حين تتسلّل علاقات القوة الأبوية إلى غرفة العلاج

يُخبرنا فوكو بأنه لا وجودَ لمشروعٍ معرفي خارج علاقات القوة، إذ إن السلطة جزءٌ لا يتجزأ من تكوين المعرفة، مما يجعل مؤسساتنا ومساحاتنا وسيلةً بيد السلطة لإعادة إنتاج الخطاب المهيمن. تشترك المدارس والمعابد الدينية ووسائل الإعلام، في ممارسة القمع الناعم وتعليب الأفكار والاتجاهات بطريقة لا تقل خطورةً عن أدوار الشرطة والقضاء. غير أن ما يبدو مؤلمًا حقًا هو تسرّب علاقات القوة إلى المساحات التي نعدّها حميمة وخاصة للغاية.

وقد انعكس هذا المنطق على غُرف العلاج النفسي بالرغم من محاولات عزلها، إذ انعكست فيها تناقضات الواقع، وتسلّلت علاقات القوة إلى داخلها وإلى داخل العلاقة العلاجية، ليتبيّن أنها ليست علاقةً مهنيةً خالصة وحيادية كما يدّعي علم النفس الفردي، بل نقطة اشتباك لإشكاليات السياق الذي نعيش فيه. وبالتالي يمكن التفكير فيها كجزءٍ لا يتجزأ من سيرورة العلاج وآثاره، لأنها أبعد من أن تُحصر في مفهومي التحويل والتحويل المُضاد اللذين طوّرهما فرويد.

أجريتُ دراسة بعنوان "إدراكات المنتفعين الذين خاضوا تجربة العلاج النفسي حول الممارسات العلاجية وغرفة العلاج كحيّز وارتباطه بالسياق اليومي المعاش"، خلصتُ من خلال نتائجها إلى أهمية مراعاة ديناميكيات القوة والبيئة العلاجية والتفاعل بين العوامل الفردية والجماعية والسياق الاجتماعي والاقتصادي في العلاج النفسي. 

وخلال البحث تبيّن لي ميل المشاركين والمشاركات إلى تفضيل علاجٍ نفسيٍّ مُواتٍ للسياق وقادرٍ على استيعابه، من خلال تطوير نماذج تُمكِّن من فهم الذاتية الداخلية والعرقية باعتبارها عملية علائقية واجتماعية معقّدة، وفهم الهوية على أنها منظَّمة اجتماعيًا وسياقية ومتقاطعة. 

من خلال النتائج خلصتُ إلى أهمية التعامل مع قضايا العنصرية والعدالة الاجتماعية، لا بوصفها موضوعاتٍ جديرةً بالاهتمام والبحث فحسب، بل كضرورة علاجيّة وصحيّة تهدف إلى تقليل التفاوتات في الصحة النفسية الناتجة عن الاضطهاد.

في هذا المقال أستعرضُ أحد محاور الدراسة حول كيفيّة تسلّل علاقات القوة القائمة على أساس النوع الاجتماعي إلى غُرف العلاج النفسي، وكيف تؤثّر في العلاقة التي تتشكّل بين المُعالِج والمُتعالَج، وبالتالي في سيرورة العملية العلاجية وآفاقها.

صورة الأب في العلاقة العلاجية

تقول ليلى: "اخترت أروح عند مُعالِجة أنثى لأن علاقتي بالرجال كانت سيئة وتحديدًا علاقتي بأبوي. ففي أوقات كثيرة كان صعب علي أن أثق بذكر، أو أحس إنه بنفع أحكي معه بدون ما يُحكم علي! ما بالك إذا كان معالج نفسي اللي هو مهم كثير تقدر تبني علاقة ثقة وأمان معه". 

يتبيّن من خلال حديث ليلى أنها كانت على وعيٍ بما يُعرف في الأدبيات النفسية بمفهوم "التحويل"، وهي ظاهرة لا شعورية يُسقِط فيها الفرد مشاعره أو رغباته المرتبطة بشخصية محورية في حياته – كأحد الوالدين – على شخصٍ آخر لا يُمثّل تلك الشخصية بالضرورة1.

