لا يخفى على أحدٍ الحملة العنصرية الشديدة التي يواجهها السوريّون/ات في تركيا، حيث ازدادَت في الفترة الأخيرة العنصرية التي يبديها الأتراك ضدّهم بسبب تأجيج خطاب الكراهية الواضح عبر وسائل الإعلام التركية ومواقع التواصل الاجتماعي، قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية مطلع عام 2023. لكن كثرٌ لا يعرفون عن العنصرية التي يواجهها السوريّون/ات الكويريّون/ات على تطبيقات التعارف في تركيا، من عنصريةٍ لفظيّةٍ قد تصل في بعض الأحيان إلى الضرب أو ما هو أسوأ من ذلك!
إنّ عدم إجادة البعض اللغةَ التركية كان له أثرٌ سلبيّ، بحيث تفاقمَت العنصرية على تطبيقات التعارف ضدّهم بسبب استخدامهم/ن اللغة العربية في أثناء فترة التعارف. وفي بعض الحالات، كان لنجاح بعض المثليّين/ات السوريّين/ات - وكذلك غير المثليّين/ات - في حياتهم/ن المهنية دورٌ مؤجّجٌ للعنصرية، حيث يرى بعض الأتراك أنّ هؤلاء الأجانب أخذوا الفرص من أمامهم في بلادهم.
من أين أنت؟
مهنّد، طبيبٌ سوريّ مثليّ مقيمٌ في جنوب تركيا، يشاركنا سؤالًا يظهر دائمًا عند الحديث بلغةٍ غير التركية، فيقول: "أتحدّث باللغة الإنكليزية عبر هذه التطبيقات، فهي لغتي الثانية، وما إن يبدأ الحديث حتى يأتي سؤال: من أين أنت؟ في تركيا، تحمل الإجابة الصريحة على هذا السؤال احتماليةً عاليةً للتعرّض للعنصرية والتنمّر. أحاول التهرّب، لكن عند الإلحاح أجيب بأنّني سوري، وفي كثيرٍ من الأحيان يقوم الآخر بحظري، وفي أسوأ الأحوال، يشرع بشَتم السوريين مع جُملٍ من قبيل: "اخرجوا من هنا"، أو "عودوا إلى بلدكم"؛ مع أنّ العديد من محدّثيّ هم من الفئة المثقّفة المتعلّمة من الأتراك. ولتفادي كلّ ذلك، أصبحتُ أردّ مؤخرًا بأنّني أوروبي".
لا تقتصر العنصرية على فئةٍ معيّنة، فكثيرٌ من الجامعيّين وحمَلة الشهادات العليا من العاملين في القطاعات العامة والخاصة، يضمرون عنصريةً في كلامهم وإن بطريقةٍ مبطّنة.
سام، شابٌّ سوريّ مثليّ في العشرينات من العمر، بعد تعرّضه لكثيرٍ من الرسائل العنصرية أصبح يفضّل الكذب عندما يُطرح عليه سؤال "من أين أنت؟"، لاسيّما أنّ ملامحه لا تبدو تركيةً وفق التصوّر السائد، وهو يستخدم اللغة الإنكليزية على تطبيقات التعارف. يقول سام: "أخبرهم بأنّني لبناني/إيطالي"، ويتابع: "الأتراك يحبّون الأوروبيّين وأنا أتكلّم لغاتٍ عدّة. لكنّ ثقافتي ولغتي لا تشفعان لي إن عرفوا بأنّني سوري، إذ أُصبح في نظرهم عدوًا أو إنسانًا من الدرجة العاشرة، ولا يقبلون الحديث معي أو الخروج للقائي. منذ أن بدأتُ بالكذب في شأن مسقط رأسي، استطعتُ الخروج مع بعض الأشخاص لكن بحذرٍ شديد".
خرق حاجز اللغة… من دون طائل
تعلّم العديد من السوريّين/ات اللغة التركية وأصبحوا يتحدّثون بها في حياتهم/ن اليومية، ومن خلالها يحاولون التنصّل من سؤال بلد المنشأ. ينجح البعض منهم/ن في تجنّب هذا السؤال، أمّا البعض الآخر فلا يتعرّض له طالما أن المحادثة مستمرّة باللغة التركية، كما هو الوضع مع ياسين، الشاب ثنائيّ الميول الذي يقيم في اسطنبول. قدِم ياسين إلى تركيا في سنٍّ صغيرة، وتعلّم في المدارس التركية حيث واجه العنصرية والتنمّر، ما دفعه إلى إتقان اللغة التركية بشكلٍ جيّد. وعندما بدأ باستعمال تطبيقات التعارف لم يعُد يستخدم سوى اللغة التركية. يقول ياسين: "عندما أتحدّث مع الشبّان على الإنترنت لا أواجه العنصرية، لكن عندما أقابلهم ويعلمون بأنّني سوريّ، تتغيّر طريقة تعاملهم معي إلى حدٍّ كبير. البعض ينهي العلاقة بلطف، والبعض الآخر يخبرني بشكلٍ صريحٍ أنّ عليّ العودة إلى بلدي والدفاع عن أرضي!".
