حياته الخاصة متجاوزًا أعراف النقد السينمائي التقليدي. رغم مشروعية هذه القراءة، فإنها لا تعطي المقال حقه المستحق بتجاهلها لما فيه من طرح منهجي يتجاوز حياة روبرت وود الشخصية وأعماله، يتجاوز حتى النقد السينمائي كنمط من أنماط الكتابة المتخصصة إلى أنماط أخرى وميادين أرحب للتفكير النقدي في عمومه، حتى لو جاء ذلك بصورة ضمنية غير واضحة المعالم والتفاصيل.
**
أول ما استوقفني في مقال وود هو فهمه وتوظيفه لمصطلح gay أو مثلي، بصورة تتخطى فكرة الهوية الجنسية وتنظر للجنسانية باعتبارها مُسيّسة بالضرورة، فالمثلي (والمثلية) في نظره ليس من كانت ميوله الجنسية والعاطفية موجهة لنفس الجنس فحسب، بل هو "من يعي أنه ينتمي للأقليات المقهورة في مجتمعه، ومستعد لمواجهة تداعيات ذلك نظريًا وبالممارسة". فالجنسانية غير المعياريّة لا يمكن فصلها عن تفكير صاحبها أو صاحبتها، ولا عن الأوضاع المجتمعية والسياسية التي تحرمها وتقهرها، وهي تتشارك وسواها من طرائق العيش والوجود المحرمة والمقهورة تاريخًا من التهميش والرفض المجتمعي يوحد جبهات المقاومة.
واستوقفني ثانيًا إخراجه للنقد من نطاق الموضوعية المنهجية وتشكيكه في أصالة فكرة وجود معايير جمالية وفنية عامة ومجردة، يرجع إليها الناقد وهو يضع رؤيته عن الفيلم، دون أن تلعب قناعات ذاته، ورغباته، وظروف عيشه بالضرورة دورًا في ذلك. بل إن روبرت وود يدعو قراءه إلى النظر إلى كتاباته التي تبنّت هذا المنهج قبل خروجه من الخزانة باعتبارها محاولات لقمع الذات أو تزييفها. وهو ثالثًا، حين يقترح رؤية ذاتية بديلة للنقد، لا تتنكر لمثليته بل تستوحي منها انطباعاتها وأدواتها التحليلية، فهو لا يقصد بذلك أن تقتصر مهمة الناقد المثلي/الكويري على الكتابة عن تلك الأفلام التي تتناول بشكل مباشر شخصيات مثلية ورغبات غير معيارية، فهذا في رأيه يحجّم النقد البديل ولا يطوره وقد يعزل النماذج غير المعيارية أكثر ويزيد من نمطيتها بدلاً من كسرها.
آفاق وجهة النظر البديلة المطروحة هنا أكثر شمولًا ورحابة من مجرد رصد النماذج والممارسات غير معيارية الجنسانية في السينما. فالقضية ليست إذا ما كانت تلك النماذج قد قُدمت على الشاشة أم لا، أو في الكيفية التي ظهرت بها تلك النماذج إذا كانت قد قُدمت بالفعل والدور الذي تلعبه في القصة السينمائية. القضية هي المفاهيم التي تؤصّل لمعياريّة الحب، والجسد، والجنسانية والنوع الاجتماعي في السينما أو تسائلها، إما صراحة أو بصورة ضمنية، ثم دلالات ذلك سياسيًا ومجتمعيًا، سواء تناولت الأفلام نماذج من شخصيات غير معيارية الجنسانية أم لا.
لو أردنا الانطلاق من تلك النقاط الثلاثة ورسم معالم رؤية كويرية لتاريخ السينما العربية الكلاسيكي والمعاصر، تستلهم ما ذكره روبرت وود وتتجاوزه ثقافيًا وتاريخيًا كذلك لتعكس خصوصية التجربة العربية، فسوف يعنى ذلك أن كويرية المشاهدة والمشاهد العربي ولا معيارية جسدهما أو جنسانيتهما ليست مجرد أمر شخصي بحت لا علاقة له بالصورة المعروضة ومحتواها الأيديولوجي، بل يصبح الوجود الكويري واللامعياري في حد ذاته محفزًا أصيلا لمشاهدات ناقدة، تفكك البنيات السلطوية والذكورية المتضمنة في السرد والصورة، وتكشف آليات القمع القيمي التي تتخفى بكياسة بين جنبات المحتوى السينمائي الجمالية والدرامية.
