علم النفس النسوي: تأريخٌ لاسترداد قوّتنا المُستلَبة

هل ثمة تاريخ غير مروي للنساء في علم النفس؟ هل هناك دورٌ آخر أدّته النساء غير أن يكنّ "مريضاتٍ" أو مستقبلاتٍ للخدمة العلاجية أو فأرات تجارب؟ لماذا تُعالَج النساء بعلمٍ لم يشاركن أنفسهنّ في إنتاجه وبنائه وتكوينه؟ ولماذا لا يُعترف بهنّ وبمنجزهنّ العلمي في المجال ذاته؟ ريهام عزيز الدين تحاول الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها في هذا البحث الاستكشافي.

حين يأتي ذكر العلاج النفسي، دائمًا ما يقفز اسم سيغموند فرويد (Sigmund Freud)، وربما يكون مُحاورنا أكثر اطّلاعًا فيُضيف بعض الأسماء الأخرى مثل كارل يونغ (Carl Jung)، كارل روجرز (Carl Rogers) وأوليفر ساكس (Oliver Sacks). لكن المشكلة هي أنّ الأسماء ذاتها تُطرح من دون أن نضع على الطاولة أيضًا أسماء طبيباتٍ لديهنّ مُنجزٌ معرفي في هذا التخصّص الدقيق. هل ثمة تاريخ غير مروي للنساء في علم النفس؟ هل هناك دورٌ آخر أدّته النساء غير أن يكنّ "مريضاتٍ" أو مستقبلاتٍ للخدمة العلاجية أو فأرات تجارب؟ لماذا تُعالَج النساء بعلمٍ لم يشاركن أنفسهنّ في إنتاجه وبنائه وتكوينه؟ ولماذا لا يُعترف بهنّ وبمنجزهنّ العلمي في المجال ذاته؟ كيف يمكننا قراءة المعرفة التي أُنتجت في علم النفس والعلاج النفسي تحديدًا إن لم نكُن نسوياتٍ ونسويّين؟ ما معيار تقييم فاعلية النساء في هذا المجال، هل هو عدد الطبيبات الملتحِقات بالتخصّص مقارنةً بالرجال، أم عدد الطبيبات الحاصلات على الدكتوراه في التخصّص ذاته، أم عدد الطبيبات القادرات على تأسيس مدرسةٍ خاصةٍ بهن؟ هل يحتكر الرجال المعرفةَ المُنتَجة في مجال العلاج النفسي كما يحدث في شتى أنواع المعرفة؟ كيف يمكن تفعيل دينامية نقل المعرفة عن النساء إليهنّ إن لم يشاركن هنّ في إنتاج تلك المعرفة انطلاقًا من عوالمهنّ الذاتية؟

هذه تساؤلاتٌ قد لا تتسع لها مقالةٌ واحدة، لكنها تظل مشروعة. حين بدأتُ أبحث في علم النفس النسوي كانت تعتريني شكوكٌ كثيرة: هل هو مجرد إلصاقٍ جديدٍ لمصطلح "نسويّة"؟ أم أنّ هناك تاريخٌ كاملٌ وجوانب غير مكتشفةٍ يمكنها تقديم بعض الإجابات على التساؤلات أعلاه؟ فلنكتشِف معًا.

تاريخ علم النفس النسوي

ابتدعت الطبيبة النفسية الألمانية كارين هورني (Karen Horney) مصطلح "علم النفس النسوي"، وهي تُعدّ رائدة هذا التخصّص من خلال ما قدمته من أوراقٍ بحثيةٍ بلغ عددها أربعة عشر بحثًا بين عامَي 1922 و 1937، استكشفَت فيها معنى علم النفس النسوي. وفي عام 1967، جُمِعت هذه الأبحاث ونُشِرت في كتابٍ يحمل عنوان التخصّص: 'علم النفس النسوي'. قدّمت هورني في بحثها المنشور عام 1935 بعنوان "معضلة الماسوشية النسائية" خريطةً مقترحةً لتفكيك علم النفس بصورته التقليدية آنذاك، لتُعاد قراءته في ضوء فهم الأنماط السلوكية للنساء. كما تقصّت دور الثقافة المجتمعية في تشجيع النساء ليصبحن أكثر اعتمادًا على الرجال عاطفيًا بُغية الحصول على الحب، والصورة الاجتماعية المقبولة، والثروة، والاهتمام والحماية. كما أن استكشاف دينامية الصوَر التي تختزنها المرأة عن ذاتها وتحرّكها من أجل البقاء والحصول على القبول المجتمعي، وفقًا لقول هورني، تأتي من صورةٍ صنعها الرجل عن المرأة كشيءٍ هشٍ ورقيقٍ وجميل، وهو تأطيرٌ يتنافى واحتياج الإنسانة إلى الوعي بذاتها وكُليّتها.