لا تقتصر العنصرية على فئةٍ معيّنة، فكثيرٌ من الجامعيّين وحمَلة الشهادات العليا من العاملين في القطاعات العامة والخاصة، يضمرون عنصريةً في كلامهم وإن بطريقةٍ مبطّنة
تمتدّ العنصرية لتطال أيضًا تطبيقات التعارف الخاصّة بالنساء المثليّات. تحدّثنا مع سارة، وهي شابّةٌ مثليّةٌ عاشَت في اسطنبول لسنواتٍ عدّةٍ قبل اللجوء إلى ألمانيا. أخبرَتنا أنّها تعرّضَت للعديد من المواقف العنصرية على الإنترنت لدى معرفة الطرف الآخر بأنّها سوريّة. تقول سارة: "تعرّفتُ إلى إحدى الشابّات، واستمرّ حديثنا لأيامٍ عدّةٍ على نحوٍ عميقٍ وجميل، ووجَدنا الكثير من العوامل المشتركة بيننا، مثل أذواقنا في الموسيقى. كانت تتكلّم اللغة الإنكليزية، واتفقنا على اللقاء، لكن عندما عرفَت أنّني سورية، أخبرَتني بصراحةٍ أنّها تخاف من السوريّين وأنّها لا تستطيع بناء علاقةٍ جادّةٍ مع فتاةٍ سورية، واعتذرَت مني وحظرَتني".
حتّى الجنسية الثانية لم تنفع
علي، شابٌّ سوريّ أميركي زار تركيا مؤخرًا، يحدّثنا عن تعامل بعض الأتراك معه عندما يخبرهم أنّه أميركي، ثم اختلاف ذلك التعامل عندما يرون صورته ويدركون أنّه يشبه السوريّين وفق التصوّر السائد. يقول علي باستغرابٍ وحيرة: "تواصل معي العديد من الأتراك على أحد تطبيقات التعارف راغبين بالتعرّف إليّ باعتبار أنّني زائرٌ من أميركا. لكن ما إن يبدأ التعارف وتبادل الصور، حتّى يبدأ كثرٌ بتكذيبي والتشكيك بكلامي. وعندما أوضح الأمر، أُفاجأ بوابلٍ من الانتقاد والاستهجان وحتى الشتائم من بعض الشبّان، في حين يخبرني البعض أنّ عليّ الذهاب إلى سوريا لا القدوم إلى تركيا لأنّه من غير المرحّب بي هنا!".
في لقاءٍ على فنجان قهوةٍ في مدينة غازي عنتاب مع سافاش، وهو شابٌّ تركيّ مثليّ يعمل مختصًّا نفسيًا في ولايةٍ تركيةٍ شمالية، أخبرَني أنّ على السوريّين العودة إلى بلادهم لأنّ تركيا لا تستطيع تحمّل أعبائهم. وعندما أخبرتُه عن الخطر المحدق بالسوريّين عمومًا والمثليّين/ات والعابرين/ات منهم/ن خصوصًا في سوريا، أجابَني بأنّها ليسَت مشكلة تركيا، وأنّ على السوريّين تحمّل مسؤولية الحرب الجارية في بلادهم/ن، وأنّه لا يعبأ - كما الكثير من الأتراك حسب تعبيره - لِما قد يصيب السوريّين/ات في حال عودتهم/ن.
من السرقة والضرب إلى الترحيل
تخطّى الأمر مجرد الكلام، فقد تعرّض العديد من المثليّين والمثليّات السوريّين/ات1 للضرب أو السرقة لدى اللقاء بشبّانٍ أو شابّاتٍ أتراك بعد الاتفاق معهم/ن على تطبيقات التعارف، في حين لا تهتم الشرطة بالشكاوى المقدّمة من السوريّين/ات، بل تقوم في بعض الأحيان بترحيلهم/ن2 إلى مناطق سيطرة الجماعات المتطرّفة في سوريا إذا ما قدّموا بلاغاتٍ ضدّ مواطنين/ات أتراك.
