لطالما سُئلتُ عن ميولي وعن جنسانيتي. متى وكيف اكتشفت نفسك؟ كيف بدأت حياتك الجنسية وأنت من بيئة محافظة حدّ التعصّب في إحدى قُرى الشمال الغربي النائية؟ كيف نشأت هناك وكيف قبلت نفسك وكيف تصالحت مع جسدك؟ كيف يراك أبناء جيلك من أهل القرية؟ وأين هم أولئك الشباب الذين رافقوك وشاركوك تجربتك الجنسية الأولى؟
كانت إجابتي تصدم كلّ من سمعها: "لقد اكتشفت ميولي الجنسية وعشتها في سنٍّ مبكّرة جدًا".
سأمتنعُ عن تسمية قريتي اتّقاء شرّ أهلها وأهلي. لو اكتشف أحدهم هُويتي فلا مُمسك لأذاهم عنّي. المعلومة الوحيدة التي يُمكنني أن أسرّبها عن قريتي هي أنّ اسمها يعني عند البعض "بلاد العنب"، وهو المعنى الأقرب إلى قلبي لشدّة حبي لتلك الفاكهة. كما يعني عند البعض الآخر "المدينة الصغيرة المحاطة بالجبال من كل صوب" وهو المعنى الأقرب إلى عقلي، فالمدينة حقًا تحدّها الجبال، أسمّيها مدينة لأنّها كانت أشبه بالمدن من القرى. كالأوتاد في كلّ ركن.
لا أذكر تاريخ ذلك اليوم، ولكنني لم أنس تلك اللحظة التي لاح لي فيها وللمرّة الأولى جسد رجلٍ عارٍ، فلمحت عضوه الذكريّ يلمع تحت أشعّة الشمس.
أمطرت السماء ذات مساءٍ من شهر سبتمبر، تدفّقت المجاري وفاضت الأودية وامتلأ "البراج". هذا "البراج" الذي أحدثكم وأحدثكنّ عنه هو عبارة عن حفرة واسعة لا يتجاوز عمقها بضعة أمتار لينخفض على الأطراف فلا يكاد يتجاوز المتر الواحد. كنت منذ صغري، إذا نزلت غسّالة النوادر، وهي كلمة بالعامية التونسية وتعني مطر أواخر الصيف وأوّل الخريف، أرى شباب الحيّ يهُبّون جماعة وفُرادى نحو البراج متأهّبين كالأسود التي ستنقضّ على فريستها.
كنت أعلم أنّ رهطًا من شباب قريتنا قد دأبوا على النّزول إلى البارج هناك في سفح الجبل حيث تتجمّع المياه التي تغمر القرية كلّها وتملأ كل حفرة فيها. كان ذلك المكان الغريب ومياهه العذبة القادمة من أعلى الجبل بمثابة البحر بالنسبة إلينا.
لم أدرك ما الذي كان يفعله شباب الحي عندما كانوا يتجمّعون عند بركة المياه الكبيرة تحت سفح الجبل بعد أن يقطعوا مسافة هكتارٍ أو أكثر من الوحل. هل يُخفون سرًّا؟ لماذا ينمحي البريق من أعينهم عندما تجفّ مياه المستنقع؟ ولماذا كانوا جامحين إلى تلك الدرجة غير مبالين بنداءات أمهاتهم ووعيد آبائهم؟ كان الفضول يغمرني كلّما رأيتهم وكبرت الرغبة بداخلي لاكتشاف سرّهم.
لم أكن وقتها قد بلغت الثالثة عشر. كنت نحيفًا، شديد السّمرة، كثيف الشّعر وكانت لي ابتسامةٌ عريضةٌ لا تفارقني. خرجت من البيت مع مجموعة من الأطفال بعد أن توقّف المطر، وكانت الشمس قد احتجبت وأخذت السماء والأرض لونًا واحدًا وغمرت قلوبنا رائحة الطين المبلّل. تجمّعنا بكلّ تلقائية قرب شجرة التين التي تتوسّط بطحاء الحي، تبادلنا نظراتٍ سريعةً والتفتنا نحو المستنقع. إنّه وجهتنا المُغرية. هممنا نحوه بكلّ ثقة واندفاع كما لو كنّا على اتّفاقٍ مسبقٍ، وكأنّنا نقول في أنفسنا: "بلغنا من السنّ ما يكفي كي نكتشف ما يدور في المستنقع عندما تُمطر السماء". ماهي إلا دقائق حتى بلغنا الهضبة الصغيرة التي تُطلّ على المستنقع.
يا لهول ما رأيت حين ألقيت النظرة الأولى من أعلى قمّة الهضبة! كان عددهم يفوق العشرة، منتشرين على ضفّة المستنقع عُراةً كما ولدتهم أُمهاتهم.
لم أتفحّص ملامحهم ولم أهتم بمن يكونون. كنت أنظر بشغف وفضول طفوليّ إلى أجسادهم المنتصبة كتماثيل آلهة الإغريق على ضفاف المستنقع. لم تكن سمرة أجسادهم كالسُمرة التي ألِفتُ رؤيتها على وجوههم وقد بدّلت أشعّة الشمس من لونها، بل كانت سمرةً ساطعةً تكاد تُضيء.