ركّزت هورني في مجال بحثها على استكشاف الدور الذي يؤدّيه العقل الواعي، لا فقط المكبوت في اللاوعي

لم تكن هورني صوتًا يأتي من فراغ العدم أو يحاول إثارة ضجةٍ مفتعلةٍ في ذلك الوقت، بل على العكس من ذلك، فمُنجزها المعرفي يضرب بجذوره في مراحل ما قبل تأسيسها علم النفس النسوي. كانت هورني بين الفاعلين والفاعلات في الجبهة النقدية لما قدّمه فرويد، إذ على الرغم من اتفاقها معه في مناحٍ رئيسةٍ عدّة، احتفظَت بهامشٍ للتفكير استطاعَت من خلاله أن تعارض مدرسته في التحليل النفسي. ومن أهم نقاط نقدها لفرويد، اعتقادها بوجود عوامل كثيرةٍ تؤدّي إلى اضطراب الشخصية، تأتي من الظروف المجتمعية المحيطة، لاسيّما في مرحلة الطفولة المبكرة. وركّزت هورني في مجال بحثها على استكشاف الدور الذي يؤدّيه العقل الواعي، لا فقط المكبوت في اللاوعي. كما ناهضَت مفهوم فرويد عن غيرة النساء من الرجال وما أسماه بـ"حسد القضيب"، قائلةً بوجود حالة "حسد الرّحم" الذي يثير أيضًا الغيرة لدى الرجال المضطربين، مفسّرةً رغبة الرجل في النجاح والإنجاز والتحقق كبدائل يصنعها اللاوعي لتعويض عدم قدرته على الخلق، والولادة ورعاية الأطفال. كما ساءلَت هورني سردية "عقدة أوديب" المهيمِنة التي تبنّاها كثيرٌ من تلامذة فرويد في التحليل النفسي، واستعاضَت عنها بسرديةٍ بديلةٍ تفيد بأن التعلّق بأحد الوالدَين ونشوء مشاعر الغيرة من الوالد الآخر، ترجع إلى القلق الناجم عن اضطراب العلاقة الوالدية في مرحلتها المبكرة، لا عن العقدة الأوديبية المتوارثة في التحليل النفسي. 

بالرغم من انقطاع هورني في منتصف الثلاثينات عن تطوير أبحاثٍ خاصةٍ بعلم النفس النسوي، استمرّت في تطوير بحثها في العلاج النفسي مُؤسِّسَةً "نظرية النضج" ككُلٍ إنساني غير محدّد الهوية الجندرية. يقدّم برنارد باريس (Bernard Paris) - كاتب سيرتها الذاتية - فرضيّته بشأن هذا الانقطاع قائلًا: "بدَت هورني كمَن فقدَت الشغف، لربما لم تكن في حقيقة الأمر نسوية، على الرغم من اعتبارها بما لا يدعُ مجالًا للشك، رائدةً في تقديم رؤيةٍ نقديةٍ للبطريركية الفكرية و"مركزية القضيب" المهيمِنة في التحليل النفسي سواء في ثقافة مجتمعها حينذاك، أو في ثقافة التعلم التي لم تختلف كثيرًا". ويذهب باريس إلى حدّ القول إنّ مناهضتها لمُنجز فرويد المعرفي ساهم كثيرًا في تمهيد الطريق وإلهام المعالِجات النسويات لاحقًا، حتى وإن لم تنخرط هي ذاتها كفردٍ في الصراع السياسي أو في الحركة النسوية الجَمعية". ويردف قائلًا إن إسهام هورني في فهم الشخصية الإنسانية عبر ما طرحَته في "نظرية النضج" يُعد إسهامًا لا يُستهان به في تطوّر البحث النفسي، غير أنه لم يلقَ اعترافًا يليق به.