لا تهتم الشرطة بالشكاوى المقدّمة من السوريّين/ات، بل تقوم في بعض الأحيان بترحيلهم/ن
ماريا، صبيّةٌ سوريّةٌ عابرةٌ في العشرينات من العمر، تعرّضَت للضرب لدى لقائها بشابٍ تركي كان برفقة أصدقائه. انهالوا عليها بالضرب وسرقوا كلّ ما كان بحوزتها، بالإضافة إلى هويتها وهاتفها المحمول. تقول ماريا: "كنّا نتحدّث على التطبيق لأيامٍ عدّة، كان لطيفًا جدًّا ما شجّعَني على الخروج معه، لأُفاجأ بثلاثة أشخاصٍ آخرين قاموا بضربي وسرقتي في وسط الشارع. بقيَت آثار الضرب على جسدي لأكثر من شهر، ولم أستطع أن أقدّم بلاغًا للشرطة خوفًا من ترحيلي إلى سوريا، فهناك قد يقتلني أهلي لأنّني عابرة جندريًا".
في الواقع، أطلقَت الحكومة التركية في خلال الشهرَين الماضيَين "حملةً أمنيةً" لترحيل ما يزيد عن 16 ألف مهاجرٍ غير شرعي، وأكّد ذلك تصريحٌ لوزير الداخلية التركية علي يرلي كايا. وتحدّث ناشطون عن أنّ مئات المُرَحّلين/ات هم سوريّون/ات مقيمون/ات تحت الحماية المؤقّتة3 في تركيا، رحّلَتهم الحكومة التركية إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية في شمال سورية تحت مسمّى العودة الطوعية، في حين يخشى عشرات المُرَحّلين/ات المثليّين/ات على حياتهم/ن وسلامتهم/ن في ظلّ الوضع الحالي في شمال وشمال غرب سورية، من تدهورٍ اقتصاديّ واجتماعيّ وأمني، وعلى رأسه سيطرة الجماعات الجهادية المتطرّفة.
في ظلّ هذه العنصرية المقيتة، يفضّل الكثير من السوريّين/ات المثليّين/ات البحث عن سوريّين وسوريّاتٍ وعربٍ على تلك التطبيقات. وفيما تحاول بعض تطبيقات التعارف المساعدةَ في توعية وتحذير المستخدِمين/ات من بعض المخاطر التي قد يقعوا بها في مرحلة التعارف، لا توجد بعد خطواتٌ واضحةٌ لمكافحة العنصرية، ما يحدو بالبعض إلى اعتزال تلك التطبيقات والابتعاد عن التعارف والمواعدة بسبب المواقف التي تعرّضوا لها كما هو الحال مع ماريا. في حين يتابع البعض الآخر استخدامها بحذرٍ وتردّدٍ شديدَين، ويفضّل عدم اللقاء في الحياة الواقعية أو الانسحاب في اللحظة الأخيرة.
- 1 لا تتوفّر إحصاءاتٌ أو تقارير حديثة توثّق تعرّض المثليّين/ات للاعتداءات لأسبابٍ عدّة، منها امتناع أفراد مجتمع الميم-عين عن إبلاغ الشرطة التركية بتلك الحوادث "خوفًا من الترحيل القسري"، بحسب إيما سينكلير ويب، مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش في تركيا، وعدم وجود أيّ جهاتٍ تقوم بتوثيق أو تسجيل حالات الاعتداء تلك، بالإضافة إلى امتناع الحكومة التركية عن مشاركة الأرقام والإحصائيّات ذات الصّلة.
- 2 بالرغم من ندرة التقارير التي توثق حالات ترحيل السوريّين/ات من أفراد مجتمع الميم-عين من تركيا، وثّق مشروع أمان حالة اختفاء امرأة سورية عابرة بعد ترحيلها إلى داخل سوريا.
- 3 قانونيًا، الحماية المؤقتة لا تعني اللجوء. ولا يُتاح طلبُ اللجوء للسوريّين/ات في تركيا إنّما الحماية المؤقتة، ولا تعطى صفة اللاجئ قانونيًا لحَمَلة بطاقة الحماية المؤقتة. وعلى أيّ حال، أوقف إصدار هذه البطاقات منذ أكثر من عامَين في ولاياتٍ تركيةٍ عدّة.
إضافة تعليق جديد