عن أيّ نساء نتحدّث نحن وهل يكفي تحويل اليوم العالميّ للمرأة إلى اليوم العالميّ للنساء حتّى ندقّ طبول النصر؟
لم أحبّ يومًا الاحتفال باليوم العالميّ للنساء. هذا اليوم لا يعني لي شيئًا ولا يُذكّرني بشيء سوى أنّنا كائنات استثنائيّة في ضعفها وفي قوّتها أيضًا. لا أحبّ أن يتعامل معنا العالم ككائنات استثنائيّة، يُشيّدون من أجلها وزارة للمرأة ويقيمون من أجلها احتفالات خاصّة وقوائم خاصّة: قائمة النساء المُتحصّلات على جائزة نوبل، قائمة النساء سيّدات الأعمال، قائمة النساء الأكثر تأثيرًا والأكثر جمالا والأكثر قوّة والأكثر ذكاءً. التعامل معنا ككائنات استثنائيّة يعني ببساطة شديدة أنّ الرجال، وهذه هي القاعدة، هم أسياد العالم الحقيقيون ونحن إذن مُجرّد مفارقة في حقل عالمهم الكبير. لا أريد ولا أستطيع أن أصادر حقّ أيّ كان في الاحتفال واعتبار 8 مارس فرصة للتذكير بما تعانيه النساء من هيمنة ذكوريّة كنتاج اجتماعيّ مُعقّد أو فرصة للتفاخر بما حقّقنه من إنجازات في صراعهنّ التاريخيّ مع منظومة سلطويّة تريد أن تسجنهنّ داخل الهامش، ولكنّي لن أمنع نفسي من القول بأنّي لا أحبّ هذا اليوم ولا أجد نفسي معنيّة به لأنّي لا أبحث عن الانتصارات الصغيرة ولا أبحث عن الاعتراف من أحد. اليوم العالميّ للنساء كما اليوم العالميّ للأرصاد الجويّة (23 مارس) كما اليوم العالميّ للغابات والأشجار (21 مارس) كما اليوم العالميّ للأحياء البريّة (3 مارس) كما اليوم العالميّ لسمك التونة (2 مايو)، جميعها مناسبات واحتفالات مُفرغة من كلّ معنى، إلاّ المعنى الذي تريده منظّمة الأمم المتّحدة في ظلّ سيادة نظام عالميّ للتبادل غير المتكافئ.
لا أحبّ الاحتفال باليوم العالميّ للنساء لأنّه وجه من أوجه "الحداثة السائلة" على حدّ تعبير باومان، الحداثة التي تبحث جاهدة عن وهم حقيقة الإنسان، ذلك الإنسان الكونيّ العابر للقارّات وللتاريخ. لقد تخلّى التاريخ عن الذات الإنسانيّة الفاعلة لحساب المؤسسة التي سجنت الإنسان في بوتقة المعيار، مُجبرة إيّاه على الانصياع إلى القيمة1 . ومن هنا أنتجت الأمم المتحدّة خطابًا مؤسّساتيّا مُغلّفًا بالقيم الكونيّة يتماهى مع الحقيقة بشكل يجعل أي انتقاد له انتقاصًا من شأن الحقيقة ذاتها (هذا إن وُجدت أصلا). كيف يُمكن أن ننتقد خطاب الأمم المتحدة الذي نفض ظاهريًا غبار اللا معنى عن المرأة واللاجئين والسلام؟ يبدو هذا الخطاب متوازنًا ومعبّرًا عن حقائق ملموسة إلا أنّه خطابٌ قائم على منطق الاستثمار في المعاناة والمأساة التي يسهل تصديرها إلى الغرب الذي يريد إخضاع المرأة وليس خلقها من خلال التنقيب عن قصص النساء المُعنّفات والمقموعات والمسكينات والمُعذّبات. اليوم العالميّ للنساء يُشرّع لمنطق المرأة الضحيّة، ولا يعدو أن يكون سوى تمريرة سلاح من الرجال وسط المعركة وعلينا أن نشكرهم على ذلك وأن نظلّ محصورات في دائرة الجماعات المحرومة التي تنتظر عطفهم واعترافهم. لا يجب أن نتحوّل إلى كائنات فاعلة، بل علينا أن نظلّ ضحايا حتى نستطيع الولوج إلى الغرب والحصول على تأشيرته الصعبة. لا يجب أن نذهب إلى أبعد من وضع استراتيجيّات مؤقّتة لكسب بعض الحقوق، ويجب أن نظلّ خاضعات لإرادة ارتكاسيّة ورجعيّة جعلت من الفحولة والقوّة ورباطة الجأش صفات ذكوريّة خالصة وربطت الأنوثة بالهشاشة والرقّة واللطف والضعف. ثمّ عن أيّ نساء نتحدّث نحن وهل يكفي تحويل اليوم العالميّ للمرأة إلى اليوم العالميّ للنساء حتّى ندقّ طبول النصر؟ ماذا عن أولئك الذّين يعتبرون أنفسهم لا معياريّين ولا جندريّين؟
لا أفهم كلّ هذا الهوس بالتواريخ والمناسبات التي أنتجت تعميمات اختزاليّة وكليشيهات
حقيقة لا أفهم كلّ هذا الهوس بالتواريخ والمناسبات التي أنتجت تعميمات اختزاليّة وكليشيهات تعلّقت خاصّة باليوم العالميّ للنساء، هذا الاحتفال الفلكلوريّ الذي يُشرّع لمنطق الذاكرة المتعالية المُتعطّشة للمجد. هل نحن في حرب تموقعات؟ ومن هو خصمنا؟ أعتقد أنّ اختزال الحراك النسويّ في نزاع ثنائيّ القطب طرفاه امرأة ورجل هو اختزال مغشوش وسخيف لأنّ خصمنا الحقيقيّ هو تلك الأيديولوجيّات ذات "القيمة المُضافة" التي توهمنا بشرعيّة السلطة، سلطة النظام الرأسمالي البطريركيّ الذي يُريد إخضاعنا والسيطرة علينا بغضّ النظر عن نوعنا الاجتماعيّ حتى لو كانت أسسه أبويّة ذكوريّة. لم يتغيّر الوضع كثيرًا، كنّا قابعات في المنزل مُهتمّات بشؤونه وأعماله اللامتناهية وصرنا نخرج إلى الفضاء العامّ نتظاهر ونطالب بالمساواة ونكتب مقالات نقديّة عن أوضاع النساء ولكنّنا نعود في آخر النهار كي نغسل المواعين ونحضّر العشاء ونهتمّ بتربية الأطفال، هذه الكائنات الغريبة التي لا أعرف لماذا علينا أن ننجبها لنسيطر عليها فيما بعد كي تُحقّق أحلامنا المؤجّلة. لم يتغيّر شيء تقريبًا في الأدوار الجندريّة التي تتحدّد وفقًا للجنس البيولوجي، والتي ما زالت ضمن المسلمّات والحتميّات غير القابلة للنقاش والتهديم. تحدّث بيار بورديو كثيرًا عن ضحايا الهيمنة الرمزيّة وكيف أنّهم يساهمون في تمرير الهيمنة عليهم عبر قبولهم الضمنيّ بالحدود المفروضة عليهم، وارتأى إلى أنّه لا يُمكن تفكيك علاقة التواطؤ التي يهبها ضحايا الهيمنة الرمزيّة للمهيمنين إلاّ من خلال تحوّل جذريّ للشروط الاجتماعيّة التي تحمل المُهيمَن عليهم على تبنّي وجهة نظر المُهيمنين أنفسهم في النظر إلى المُهيمنين وإلى أنفسهم ذاتها2 . وعليه فإنّه يجب علينا إعادة التفكير في جميع تلك المسلّمات التي توهمنا الخطابات الكونيّة الرنّانة بأنّنا تجاوزناها.
لا أحبّ الاحتفال باليوم العالميّ للنساء، ويكفي أن ترفع المنظّمات النسويّة شعار "نساء بلادي، نساء ونصف"3 حتى أكرهه أكثر.
- 1بن غنيسة نصر الدّين، عن أزمة الهويّة ورهانات الحداثة في عصر العولمة، منشورات ضفاف، بيروت، 2017، ص 78.
- 2علي عبود المحمداوي، الفلسفة والنسويّة، منشورات ضفاف والائتلاف ودار الأمان، 2013، ص 108 و109.
- 3يُمكن العودة إلى مقال مريم بوسالمي تحت عنوان "نساء ونصف: في مساءلة تمثّلات المقاومة النسويّة" والذي فكّكت فيه هذه العبارة للشاعر التونسي الصغير أولاد حمد والتي تحوّلت إلى شعار نسويّ نمطيّ.
إضافة تعليق جديد