رأيت في ذلك المشهد ما كانت تُصوّره لي مخيّلتي منذ كنت طفلًا صغيرًا، لقد رأت عيناي لأول مرة ما يخفيه الرّجال تحت ثيابهم. ولو كنت أعلم أنّ حياة المستنقع هكذا لما تردّدت يومًا في الذهاب ولطالبت الله بُكرةً وأصيلًا أن يُنزِل علينا السماء مدرارًا.
تفحّصت أجسادهم الناعمة والصلبة بدقّة. كنت أتمنى أن أكون أكثر جرأة وأتحسّس لينَ الطفولة وصلابة الشباب. رأيت من الأشكال ما يسحرُ الأعيُن، ويجعل القلب يفيض شغفًا بالمشهد ويجعل المهجة تتجه نحوه دون تردّد. وأمّا ذلك العُضو العجيب الذي اختلفت أشكاله وأحجامه كان منتصبًا عند البعض، مرتخيًا عند البعض الآخر، وكان سبباً قويًا للنزول من أعلى الهضبة إلى سفحها، أي إلى ضفّة المستنقع، علّني أتفحّصه عن كثب وأتمعّن في تفاصيله. كانت متعتي مزيجًا من دهشة الاكتشاف والشعور باللذة أمام ما أرى.
كنت مأخوذًا بما رأيته ولا أذكر كيف وصلت يومها إلى بيتنا. علمت أمّي بذهابي إلى مستنقع الرجال فضربتني بشدّة. فهمتُ أنّه يُمنعُ عليّ أن أغيب عن عيني والدتي ويُمنع عليّ أن أقرَب أجساد الرجال.
رغم الخوف ورغم كلّ ضروب العذاب التي سُلِّطت عليّ جرّاء تردّدي الذي أصبح متكررًا على المستنقع، لم أتخلّف ولو يومًا واحدًا عن مشهد السباحة. استمر ذلك حتى أواخر سنّ المراهقة، أي التاسعة عشر تقريبًا. وكنّا كلما تقدّمنا في السن كلما تطوّر المشهد وازدادت أحداثه إثارةً وازداد شوقي لهؤلاء الشباب الذين يرتدون ثياب المجتمع وأفكاره إذا ما خرجوا من المستنقع ويتنكّرون كليًا لكلّ ما عشناه معًا.
كان "حسن" أكثرهم وسامةً وأقربهم إلى قلبي. كان اسمًا على مسمّى؛ طويل القامة، عريض الكتفين، وكانت عيناه فاتحتين وشعره خفيفًا مسدولًا على كتفيه نادرًا ما يحلقه. ينتمي حسن إلى أغنى العائلات في القرية، حتّى أن سُمرة بشرته لم تكن كغيره من روّاد المستنقع. كانت له سُمرةٌ خافتةٌ تميل إلى الحُمرة.
أذكر أن حسنًا كان أوّل من اشترى حاسوبًا من بين أبناء جيلنا، فكنّا في أيام الصيف، حين ينام الجميع وقت القيلولة، نتجمّع في غرفته كي نُشاهد أفلام البورنو ونستمني. وهذه عادة أخرى كنّا نلجأ إليها إذا ما اشتدّ الحرّ ولم نجد إلى النوم سبيلًا.
كنت حينها في بداية المراهقة وكانوا قد سبقوني إليها.
أمّا أكثرنا حرصًا على تنظيم هذه اللقاءات وأكثرنا اندفاعًا وحماسًا هو "رحيّم ولد زينوبة" ؛ كان أكبرنا سنًا وأكثرنا ضخامة وأقلّنا خجلاً وحياءً. أذكر أنه كان لا يتردّد إطلاقًا في أن يُرينا قضيبه إذا كان منتصبًا، مفتخرًا به متبجّحًا بحجمه، متوعّدًا بأنّه سيمارس الجنس مع كلّ حسناوات الحي حين يكبر قليلاً. ولم يكن يتردّد في أن يمدّ يده فيلمس قضيب أحدنا أو مؤخّرته، فيثير فينا أحاسيس غريبة، عرفت بعد ذلك أنّها تُسمّى الرغبة.
مرّت سنوات طويلة منذ هجرت القرية وانقطعت الصّلة بيني وبين هؤلاء الشباب وصرت أسمع عنهم أنباءً تقول بأن بعضهم قد تزوّج والبعض الآخر قد هاجر بطريقة "غير قانونية"، فأقول في نفسي: "أمازالوا يذكرون أيام المستنقع؟ هل يحنّون إلى تلك الأيام أم يشعرون بالعار؟ ماذا تراهم يقولون إذا قرأوا هذا النص وفهموا بأنهم هم رجال المستنقع؟"
التعليقات
very nicely written! Well done! I would like to read more of your writings
إضافة تعليق جديد