رحلة الفتيات إلى مباحث الإنترنت: الوصاية والتخاذل الأمني في أقبح صوَرِه

كانت المرّة الأولى التي أذهب فيها إلى مكتب مباحث الإنترنت في مديرية الأمن بعد تلقيّ الشتائم والإهانات والتعرّض "للشرف" من أحد الأشخاص على موقع تويتر لمجرّد أنني نسوية. طبعتُ التغريدة على ورقةٍ وقصدتُ المباحث، لاسيّما بعد أن نبّهتني صديقةٌ لي إلى أن أحفظ التغريدة في حال حذفَها الطرفُ الآخر. فسرعة زوال الأدلّة هي أحد أبرز مشكلات الجرائم الإلكترونية. كان التعامل معي جيّدًا في المديرية، فتذكّرتُ حينها قول أحد أصدقائي بأنّ الدولة استجابَت لصراخ النسويّات على الإنترنت، وتفاءلتُ قليلًا على غير عادتي.

دخَلتُ المكتب لأسجّل الشكوى وكان فيه ضابطَان. قال أحدهما إنّ تاريخ التغريدة تعدّى ثلاثة شهور وبالتالي لم يعُد ممكنًا تقديم بلاغٍ لانقضاء ذلك الوقت على واقعة الشتم والسبّ، لكنّ الضابط الآخر بادره بالقول إنه ما من مانعٍ من تحرير بلاغ. مع ذلك، أصرّ الضابط الأول على عدم وجود ما يُلزمه بالنظر في البلاغ، ولكنّه "أسداني جميلًا" بإجرائه "عشان خاطري" فقط. طلب إليّ أن أفتح حسابي على تويتر من جهاز الكمبيوتر الخاص به، لكنني استصعبتُ الأمر. منعَتني خصوصيّتي. بدا لي أنه لا توجد قواعد واضحةٌ للتعامل مع قضايا مماثلة، فأخذتُ رقم البلاغ ولم يحدث شيءٌ بعد ذلك. 

بعدها بعامَين، عثرتُ على قناةٍ على تطبيق تلغرام تلاحق الفتيات وتنشر بياناتهنّ وصورهنّ وتحرّض ضدّهن. ونلتُ نصيبي من التحريض بعد أن نشرتُ تعليقًا على منشورٍ عن القناة. شعرتُ بالخوف من لغة المعلّقين المتطرّفة التي تهدِّد بنحر الفتيات وقتلهن. ومع ذلك، لم أفكّر في تحرير أيّ بلاغ. كان حُرِّر الكثير من البلاغات ضدّ تلك القناة طوال السنوات السابقة من دون أن يحدث شيءٌ على الإطلاق. 

كانت المرّة الأولى التي أذهب فيها إلى مكتب مباحث الإنترنت في مديرية الأمن بعد تلقيّ الشتائم والإهانات والتعرّض "للشرف" من أحد الأشخاص على موقع تويتر لمجرّد أنني نسوية

تُعرِّف الأمم المتّحدة العنف الرقميّ ضدّ النساء بأنه أيّ عملٍ عنفي يُرتكب ضد النساء لمجرّد كونهنّ نساء، أو تتمّ المساعدة عليه أو مفاقمته عبر استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مثل الهواتف المحمولة، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وألعاب الحاسوب، والرسائل النصّية، والبريد الإلكتروني وما إلى ذلك…

تكره كريمة (اسم مستعار)، 30 عامًا، فكرة السجن والمنظومة العقابيّة ككلّ، وعادةً ما تتجاهل رسائل الإساءة أو التحرّش التي تصلها على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن في إحدى المرات، كان لرسالةٍ ذات محتوى جنسي من شخصٍ مجهول وقعًا سيئًا للغاية عليها، لدرجة أنها قرّرَت أن تسلك المسار القانوني. ذهبَت بالرسالة إلى مباحث الإنترنت، وانتظرَت لساعاتٍ عدّةٍ قبل أن يُسمح لها بالدخول. وما إن دخلَت المكتب لتقديم شكواها، سألها المُحقِّق عن تفاصيل الحادثة أمام مواطنٍ آخر من دون مراعاة خصوصيّتها. وحمل السؤال الأول في طيّاته نفَسًا اتهاميًا، إذ قال المُحقّق: "كيف تُعلِّلين وصول رسالةٍ مماثلةٍ إليك؟" لم تعرف كريمة بما تجيب، فردّت: "يعني إيه؟". 