صحيح أن الكويري والكويرية العربية إذا ما أرادا مناقشة الأفلام أو الكتابة عنها، لا يملكان دومًا امتياز تعرية الذات والخروج من الخزانة كما هو الحال مع وود، إلا أن هذا الغياب للحرية ومخاطر الاضطهاد والإقصاء المتزايدة قد تصبح ما يدفع المرء في النهاية إلى اللجوء لصور ملتبسة ولكن مبدعة للإفصاح عن الذات، وتجريب أشكال مبتكرة للتفاعل مع الصورة السينمائية، ليس بالكتابة وحدها، بل بمختلف الممارسات التعبيرية.
فرغم ما يحتوي عليه تاريخ السينما والدراما العربية من خطابات ذكورية قمعية مختلفة التوجهات والمستوى، إلا أن هذا التاريخ السينمائي نفسه، ربما رغمًا عنه ودون قصد من صنّاعه، قد تحول إلى مساحات للتحرر تبرز في محاولات كويرية للتماهي معه، أو للتهكم عليه وتفكيكه من سياقاته وقصصه الأصلية ثم إدماجه في سياقات ذاتية بديلة. فنرى مثلا أن العشرات من نجمات السينما العربية بدءًا من صباح وشادية وفاتن حمامة، مرورًا بنبيلة عبيد ونادية الجندي وشريهان وسهير البابلي، قد صرن نماذج ملهمة للكويريات والكويريين العرب، يحررن بظهورهن على الشاشة، وبحديثهن وأدائهن، طاقات التماهي معهن ومجاوزة معيارية شكل الجسد الذكوري وأدائه إلى آفاق بديلة متخيلة2 بل ومتجاوزة سرديات الأفلام نفسها وما كرسته في أغلبها من صور نمطية للذكورة والأنوثة.
والمتابع لمواقع التواصل الاجتماعي، سيجد نماذج بصريّة مبتكرة من التهكم والسخرية والنقد الاجتماعي، يمكن وصفها بالكويرية، تقتبس محتواها من السينما والدراما العربية ولكنه اقتباس معارض، عادة ما يضاف إليه تعليق مكتوب على المحتوى البصري بصورة يخرجه من سياقه الأصلي ويمنحه دلالات بديلة.
ما نحن بصدده هنا يمس في الأساس فعل المشاهدة ذاته، آفاق التفاعل والتماهي مع الأفلام قبل آليات الكتابة عنها، بهدف تفكيك محتواها لا تفسيره، معارضته لا إعادة إنتاجه. وهو يمثل موقفًا تحرريًا وسياسيًا قبل أن يكون منهجًا في النقد، موقفًا شخصيًا يبقى لصاحبه أو صاحبته الحرية المطلقة في اختيار كيفية وأسلوب التصريح به أو التعبير عنه، إنه ما يمكن أن نطلق عليه المشاهدة الكويرية للسينما.
لا يجب أن تقتصر المشاهدة الكويرية للسينما العربية على رصد الشخصيات لامعيارية الجنسانية على الشاشة وتعامل المخرجين وكتاب السيناريو مع قضايا المثلية والتحول الجنسي فحسب (على سبيل المثال لا الحصر أفلام مثل: الآنسة حنفي، الطريق المسدود، حمام الملاطيلي، السكرية، جنون الشباب، اسكندرية ليه، المهاجر، الراقصة والسياسي، عمارة يعقوبيان) بل تتجاوز ذلك إلى مساءلة التصورات المعيارية التي احتوتها السينما وما عاملته باعتباره طبيعي أو صالح أو شريف أو سويّ أو مثالي.
هناك على سبيل مثال التصورات الخاصة بشكل الحب والزواج بين الرجل والمرأة معياريي الجنس والجسد الذي روجته السينما وعكس تطوره بالضرورة تطورات المجتمع العربي ومتغيراته السياسية في الحقب المختلفة. فهناك نموذج الأسرة النواة، برجوازية الذوق والأخلاق كما قدمها فيلم "الطريق المستقيم" إنتاج سنة 1943 وإخراج توجو مزراحي، وفيه نرى الزوج موظف البنك الناجح (يوسف وهبي) والزوجة (أمينة رزق) مطيعة إلى أبعد الحدود، ومخلصة إلى حد التسامح مع خيانته، ترعى الأبناء وتوفر لهم وسائل الراحة والسعادة في البيت، إلى أن تقتحم حياتهما المغنية اللعوب (فاطمة رشدي) وتسقط الزوج في شباك فتنتها فيتخلى عن زوجته وبيته محطمًا بذلك الرباط الأسري "المقدس" فينتهي به الأمر بأن يخسر كل ما يملك؛ كابوس مشاهدي الطبقة المصرية المتوسطة.