وفي إطار العلاقة العلاجية، يُفترض أن يعبّر (المنتفع/المنتفعة) عن مشاعر تجاه المعالج/ة تستند في جوهرها إلى تجارب وجدانية سابقة مع أشخاص آخرين، وبما أن علاقة ليلى بوالدها كانت تفتقر إلى مشاعر الثقة والأمان فقد رفضت أن يكون معالجها النفسي رجلًا، إذ كانت مدركة لإمكانية أن يُعيد إنتاج صورة والدها ضمن العلاقة العلاجية.

لكنّ هذا ليس قرارًا فرديًا بسيطًا، بل هو رد فعل مشحون بتجارب سابقة تتداخل فيها علاقات القوة الجندرية، فغرفة العلاج النفسي ليست مساحةً معزولةً عن البُنى الاجتماعية، بل قد تُشكّل ساحةً لإعادة إنتاج ديناميكيات السيطرة التي اختبرناها في علاقاتنا الأسرية أو المجتمعية. ويتجلّى ذلك بوضوح في تجربة ليلى، حيث تُشكّل مسألة الثقة وتجنب إصدار الأحكام حجر الأساس في أي علاقة علاجية.

لكن ماذا يحدث حين تكون هذه الثقة نفسها مشروطة بتاريخٍ شخصي من انعدام الأمان؟ هنا نكون أمام انعكاسٍ لديناميكيات سلطة عميقة، حيث يرتبط المعالِج الذكر – ولو ضمنيًا – بصورة الأب أو الرجل الذي يحمل سلطةً مطلقة. 

فكما يقول جيل دولوز في إحدى مقابلاته: "المرء يهذي عن العالم، وليس عن عائلته الصغيرة؛ يهذي عن التاريخ والجغرافيا والقبائل والصحاري والشعوب". ويُضيف بشيء من البلاغة: "إنّ اللاشعور ليس مسرحًا يلعب فيه هاملت وأوديب دوريهما بلا نهاية، بل هو مصنع، إنّه إنتاج". من هذا المنطلق، فإنّ التحويل الذي مارسته ليلى على المعالِج لم يكن مرتبطًا بشخص والدها فحسب، بل بالنظام الأبوي الذكوري ككل.

علاقات القوّة السائدة

فضّلت شذى أن تتلقى العلاج على يد مُعالِجة، ولكن دافعها كان مختلفًا، إذ قالت: "أهم إشي بالنسبة إلي إنّه المُعالِجة تكون أنثى، لأنه بفكّر إنّ معظم مشاكلنا بالحياة كإناث نابعة من الأدوار الجندرية المفروضة علينا، عشان هيك صعب ذكر يقدر يفهم مشاكلي، وهو خارج غرفة العلاج ممكن يكون مساهم فيها."

يتّضح من كلام شذى رؤيتها بأن علاقات القوة السائدة في الحيّز العام بين الرجل والمرأة من جهة، وبين المرأة والمنظومة الذكورية من جهة أخرى يُمكن أن تتسرّب إلى غرفة العلاج النفسي، وأن تكون لها انعكاسات داخل هذا الفضاء العلاجي. من هنا تفضّل أن تخوض تجربة العلاج النفسي مع امرأة قادرة على فهمها ومشاركتها السياق نفسه.

يعكس حديثها بوضوح كيف أنّ تجربة العلاج النفسي لا يمكن فصلها عن السياقات الاجتماعية والسياسية التي تتشكّل فيها معاناة النساء، فبالنسبة للكثيرات لا تُختزل المعاناة في الأعراض النفسية فحسب بل تمتدّ إلى البُنى والهياكل التي تُنتج هذه الأعراض، حيث تتقاطع علاقات القوة الجندرية مع تحديد طبيعة المعاناة النفسية، بل ومع تشكيل العلاقة العلاجية ذاتها.

عليه فإن اختيار المعالِجة لا يُعدّ مجرّد مسألة راحة شخصية، بل هو تعبير عن وعيٍ بأنّ الرجل حتى داخل غرفة العلاج، لا يمكن فصله عن الامتيازات التي يمنحها له النظام الأبوي. فالمُعالج مهما كان مدرَّبًا على الحياد والاحتواء، قد يُنظر إليه من قِبل بعض النساء باعتباره جزءًا من منظومة سلطوية أوسع، مما يُصعِب  الوثوق به أو الشعور بالأمان في حضوره. وهكذا تصبح غرفة العلاج امتدادًا للصراعات الجندرية القائمة خارجها، لا فضاءً محايدًا أو منفصلًا عنها.