لا يعرف المحقّق، ربّما، نسبة العنف الإلكتروني الذي تواجهه الفتيات كلّ يومٍ من مجهولين يتلذّذون بفكرة تعريضهنّ لصدمة، ويزعجهم أن تجد النساء مساحةً حرّةً ولو افتراضية. بعدها، سألها عمّا إذا كانت على معرفةٍ بالمرسِل. وعلى الرغم من تأكيدها عدم معرفتها به، ظلّ المحقّق يلحّ عليها بالسؤال، مستنتجًا بأنه قد يكون شخصًا تعرفه أو ربطتها به علاقةٌ ما أنهَتها هي، إذ بدا بالنسبة إليه أنّ المُرسِل يحمل قدرًا كبيرًا من الغلّ والضغينة تجاه كريمة. 

لم تحتمل كريمة أكثر. فقد تحوّلت في دقائق من ضحيّةٍ إلى متّهمة. شكرَت المُحقّق بعد إنهاء الإجراءات المطلوبة وحصولها على رقم البلاغ من أمين الشرطة، وخرجَت من المكتب وأقسمَت أنها لن تعود إلى ذلك المكان مرّةً أخرى.

أصدر موقع "بن أميركا" (Pen America) دليلًا ميدانيًا للحماية من الإساءة والمضايقات الإلكترونية، أقرّ فيه بضرورة صياغة مصطلحاتٍ مشتركةٍ للتعرّف إلى الإساءة على الانترنت ومكافحتها، مثل التصيّد بادّعاء الاهتمام، والتنمّر السيبراني، وهجمات العصابات السيبرانية وغيرها. ويعرّف التعقّب السيبراني بأنه الاستخدام المطوّل والمُتكرّر لسلوكيّاتٍ مسيئةٍ على الإنترنت بقصد قتل الشخص المستهدَف/ة، أو إصابته/ا، أو مضايقته/ا، أو تخويفه/ا، أو مراقبته/ا بنيّة قتله/ا أو تخويفه/ا.

بعد عناءٍ طويل، دخلَت آية مكتب المُحقّق، فسألها عن شكواها، فأخبرته بأنّ ثمّة مجهولٌ يُهدِّدها وأنها تخشى التعرّض للقتل أو الاعتداء. عندها انهال عليها بالاستجواب: "لماذا تعيشين بمفردك من دون أهلك؟

وبالفعل، هذا ما تعرّضت له آية (اسم مستعار)، 36 عامًا. انتاب آية رعبٌ شديدٌ بعدما أرسل لها شخصٌ مجهولٌ رسالةً على تطبيق واتساب يخبرها فيها أنه يعرف عنوان منزلها، ويهدِّدها بأنه سيقصد بيتها ويلاحقها، ثم شرع يرسل لها رسائل وفيديوهاتٍ جنسية. اتصلَت آية بمباحث الإنترنت على مدى ثلاثة أيامٍ متواصلةٍ إلى أن أجابها أحدٌ ما أخيرًا، وأخبرها بأن تتوجّه إلى المديرية في القاهرة الجديدة. 

على الرغم من بُعد المسافة، ذهبَت آية لتقدّم بلاغًا، لكن أمين الشرطة رفض السماح لها بالدخول إلى مكتب الضابط بحجّة أنّ عنوان بطاقتها مُسجّلٌ في محافظةٍ أخرى غير القاهرة. وللعلم، آية فتاةٌ مستقلّةٌ عن أهلها منذ سنوات، جاءت إلى القاهرة للعمل والعيش، فيما عنوانها لا يزال مُسجّلًا في مكان إقامة أهلها. 