ضربةٌ لصحة النساء النفسية 

كما ذكرنا سالفًا، توقفَت هورني عن تغذية أبحاثها في علم النفس النسوي مع نهاية عام 1937، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية قرابة عامَين. تغيرَت خريطة الصحة النفسية جرّاء الحرب، غير أنها بلغت خطورتها عام 1942 حين استحدَث عالم النفس الأميركي إدوارد ستريكر (Edward Stricker) مفهوم "الالتصاق بالأم" الذي يُعنى بالتصاق الصبية الذكور بأمهاتهم إلى حدٍّ يعطّل نضجهم كـ"رجال"، وقد أُدرجَ ذلك المفهوم كعَارضٍ مَرضي ضمن مؤشرات الاضطراب النفسي لدى منظمة الصحة الأميركية آنذاك. كان يمكن لهذا الكشف أن يمشي جنبًا إلى جنبٍ مع مسار النظرية النسوية الساعية إلى تحرير النساء وعدالة الحقوق، لكن المثير للدهشة هو أنه دفع بمسار علم النفس نحو الاعتقاد باحتياج النساء إلى مزيدٍ من "العلاج النفسي" باعتبارهنّ أصبحن نساءً "ذوات نزعةٍ ذكَرية" وأمهاتٍ يُعطلن تطوّر "رجولة" أبنائهنّ الذكور. كما جرى تحويل مسار البحث في ذلك الوقت إلى التمترس خلف الأدوار التقليدية للمرأة كـ"أم" والشكل المُتعارف عليه للأسرة كوحدةٍ اجتماعية. أكثر من ذلك، اعتُبِر امتلاكُ المرأة أفكارًا مستقلةً وسعيها إلى تحقيق ذاتها خارج المنزل بحثًا عن السعادة، مؤشراتٍ خطيرةً تهدد المجتمع.

علم النفس النسوي: استرداد القوة 

شهدَت فترة السبعينيات حراكًا واسًعا عكَس التقاء النظرية النسوية بعلم النفس، وانطلق من مدينة تورونتو في كندا. صنع هذا الحراك جسرًا لالتقاء قضايا نفسيةٍ ومجتمعيةٍ في إطارٍ نسوي بلا مواربة، مثل قضية الإجهاض. وفي عام 1971، قدّمت الأكاديمية والمعالجة النفسية النسوية إستر غرين غلاس (Esther Greene Glass) بحثًا علميًا استمر قرابة خمس سنوات، جمعَت فيه مقابلاتٍ عديدةً عمّا كان يتداوله المجتمع الكندي حينذاك من سردياتٍ وأساطير مجتمعيةٍ بشأن الآثار النفسية للإجهاض. نُشرت الدراسة لاحقًا عام 1976 في كتابٍ مستقلٍ بعنوان "بعد الإجهاض"، وساهمَت في تحدي القانون الكندي الخاص بالإجهاض آنذاك. في الفترة ذاتها، أنتجَت الأكاديمية والنسوية الكندية نورا روك (Nora Ruck) بالشراكة مع الفنانة النسوية الأميركية إيرين بيسليكس (Irene Peslikis) سلسلة مقالاتٍ بعنوان "تحرير العقول - زيادة الوعي بين النسوية وعلم النفس في السبعينات"، أكّدتا فيها أن ازدياد الوعي بتقاطع النظرية النسوية مع علم النفس من شأنه التقليل من حدّة التوترات الناجمة عن التباس ما هو شخصيٌ وما هو سياسي. استطاعت كتابات روك وبيسليكس أن تمنح علم النفس النسوي موضعًا أكثر وضوحًا عبر الإشارة إلى قدرة الوعي بذلك التقاطع على تقديم تفسيراتٍ ثريةً للممارسات اليومية حتى خارج غرفة العلاج، بل والمساعدة في إنتاج وتطوير المعرفة العلاجية المؤسّسية. ويمكن لكل ذلك أن يتحقق عن طريق إفساح المجال أمام النساء لدراسة تخصّص علم النفس النسوي بالتزامن مع تموضعهنّ في الفضاءات العامة الأخرى، كي يمتدّ تأثير العلاج النفسي إلى خارج غرفة العلاج وعوالم النساء الذاتية، توصّلًا إلى اقتلاع القمع المُتوارث من جذوره الضاربة في المجتمع والمتجسّد بوضوحٍ ضد النساء.