سلطة غير معلنة 

تَقول نُور في هذا الصدد: "كنت أحس إنّ المعالج النفسي بيحكم عليّ لأني أنثى. ما كانش يحكي بشكل مباشر، بس كنت قادرة ألمس هذا الإشي. وكثير مرات حسّيت إنه يتذاكى عليّ، ويفكّر حاله فاهمني وفاهم تجربتي أكثر مني. كان كثير ييجي على بالي أبهدلُه وأقوله صعب تفهم أنا شو حاسة، وأكيد مش رح تفهم أكثر مني شو بدي وشو بحس."

تُشير نور إلى علاقة القُوة التي تُمارسها المنظومة الذكورية الأبوية، والتي تصبح مركّبة أكثر داخل غرفة العلاج، ففي هذه المساحة تُوضَع النساء في موقع ضعف مضاعف، ليس فقط بسبب كونهن نساء، بل أيضًا لأنهن في موقع المحتاج إلى المساعدة والدعم النفسي.

ما توضحه تجربة نور هو كيف يمكن للمعالج، وهو يمتلك الأدوات والمفاهيم النفسية، أن يُعيد إنتاج علاقة سلطة تُضعف قدرة المُتعالِجة على فهم قضاياها وتحليلها من داخل تجربتها الذاتية. في هذا السياق لا يعود دور المعالج محصورًا في الدعم، بل يتحول إلى سلطة تفرض قراءة معينة على السرد العلاجي، مما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة بدلًا من التخفيف منها.

ما تعبر عنه هذه التجربة هو شعور متكرّر لدى العديد من النساء اللواتي يخضن تجربة العلاج مع معالجين ذكور: الإحساس بأن المعالِج لا يُنصت إليهن فعليًا، بل يُعيد تفسير مشاعرهن وتجاربهن وفق منظوره الذكوري، الذي قد ينطوي – ولو من دون وعي – على قدر من التسلّط أو التقليل من شأن الذاتية النسوية.

هنا تتحوّل غرفة العلاج من فضاء يُفترض أنه آمن ومُتفهم، إلى ساحة يعاد فيها إنتاج علاقات القوة الجندرية، فالمعالج يمارس سلطة غير مُعلنة، إما من خلال فرض تفسيره الخاص لتجربة المُتعالِجة، أو بمحاولته الهيمنة على السرد العلاجي بطريقة تجعل المرأة تشعر أنها لا تملك تجربتها بالكامل.

وهذا الشكل من العلاقة لا يمكن فصله عن السياقات الاجتماعية الأوسع، حيث تُصوَّر المعرفة والخبرة بوصفها امتيازات ذكورية، بينما يُستهان غالبًا بالتجربة الذاتية للنساء التي تشعر بأن معالِجها "يتذاكى" عليها أو يظن أنه يفهمها أكثر مما تفهم نفسها، فهي لا تواجه مجرد سوء تواصل، بل تصطدم بصورة مصغّرة لعلاقات القوة الجندرية السائدة خارج غرفة العلاج، حيث يتمّ التشكيك في معاناة النساء وتُعاد صياغتها بطرق تُضعف من أصواتهن وتجاربهن.

ترتبط مشاركة نور بتساؤل طرحته المُعالجة النفسية النسوية نعومي فاينشتاين، حول ما إذا كان علم النفس يُشكّل تصورًا عن المرأة، أم أنّه يُشكّلها من خلال خيال العالِم النفسي الذكر؟ إذ ترى فاينشتاين أنّ علم النفس لا يملك في جوهره ما يقوله حقًا عن النساء: عمّا يحتجن إليه ويرغبن فيه2.

أسرى فكرة القوّة 

يقول صلاح: "كان مهمّ تكون المعالجة أنثى، لأنه بحسّ الذكور بينهم دايمًا هاد الحُكم اللي بيقول إنّه حزنك ومشاعرك بتقلّل من رجولتك. هاد الإشي كمان بنطبّق على الحياة اليومية. مستحيل أحكي لحدا من صحابي الشباب شو حاسس، بس ممكن أحكي لصديقاتي الصبايا، أو مثلًا بالعيلة بفضّل أحكي لأختي مش لأخوي."