بعد عناءٍ طويل، دخلَت آية مكتب المُحقّق، فسألها عن شكواها، فأخبرته بأنّ ثمّة مجهولٌ يُهدِّدها وأنها تخشى التعرّض للقتل أو الاعتداء. عندها انهال عليها بالاستجواب: "لماذا تعيشين بمفردك من دون أهلك؟ لماذا لا تعيشين معهم؟ لماذا لا تذهبين إلى بلدتك أو للنوم عند صديقةٍ لكِ؟" ولم يكتفِ بذلك، بل سألها أيضًا إن كانت على علاقةٍ بالشخص المُرسِل، فأكّدت له أنها لا تعرفه!

سجّل مرصد العنف القائم على النوع الاجتماعي نحو 415 جريمة ضدّ النساء في عام 2020، ما بين قتل، وشروع في القتل، وضرب، وابتزازٍ وتحرّشٍ جنسي إلكتروني

بعدها تدخّل مُحقّقٌ آخر كان يتحدّث في الهاتف وسأل "ما الأمر؟"، فأجابه المُحقّق الأوّل "ولا حاجة، كلام فاضي". لم تتمالك آية نفسها وردّت عليه "مش كلام فاضي"، فأجاب أنّ "الذي يريد الأذى لا يهدّد أولًا". عندها ذكّرته آية بأنّ هناك فتياتٌ قُتلن فعلًا بعد تلقّيهنّ تهديداتٍ مماثلة، أسوةً بالمغدورة نيّرة أشرف التي ذبحها القاتل محمد عادل أمام جامعتها، وكانت قد حرّرت بلاغاتٍ عدّةً طيلة عامَين متواصلَين ضدّه، لكنّ رجال الأمن لم يصدّقوا أنها كانت عرضةً للتهديد فعلًا إلّا بعد مقتلها. 

على الرغم من ذلك، بقي المُحقّق متشبثًا برأيه واعتبر أن ما حصل مع نيّرة حادثةً فردية. لكنّ الحقيقة أنّ حادثة نيّرة ليسَت فردية، وإنّما جزءٌ من سلسلة عنفٍ يومي ضدّ الفتيات المصريّات؛ من بسنت خالد التي انتحرَت بعد ابتزازها بصورٍ خاصة، إلى سلمى بهجت التي قُتلت أمام مكان عملها بعد أسابيع من مقتل نيّرة، وأخيرًا مقتل فتاةٍ بعد زواجها ب ٤٨ ساعةٍ على يد زوجها "لأنها رفضَت إعطائه حقّه الشرعي" على حدّ قوله. في الواقع، سجّل مرصد العنف القائم على النوع الاجتماعي نحو 415 جريمة ضدّ النساء في عام 2020، ما بين قتل، وشروع في القتل، وضرب، وابتزازٍ وتحرّشٍ جنسي إلكتروني.

بعدها، عاد المُحقّق إلى عنوان آية على البطاقة والمُسجّل في محافظةٍ أخرى غير القاهرة، وأخبرها أنّ عليها الذهاب إلى محافظتها لتحرير البلاغ، ثمّ خبط بيده على المكتب وصرخ قائلًا: "إنتِ سايبة بيت أهلك وعاوزاني أساعدك؟ طبعًا لاء". عندها تفتّق ذهن زميله، المحقّق الآخر، عن حلٍّ يقضي بحذفها تطبيق واتساب، قائلًا: "إن كنتِ لا تريدين التعرّض للانتهاك، فالأفضل ألا تستخدمي الإنترنت". 

قلّما يتمّ الاكتراث بالقانون، فثمّة وصايةٌ فاقعةٌ تمارسها الأجهزة الأمنية حتّى في القضايا العادية

لم تصدّق آية ما سمعَته، فقد تحمّلت المعاملة الذكورية المسيئة من المحقّقَين ولم تجد منهما سوى الاستخفاف بأمنها، فخرجَت من المكتب منهارة.