ازدياد الوعي بتقاطع النظرية النسوية مع علم النفس من شأنه التقليل من حدّة التوترات الناجمة عن التباس ما هو شخصيٌ وما هو سياسي

تستمرّ حتى الآن عملية استرداد القوة لعلم النفس النسوي مصحوبةً بتطوّرٍ في مساره البحثي. وتركّز الأبحاث المعاصِرة على مسائل استكشاف المشاعر كموضوعٍ رئيسٍ لا تتفرّد به النساء حصرًا، بل تدعو إليه الحاجة في المجتمعات كافة. ووفقًا للمقاربة النسوية، يصبح مسار المشاعر مسرحًا للهيمنة المجتمعية على النساء، وبخاصةٍ حين يوصَفن ويوصَمن بكونهنّ "عاطفيات". هذه الأبحاث المغايرة والحديثة تدحض النظرية القديمة القائلة بوجود اختلافاتٍ جندريةٍ في عملية الشعور، موضحةً أن الاختلاف لا يعود إلى اختلاف الجنس البيولوجي بل إلى اختلاف طريقة الإفصاح، أما اختبار الشعور في حد ذاته فواحدٌ لدى مختلف الأنواع الجندرية. وطريقة الإفصاح عن الشعور هذه تحدّدها إلى حدٍ كبيرٍ المتاريسُ المجتمعية التي يتمّ تأطيرها ثقافيًا على المستوى الجَمعي، وتنعكس نفسيًا على المستوى الفردي. كما تتناول الأبحاث أيضًا مسائل القيادة، والعنف الموجّه ضد النساء، والنظرية الثقافية العلاقاتية.

ساعدَت أبحاث علم النفس النسوي أيضًا في تخليص نساءٍ كثيراتٍ من الوقوع في شراك النمذجة/القولبة المجتمعية، كالأسطورة القائلة بأن المرأة تحتاج إلى الجنس "بدوافع عاطفيةٍ" أكثر من الرجل. فعلم النفس النسوي يكشف خطأ تلك الفرضية، مُثبتًا أن بإمكان النساء ممارسة الجنس من دون التورّط عاطفيًا مع الشريك/ة. ومن ناحيةٍ أخرى، في ما يتعلّق بالنمذجة المجتمعية عن كون النساء أكثر إغراقًا في مشاعر "الحزن" و"السوداوية" أو أكثر عرضةً للاكتئاب، يدفع علم النفس النسوي إلى استكشاف فرضيةٍ مقابلةٍ تفيد بأنّ لدى الرجال القدر ذاته من الشعور وأن لا فجوةً نوعيةً بين الفئتَين. إذًا، يمكن استخلاص أن مثل تلك المغالطات أحدثَت ضبابيةً وتشويشًا نفسيًا لدى النساء (Gaslighting) على المستوى الجَمعي، يماثل أشدّ الممارسات نرجسيةً على مستوى العلاقات الشخصية، ما يحثّنا على العمل لتحرير الهوية النفسية للنساء في المقام الأول، تليها هويات الآخرين، من كل استلابٍ سابق. 

تطور علم النفس النسوي نظريةً وممارسةً ليصبح مُرتكزًا على دراسة البُنى الاجتماعية والجندر، مؤسسًا لأهمية القراءة النقدية لكل ما قدّمه تاريخ البحث والمعرفة في مجال علم النفس، سواء لناحية إنتاج المعرفة من قِبَل الرجال أو هيمنة "الرجل" كوحدةٍ معيارية. يتبنى علم النفس النسوي القيم والمبادىء المؤسِّسة للنسوية، من المطالبة بالمساواة الجندرية وحقوق النساء، إلى بيان تأثّر صحة النساء النفسية في هذا السياق. كما يضع مسائل بارزةً أخرى تحت مجهر البحث والنقد مثل تعريف البشر لهويّاتهم/ن الجنسية والجندرية (مغاير/ة، مثلي/ة، لا جنسي/ة، عابر/ة جندريًا، ممتثل/ة جندريًا، مزدوج/ة الميول وغير ذلك)، تأثير ديناميات البُنى الاجتماعية أو منظومة البطريركية والتراتبية الجندرية على الأفراد والجماعات، دور الجندر في حياة الفرد وتسبّب الأدوار الاجتماعية المفروضة في اعتلال الصحة النفسية للنساء تحديدًا. يبقى هدف هذا التخصّص موضَعة الفرد في منظومةٍ مجتمعيةٍ وسياسيةٍ أكبر، مع الوعي بتشابك الديناميات المجتمعية بالغة التعقيد. تمنح القراءة النسويّة ذلك النسيج المتشابك معطياتٍ جديدةً قادرةً على تزويد الفهم والبحث بمساراتٍ أكثر تنوعًا وثراء.