وهناك نموذج قصة الحب الرومانسي الذي يظل محكومًا بالأخلاقيات البرجوازية رغم تجاوزه للفروق الطبقية بين الفتاة الغنية والشاب الكادح والفقير. ظهر هذا النموذج في أفلام عديدة خلال الحقبة الناصرية في مصر أبرزها "رد قلبي" إنتاج سنة 1957 وإخراج عز الدين ذو الفقار والذي يفوز فيه الضابط الوطني ابن الجنايني (شكري سرحان) بقلب مخدومته ابنة الباشا (مريم فخر الدين)، ورغم تورّطه في علاقة "غير شرعية" مع الراقصة كريمة (هند رستم) ونيته للزواج منها، إلا أن حريق القاهرة ينهي حياة كريمة ثم تأتي الثورة وتعيد الأمور إلى "نصابها الصحيح" ويتزوج الضابط من حبه "الطاهر" القديم بعد زوال الفوارق الاجتماعية.
وهناك نموذج العلاقة المتحررة كما ظهرت على سبيل المثال في فيلم "الخيط الرفيع" إنتاج سنة 1971 إخراج هنري بركات وبطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين معبرة عن نقلة نوعية في شكل ومعايير علاقات الحب وكاشفة عن نهاية لقناعات أخلاقية وتصورات ذكورية أنانية، أفقدها زلزال النكسة وسقوط الناصرية مصداقيتها.
مع أن السينما العربية روجت على مدى تاريخها لنماذج جسدت مفاهيم الرجولة والأنوثة بشكل معياري، وربطتها بصريًا ودراميًا بكتالوج من المواصفات الجسمية والنفسية، خالقة لأسطورة فتى الشاشة وفتاتها التي تتباين صورتهما في أحيان كثيرة مع الصور الجسدية والنفسية المنقوصة التي تظهر بها الأدوار الشريرة والأدوار الثانوية إلا أن مواصفات فتى الشاشة وفتاتها في السينما العربية قد تغيرت بشكل مطرد من كمال الشناوي وفاتن حمامة إلى محمد رمضان وياسمين عبد العزيز، كما تنوعت مفاهيم الأنوثة والذكورة وطرائق التعبير عنها باختلاف المخرجين والفترات التاريخية دون تخطي حاجز المعيارية والنمطية إلا في حالات استثنائية قليلة.
هذه النماذج السينمائية وغيرها بحاجة إلى التحليل النسوي والكويري للتساؤل عمّا تعكسه من مفاهيم وتصورات، عمّا تقمعه السينما أو لا تبيح لنفسها الخوض فيه في ظل ما يحكمها من بنيات سياسية واجتماعية، عمّا قد تتيحه كذلك من مساحات خجولة أو جريئة للثورة على المفاهيم التقليدية في بعض الأحيان، عن تأثيرها في المشاهد وتأثرها باعتبارات المجتمع الذي تتفاعل معه وظروف مرحلته التاريخية، عن معيارية اللغة السينمائية وجمالياتها في إظهار الحب، في تعاملها مع الأجساد، مع الظل والنور، مع أزياء الممثلة والممثل ومكياجه، مع طريقته في الحديث والأداء وعلاقة حركته بما يدور حوله في المشهد وعلاقة الكاميرا به. عن تشابكات كل ذلك بالمعطيات السياسية ومتغيراتها وبالفروق الطبقية والإثنية. كل هذه ميادين للتحليل يمكن للمشاهدة الكويرية الناقدة أن تخوض فيها، أن تطرح حولها تساؤلات وتحاول البحث فيها والإجابة عنها، لا بحتمية قطعية ولكن بصورة تسمح بتعددية التفسيرات لتحرير أنفسنا من القمع المعياري، ولطرح بدائل تُعلي من قيمة الاختلاف ومن الحق في التعبير عنه.
إضافة تعليق جديد