مع فرض الحجر الصحي الجزئي في مصر منتصف مارس الماضي، عملت على موضوع عن العنف المنزلي الذي تتعرض له النساء. وأثناء الاستماع لشهادات نساء مُعنفات ومحاولة إحداهن الالتحاق بالبيوت الآمنة، تبادر إلى ذهني سؤال: ماذا عن العابرات والعابرين جنسيًا؟ وخصوصًا من لم يتمنكوا/ن من تغيير أوراقهم الثبوتية في هويتهم/ن القانونية، كيف ستوفر الدولة لهم الحماية القانونية، وهل يُمكن أن يلتحقوا ويلتحقن بالبيوت الآمنة؟
دفعتني هذه الحيرة إلى محاولة الوصول لعابرين وعابرات جنسيًا تعرضوا للعنف أثناء الحجر المنزلي، لأوثق قصصهن في زمن غير عادي سيتذكّره التاريخ. علّنا في أوقات الأزمات والأوبئة القادمة نعرف ماذا يحدث لهم.
ولأن ما تبحث عنه يبحث عنك. أستيقظ في الرابعة فجرًا على اتصالات كثيرة ورسائل متتالية من أحمد تتضمن فيديوهات وصورًا لمجموعة من الأشخاص يختطفون فتاة. يُذيّل أحمد كلامه بأنه يحتاج إلى مساعدة عاجلة.
- ما الأمر أحمد؟
- طليقي خطف بنتي ومش عارف أعمل إيه
أحمد (27 سنة) عابر جندريًا، مازال في مرحلة العلاج الهرمونيّ والآن هو مُطلّق. فلنعد قليلا إلى قصّة زواجه: سنة ٢٠١٣ فرض عليه أهله الزواج عند اكتشافهم لوضعه، اعتقاداً بأن ذلك سيدفعه للتراجع عن قرار القيام بعملية العبور الجنسي إلى ذكر. يسترجع أحمد معاملة أهله له قائلا: "كان عمري وقتها 20 سنة فقط، حبسوني في غرفتي لأني رفضت الزواج، وكل مدة قصيرة يدخل أبي أو عمي ليضربني. لا أتذكر حجم الكدمات أو عدد مرات الضرب، ولكني بعد فترة التعذيب هذه أصبحت شخصًا آخر". كانت "ليلة الدخلة" جحيمًا بالنسبة إلى أحمد. تعاطى أدوية مخدّرة حتّى لا يُحسّ بشيء. في المرّات القليلة التي مارس فيها الجنس مع زوجه حمل وأنجب طفلة وبعد ثلاث سنوات حصل الطلاق بسبب هويته الجندريّة.
منذ شهر، استغلّ طليق أحمد حظر التجوال الكلّي يوم الجمعة، وتهجّم عليه برفقة اثنين من "البلطجية"، في منزله بمنطقة شبرا وقاموا بضربه وجلده وكسروا عليه كرسيًا خشبيًا قائلين له: "إنت مش راجل، طب ما تضربنا، ساكت ليه؟"، كُسرت يداه ولكن ذلك لم يكن عائقًا أمامهم، فقد ربطوه داخل المنزل وخطفوا الفتاة وهربوا.
عندما علم والده بما حصل عنّفه بدل أن يسانده وقال له: "إنت اللي وصلتنا لكدا، ما تعيش ست زي بقية الستات"، وأغلق عليه المنزل وخرج.
بمجرّد أن استطاع الخروج، ذهب مسرعًا إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغ ضد طليقه، ولكن أفراد الشرطة سخروا منه ولم يأخذوا شكواه على محمل الجد: "إنت ولد ولا بنت، يعني إنت أبوها ولا أمها؟"، "طب تعالى بعدين، عشان الظروف اللي إحنا فيها دي كل حاجة واقفة".