كيف يمكن للخدمة العلاجية أن تتغيّر إذا ما أصبح/ت المعالج/ة "نسويًا/ةً"

قبل كتابة هذا المقال، انهمكتُ في متابعة قضيةٍ تفجّرت على الساحة المصرية منذ أيلول/سبتمبر 2020، فحواها اتهام أحد المعالجين النفسيّين بالتحرّش بمريضاته. ما زالت القضية قيد التحقيق، غير أن شهادات الضحايا تشير إلى أربع سنواتٍ من الانتهاكات. تثير تلك القضية في ذهني العديد من الأسئلة عن التجربة العلاجية مع طبيبٍ رجلٍ مقابل طبيبةٍ امرأة، ما يدفعني إلى مساءلة كيفية تغيّر الخدمة العلاجية إذا ما أصبح المعالج/ة "نسويًا/ةً". 

يتبنى علم النفس النسوي القيم والمبادىء المؤسِّسة للنسوية، من المطالبة بالمساواة الجندرية وحقوق النساء، إلى بيان تأثّر صحة النساء النفسية في هذا السياق

كما استعرضتُ آنفًا، يمكن لعلم النفس النسوي أن يقدّم الكثير في مجال الصحة النفسية للنساء تحديدًا، ويظهر ذلك جليًا في تحوّله من نظريةٍ إلى ممارسةٍ تُعرف باسم "العلاج النفسي النسوي". يعتمد العلاج النفسي النسوي على مساعدة النساء على تأكيد ذواتهنّ وإعادة تفكيك جميع الأنماط المعرفية - النفسية - السلوكية في مسارٍ للتعافي يعتمد على عدم قبول "المتاح" أو التكيّف/التفاوض معه. يستمد العلاج النفسي النسوي إطاره العلاجي من مبادىء النسوية، وأهمها: الشخصي هو سياسيٌ في جوهره؛ الالتزام بالنضال المجتمعي؛ الاحتفاء بأصوات الفتيات والنساء واحترامها؛ عدم مساءلة تجارب النساء أو التشكيك فيها ضمن سياق العلاج؛ والرفض الكلّي لكافة مظاهر وأساليب تعنيف الناجية. كما يحرص هذا الإطار العلاجي على مراجعة وإعادة مَوضعة النظرية النسوية بشكلٍ مستمرٍ في السياق المجتمعي وفي الوعي الثقافي الجَمعي، مع لَحظ تنوع المعطيات الجغرافية والتاريخية. 

لا شك في أن التجربة العلاجية تتحدّد بفعل عوامل عدّةٍ قد تبدأ قبل زيارة غرفة العلاج النفسي وطلب المساعدة، كما أنها تتطلب اتخاذ قراراتٍ تتعلق بجودة وكفاءة الخدمة المقدّمة. أتساءل هنا، هل يمتلك القائمون والقائمات على هذه الخدمات "وعيًا نسويًا" تتضاعف الحاجة إليه في حال كانت طالبة العلاج امرأة؟ فالأمر لا يتوقف عند الإلمام بما قدّمه علم النفس في بداياته عن سيكولوجية النساء، بل يتطلب وعيًا يتحوّل إلى لغةٍ وأدواتٍ وممارسةٍ وديناميةٍ قادرةٍ على رؤية الاستلاب النفسي للنساء داخل الغرفة العلاجية وامتداده خارجها.