في الواقع، تنصّ المادة 25 من القانون 175 الصادر في عام 2018، والذي يتناول مكافحة جرائم تقنية المعلومات، أنه "يُعاقب بالحبس مدةً لا تقلّ عن ستة أشهر، وبغرامةٍ لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتَين العقوبتَين، كلّ من اعتدى على أيّ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياة الخاصة أو أرسل بكثافةٍ العديد من الرسائل الإلكترونية لشخصٍ معيّنٍ من دون موافقته، أو منح بياناتٍ شخصيةً إلى نظامٍ أو موقعٍ إلكتروني لترويج السلع أو الخدمات من دون موافقته، أو نشر عن طريق الشبكة المعلوماتية أو بإحدى وسائل تقنية المعلومات معلوماتٍ أو أخبارًا أو صورًا وما في حكمها، تنتهك خصوصية أيّ شخصٍ من دون رضاه، سواء كانت المعلومات المنشورة صحيحةً أو غير صحيحة".

لكن قلّما يتمّ الاكتراث بالقانون، فثمّة وصايةٌ فاقعةٌ تمارسها الأجهزة الأمنية حتّى في القضايا العادية. هذا ما تقوله المحامية الحقوقية والمهتمّة بقضايا النساء، هالة دومة، مستذكرةً أن إحدى موكّلاتها "تعرّضَت للنصب، فيما أخذ المحقّق يسألها: لماذا فعلتِ ذلك؟ ولماذا ترسلين أموالًا لشخصٍ لا تعرفينه؟ فما بالك بقضايا العنف، والقضايا التي تتعلّق بأجساد النساء؟ تمارس هذه الوصاية بشكلٍ غير ملموسٍ بحيث لا تستطيع الضحية إثبات الأمر أو القول إن المحقّق يعنّفها. يسألها أسئلةً مثل: تعرفيه منين؟ وليه بتعملي كده؟". 

معظم البلاغات لا تستطيع الإيقاع بالجاني، فالبلاغ يصل إلى النيابة ويبقى هناك لشهور، وقد يفاجَأ المحامي/ة أحيانًا بحفظ البلاغ

وتضيف هالة أنّ "معظم البلاغات لا تستطيع الإيقاع بالجاني، فالبلاغ يصل إلى النيابة ويبقى هناك لشهور، وقد يفاجَأ المحامي/ة أحيانًا بحفظ البلاغ. أمّا الضحية التي تصل لحقّها، فيكون ذلك ثمرة إصرارٍ كبيرٍ وجهدٍ مضنٍ من المحامي/ة الخاص/ة بها، علمًا أنّ البلاغات في 90% من الحالات لا تصل إلى المتّهم بسبب تخاذل الجهات الأمنية، وفي 10% منها لأسبابٍ أمنيةٍ مثل تعذّر الوصول إلى المتّهم لاستخدامه شبكةً خاصةً افتراضيةً (VPN) أو لإقامته خارج مصر". وتقول هالة إنها أصبحَت تعلم من البداية أن البلاغات التي تقدّمها لمباحث الإنترنت "سوف تُحفظ، وسوف تقدّم بعدها دعوى تظلّم، فيما لا يجوز أن يكون الواقع مماثلًا".

النساء المصريّات مستباحات، سواء في المجال العام الفعليّ أو في الفضاء الإلكتروني. فقد تصحو فتاةٌ يومًا لتجد صورها الشخصية أو عنوان سكنها ورقم هاتفها منشورًا على الإنترنت. إنّ مكافحة العنف ضدّ النساء، الذي أصبح أشبه بظاهرةٍ وبائية، تتطلّب تدخّل الدولة جدّيًّا من أجل حمايتهنّ وتحقيق العدالة الناجزة للّواتي يتعرّضن للتهديد من أشخاصٍ مجهولين كانوا أم معلومين، لا فرض الوصاية عليهنّ والاستخفاف بأمنهنّ.