فشلت كلّ محاولاته في استرجاع ابنته خاصّة بعد أن أعلم طليقه كلّ الناس بأنّه يريد إجراء عملية عبور جنسي. يعمل أحمد حاليًّا بائعًا بإحدى المحلات ويعيش على أمل القيام بالعملية في أي بلد أجنبي وأن يبدأ حياةً جديدة هناك مع ابنته دون أقنعةٍ وعنفٍ وضغط.
أردت معرفة المزيد عن معاناة العابرات والعابرين في مصر فالتقيت بنوران (21 سنة) عن طريق أخصائية نفسية. هي عابرة جندرية تعرضت لعنف جسدي في فترة الحجر الصحي من قبل أهلها وصل إلى حد استخدام آلات حادة. منذ سنة اكتشف أخوها أنّها ترتدي ملابس داخلية نسائية، في البداية لم يعلّق ولكن بعد أن اكتشف أدوية الهرمونات تأكّد من حقيقة ما تمرّ به. حاول إقناعها بأنها ربّما تعيش أزمة نفسية وستمرّ ولكنه في النهاية ومثل أي ذكر متشبّع بقيم الفحولة والرجولة عنّفها وهدّدها بأنه سيفضحها.
تروي نوران ما حصل قائلة: "بعد أن اكتشف أنني أنوي القيام بعملية العبور الجنسي ضربني وعذّبني. كواني بالمكواة وقصّ شعري وربطني إلى السرير وحبسني عشرة أيام بهدف أن أتراجع عن قراري، وعندما فهم أنّني مصرّة أخبر والدي بكلّ شيء، هربت بعدها من المنزل والآن أعيش مع صديقة لي". كان وضع نوران المادي صعبًا ولا تستطيع العمل لأن شكلها اتخذ ملامح أنثوية، بينما هويتها القانونية ما تزال تحمل اسم رجل، فاضطرت إلى العودة إلى منزل أهلها وأقنعتهم بأنها تراجعت عن قرار القيام بعملية العبور الجنسي حتى تتمكّن من إنهاء دراستها.
مع بدايات الإغلاق الجزئي بسبب كورونا في مصر، تفرّغ أخوها لمراقبتها، لم يقتصر الأمر على وصمها والسخرية منها وإزعاجها بالتعليقات بل وصل به الأمر إلى حد التحرّش بها جنسيّا. وعندما سمع الأب صراخ نوران دخل إلى الغرفة وعنّفها لأنّه لم يصدّق روايتها. استمر مسلسل التعذيب هذا لخمسة أيام، لكنها استطاعت الهرب فجر اليوم السادس إلى منزل صديقتها بالقاهرة.
الظروف الحالية تدفع الأهل للتركيز بشكل أكبر من العادي على تصرفات أبنائهم وبناتهن من العابرين والعابرات
جميع شهادات العابرات والعابرين التي جمعتها متشابهة إلى حدٍّ كبير، فقد عُنّفن أثناء الحجر الصحيّ ليس فقط بسبب هويّتهنّ بل بسبب تناولهم للعلاج الهرمونيّ وعدم قدرتهم على إخفاء الأمر كثيرًا. في هذا السياق تقول الناشطة في قضايا التعدّدية الجنسية والجندرية وحقوق الترانس ملك الكاشف: "الظروف الحالية تدفع الأهل للتركيز بشكل أكبر من العادي على تصرفات أبنائهم وبناتهن من العابرين والعابرات. فهم يعتبرون العابرة رجلًا له تصرفاتٌ معينة، ودورٌ اجتماعي ومهامٌ منوط القيام بها، وعندما تتصرف بشكل معاكس لتوقعاتهم يكون العنف مضاعفًا ويتمثل في الضرب، الشتيمة، حلاقة الشعر، أو إجبارها على أدوية هرمونية ذكرية مثل التستوستيرون".