هل يمكن للعلاج النفسي النسوي ترميم الصداقة في عوالم النساء؟

يحمل تاريخ النساء القديم وجوهًا عدةً من المساندة والدعم، بل وتبادل العلاج الشعبي أو الشاماني. ولعلّ أحد مفاهيم "العصر الجديد" هو تقديس القوة الأنثوية كقوةٍ شافيةٍ لـ"اللاوعي" الجَمعي المأزوم. لكن علم النفس النسوي يؤطّر بشكلٍ علمي وممنهجٍ ما أسمته الباحثة الأكاديمية والمعالجة النسوية وإحدى أبرز الناشطات في هذا المجال، لورا براون (Laura Brown)، "استعادة الصداقة القديمة في عالم النساء"،1 فالعلاج النسوي يقوم في جوهره على نقاط القوة، كما على مبدأ المساواة في دينامية القوة/السلطة بين المعالِجة ومتلقّية العلاج. في هذا السياق، تنطلق العلاقة العلاجية من نقاط القوة لدى المعالِجة أي خبرتها العلاجية، ونقاط القوة لدى المتلقّية أي فهمها لذاتها وخبرتها عن نفسها ووعيها بذلك. هكذا، تتخلّص متلقّية العلاج من المفهوم القديم القائل بكون المعالج هو "مانح" القوة أو "المنقذ"، فالقوة في العلاج النسوي تأتي من قدرة المعالِجة على جعل المتلقّية تستعيد الثقة في بوصلتها الذاتية وقوّتها المطمورة بفعل التشويش الخارجي من المجتمع. ولعلّ العلاقة العلاجية النسوية تُعدّ بوابةً يمكن للنساء تطبيقها على نطاقٍ أوسع بُغية فهم دينامية شتّى العلاقات المحيطة بهنّ، وإعادة قراءتها، وموضَعة ذواتهنّ لكسر النمط المشوّه (ضحية - منقذ) وانتزاع ما أُخذ منهنّ عنوةً عبر استكشاف نقاط القوة المطمورة في دواخلهنّ. لذا، تؤكد كثيراتٌ من المعالجات النفسيات البارزات في علم النفس النسوي مثل إليانور ماكوبي (Eleanor Maccoby) ولورا براون، أن ممارستهنّ وتخصّصهن أشبه بترميمٍ لمفهوم الصداقة بين النساء الذي لطالما جرت قولبته في إطارٍ ضيقٍ لتاريخٍ مشوبٍ بالغيرة والغلّ كسرديةٍ سائدة.

مراجعة من الداخل

يقدّم علم النفس النسوي بنيةً معرفيةً ومناهج علاجيةً متطورةً جاءت من الفجوة التي خلّفتها المدارس التقليدية في العلاج النفسي، لاسيّما في ما يتعلق بالانتهاكات الجنسية ولوم الناجيات. وتتبنى ممارِساتُ هذا العلاج وممارِسوه مقاربةَ المراجعة الداخلية المستمرة لتصويب المسار. على سبيل المثال، تقول الطبيبة وعالمة النفس الأميركية سالي ساتل (Sally Satel) في مقالتها النقديّة بعنوان "كيف أفسدَت الصوابيةُ السياسية الطب": "إن نقدًا مستمرًا يجب أن يأتي من الداخل، لا من العلاج النفسي فحسب، بل من النسوية ذاتها ومن العلاج النسوي تحديدًا، لأنه قد يؤدّي بنا كطبيباتٍ للانزلاق إلى الترويج لنظرية المؤامرة. ومثل هذا النقد يتجذّر كلما أعدنا التذكير بجوهر العلاج النفسي، وهو مساعدة المريض/ة على استرداد الثقة والقوة من خلال تفكيك أنماط التفكير غير الواقعية والمدمّرة لديه/ا، في ظل رغبةٍ صادقةٍ في معرفة احتياجات الفرد وأبعاد شخصيته/ا المعقدة وتجاربه/ا. كما من الضروري الإحالة إلى النسيج المجتمعي الأكبر المتجاوِز للجندر، لأن فهم المحاور الثلاثة2 الداخلة في تعديل المسار يأتي بشكلٍ كبيرٍ من السياق المجتمعي والظرف التاريخي".3

العلاج النسوي يقوم في جوهره على نقاط القوة، كما على مبدأ المساواة في دينامية القوة/السلطة بين المعالِجة ومتلقّية العلاج