ويقول محمد: "بصراحة اخترت أروح عند معالجة أنثى لأنه أريح إلي إني أحكي لأنثى من إني أحكي لذكر. بحسّ الإناث قادرات يفهمن أكثر بدون إطلاق أحكام وبدون تنظير، هنّ بستوعبن أكتر من الذكور إنه مش عيب الواحد يحس بحاجة للحكي والمشاركة."

يتبيّن من كلام صلاح ومحمد أنهما واعيان للقيود التي يفرضها النظام الذكوري والأبوي على الرجال أنفسهم، لا سيّما في ما يتعلّق بالتعبير العاطفي، فاختيارهما لمعالِجة أنثى يمكن اعتباره شكلًا من أشكال المقاومة لهذا النظام الذي يُضيّق الخناق على الرجال عاطفيًا، فرغم الامتيازات التي يوفّرها النظام الأبوي للرجال، إلّا إنهم أيضًا واقعون في قبضته، فهو يمنحهم سلطة على النساء، في الوقت الذي يسلبهم فيه حرية التعبير العاطفي، ويجعلهم أسرى لفكرة القوة والصلابة.

يُعزّز هذا ما تقوله بيل هوكس عن أنّ الأبوية ليست مجرّد أداة لقمع النساء، بل هي أيضًا نظام يُضعف الرجال نفسيًا. في كتابها "ألستُ امرأة؟"، تتحدَّث هوكس عن فهمها للأبوية بوصفها نظامًا (سياسيًا-اجتماعيًا) يُمأسِس لهيمنة الرجال، ولا يقتصر أثره على العنف الذي يُلحقه بالنساء فحسب. فقد اعتبرت أنّ الأبوية تُؤذي الرجال أيضًا، رغم الامتيازات الممنوحة لهم من هذا النظام الذي يساعدهم في التفوق على النساء ويخوّلهم لممارسة السيطرة عليهن.

تُجادل هوكس بأنّ الأبوية تعمل على غسل أدمغة الرجال، لتجعلهم يصدّقون أنّ ثمّة فائدة في ممارستهم للسلطة على النساء، فيما هو مجرد وهمٌ كبير، إذ تحصرهم في أدوار جندرية صارمة، وتُعلّمهم منذ الطفولة كبت أي مشاعر لا تنسجم مع التصرفات "المقبولة" كما يُحدّدها النظام الأبوي الذكوري. وبذلك تمنع الأبوية الرجال من معرفة أنفسهم، ومن التواصل الحقيقي مع مشاعرهم.3

لذلك يجد هؤلاء الرجال في المعالِجات مساحةً آمنة وخالية من الأحكام المسبقة المرتبطة بالصورة النمطية للرجولة، مما يتيح لهم فرصة للتواصل مع مشاعرهم بحرية وصدق. ويُسلّط هذا الاختيار الضوء على الحاجة الملحّة لإعادة النظر في كيفية تقديم الدعم النفسي للرجال، بما يُسهم في تحريرهم من القيود التي يفرضها عليهم النظام الأبوي.


مصادر إضافية:

  1. Hooks, B. (1982). Ain't I a woman: Black women and feminism. Pluto Press 
  2. Waelde, K. (1996). Lifetime learning, biased technological change and the evolution of wages in the US 1960-1990 (No. 9601001). University Library of Munich, Germany
  3. Weisstein, N., Martin, M., & Mclntyre, L. (1971). Psychology constructs the female: Or, the fantasy life of the male psychologist (with some attention to the fantasies of his friends, the male biologist and the male anthropologist). In B.A. Crow (ed.). Radical feminism: a documentary reader (pp. 183-198). Boston
     
  • 1

     (Waelde, 1996)

  • 2

     (Weisstein, Martin McIntyre, 1971)

  • 3

     (hooks, 1982).

غدير محاجنة

باحثة وكاتبة فلسطينية، متخصصة في علم النفس المجتمعي. تستند أعمالها إلى مقاربات تحررية ونسوية، وتهتم بتقاطعات الذات والسياق. 

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.