تواصل ملك حديثها: "يجب على الدولة توفير أماكن آمنة للمعنفات منهن وتوفير خطوط ساخنة لتلقي المكالمات الطارئة وتخصيص صندوق مساعدات طارئ لدعمهن بشكلٍ مادي ونفسي. لأن العابرات مُعنفات في المطلق ولأنّ شكلهن غير نمطي اجتماعيًا، ما يجعلهنّ في خطر أكبر ويعرضهنّ إلى الطرد والضرب".
ينضمّ المحامي والحقوقي ومدير مركز الإرشاد والتوعية القانونية رضا الدنبوقي إلى ملك في دعوتها إلى حماية العابرات وتوفير أماكن آمنة لهنّ، حيث يقول: "الدولة مُلزمة بتوفير الحماية لكل النساء بموجب القانون والدستور، وكذلك ملزمة بتوفير الحماية للعابرات جنسيًا ضد العنف بموجب المادة 53 من الدستور التي تُناهض التمييز بين المواطنين والمواطنات. ولا أعتقد أن البيوت الآمنة ستستقبل العابرات لأنّها تتعنّت في استقبال النساء المعنّفات أصلًا فما بالك بالعابرات".
ليس العنف فقط ما تواجهه العابرات والعابرون أثناء الحجر الصحي، بل أيضًا صعوبة الحصول على العلاج الهرموني. وحسب شهادات خمس عابرات تحدّثت معهنّ فإن الأدوية الهرمونية المُخصصة للترانس في مصر غير متوفرة من الأساس وتُعوّض بأدوية منع الحمل لأن بها نسبة من الإستروجين الكيميائي مثل شركات "ياسمين، جينيرا أو ديان"، وأسعارها مُتفاوتة من 25 جنيهًا إلى 50 جنيهًا للعلبة. كما تُستخدم حقنٌ نتيجتها أسرع تسمى "فولون"، والتي تُستخدم في الأساس لعلاج جفاف المهبل، ولكن العابرات جنسيًا يستخدمنها نظرًا لوجود نسبة إستروجين عالي بها.
يُعلق المحامي الحقوقي، رضا الدنبوقي على قلّة وندرة العلاج الهرموني للعبور الجنسي، أنها أحد مظاهر العنف الذي تمارسه الدولة على العابرين والعابرات، إذ هم بحاجة الهرمونات بهدف زيادة التوافق بين خصائصهم الجنسية الثانوية وهويتهم الجندرية. يتكون العلاج الهرموني للعابرات من هرمون الاستروجين ومضادات الأندروجين ويتم وصفه من قبل أخصائي غدد صماء للتحكم في صفات معينة مثل توزيع الشعر في الجسم أو زيادة صفات أخرى مثل نمو الثدي وعلى الدولة التزام أصيل بتوفير ذلك. ولكن وفقاً لأنجل، ناشطة ومسؤولة ملف الترانس بمنظمة "رينبو إيجبت" فلا يوجد إلا عدد محدود جدًا من متخصّصي الغدد الصماء في مصر، لذا فإن أغلب العابرين والعابرات جنسيًا - إن لم يكن جميعهم - يأخذون العلاج الهرموني وفقًا لتجارب سابقة من آخرين وأخريات، مما يعرضهن لمضاعفات صحية كثيرة.
رحلة العابرين والعابرات في مصر والمنطقة العربية شاقّة وطويلة. ولا تقتصر معاناتهم على رفض المجتمع والأهل لهنّ ولا على تعقيدات البحث عن مكان آمن بعيدًا عن العنف والقهر بل تشمل في جزء كبير منها صعوبة الحصول على العلاج الهرموني وتغيير الجنس في الأوراق الثبوتيّة ممّا يجعل حصولهنّ على عمل يحفظ كرامتهم أمرًا يكاد يكون مستحيلًا. لكنهن رغم اليأس والإحباط والوجع يواصلون ويواصلن الرحلة بخطوات واثقة أحيانًا ومرتبكة أحيانًا أخرى من أجل تقرير حياتهنّ بالشكل الذي يريدونه.
إضافة تعليق جديد