أما لورا براون، فسلَكت مسارًا أكثر وعورةً في كتابها 'حواراتٌ مشوّهة: قراءةٌ نظريةٌ مقترحةٌ في العلاج النسوي'، إذ أرادت إيجاد لغةٍ من قلب مجتمع ممارِسات العلاج النسوي ومن واقع خبرتها التي امتدّت لعشرات السنين، بغية إيضاح الرؤية المهنية في هذا المجال والاتفاق على لغةٍ مشتركة، وهو مسعًى ساهم في منحها جائزة النشر للرابطة الأميركية للنساء في علم النفس. من جهتها، رأت المعالجة النفسية جوديث واريل (Judith Worell) في ورقتها البحثية المقدّمة عام 2000 بعنوان "النسوية في علم النفس: ثورةٌ أم تطور؟"4 أنّ إعادة قراءة علم النفس والعلاج النفسي في إطارٍ نسوي يفتح آفاقًا لم يتمّ التطرق إليها من قبل سواءً على مستوى النظرية، أو البحث العلمي أو الممارسة العلاجية. في الواقع، إنّ كثيرًا من الخطوات الراديكالية في منهجيات وأدوات العلاج النفسي نشأَ عن دراسة عوالم الفتيات والنساء، أو ما سُمّي بـ"الألم في عالم الأنثى"5 وفهم الألم النفسي المزمن من سرديات النساء. وأردفت أنّ مثل هذه المراجعة تُعيد هيكلة الإطار الناظم لديناميات وأولويات العلاج النفسي للنساء في المقام الأول، لكنها تعود بالنفع أيضًا على أطرافٍ أخرى في الإطار العلاجي. إنّ قبول تعدّدية السرديات في المسار العلاجي ودعوة أطرافٍ هُمّشت ووُصِمت على مدار التاريخ إلى مشاركة رواياتها، يساعد في تطوير الممارسة العلاجية لا على مستوى الأفراد فحسب، بل أيضًا على مستوى التراتبية داخل المؤسسات العلاجية، لتصبح أكثر قبولًا وانفتاحًا وتجاوزًا للنقاط المعتمة في الهيكلية المؤسّسية التقليدية، ما من شأنه تحسين السياسات العامة للصحة النفسية لكافة أفراد المجتمع من رجالٍ ونساءٍ وغير ذلك. لذا، توجد حاجةٌ مستمرةٌ لأن يصبح علم النفس النسوي حاضرًا كقوة دفعٍ لتحقيق تغييرٍ عادلٍ ينبع من معالجة الجذور العميقة للقمع/الاضطراب النفسي.

عندما شرعتُ في البحث والقراءة لغرض كتابة هذا المقال، آلمَني عدم توفر موادّ باللغة العربية. وبينما أنظر إلى الشاشة، أرى وجوهٌ قبيلةٍ من النساء اللواتي لا أعرفهنّ على صعيدٍ شخصي، لكني أوقن بأن مسارات السعي لتحرير أرواحنا في مجتمعاتنا تبدأ بالاقتراب من ذواتنا لا معاداتها، وبمدّ جسور صداقةٍ مع العلم والمعرفة، ثم الإيمان بقدرة كلٍ منّا على فعل ذلك في مجالها، لا لأننا نستحق فحسب، بل لأنّنا موجوداتٌ وسنبقى.

 

  • 1. Laura S. Brown, “Feminist Therapy as a Path to Friendship with Women”, Women & Therapy Journal, Vol. 36, Issue 1-2, 2013, p. 11-22. DOI: 10.1080/02703149.2012.720556
  • 2. وفقًا لساتل، المحاور الثلاثة هي: معرفة احتياجات الفرد، وأبعاد شخصية الفرد، وفهم التجربة. ولا يصحّ فهم تلك المحاور على نحوٍ مجرّدٍ أو منفصلٍ عن الواقع، بل ينبغي فهمها في إطارٍ أوسع هو إطار المجتمع والتاريخ.
  • 3. Sally Satel, “How Political Correctness is Corrupting Medicine”, Society Journal, Issue 39, 2002. p. 7- 10
  • 4. Judith Worell, “Feminism in Psychology: Revolution or Evolution?”, The ANNALS of the American Academy of Political and Social Science, 571, 2000, p. 183-196. Retrieved on February 11, 2021 from http://www.jstor.org/stable/1049142
  • 5. تعني العبارة فهم الألم كما ترويه المرأة. على سبيل المثال، معظم النساء لا يعبّرن عن آلامهنّ الجسدية أو النفسية بسبب وقوعهن عادةً تحت تأثير سرديةٍ سائدةٍ مفادها أن "الأنثى تتحمّل". بالتالي، استرداد حق النساء في تعريف الألم كما يختبرنه هنّ، يمنح العلاج النفسي مساحةً جديدةً في فهم "الألم".