الرقابة الذاتية في المغرب: تكتيكاتٌ رقمية لا بُدّ منها!

سليمة الزياني المعروفة باسم "سيليا" وليلى نسيمي وسمير برادلي… ناشطون/ات طالبوا بالإصلاح السياسي في المغرب، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو التظاهر السلمي عام 2017 ضمن "حراك الريف"، أو ما قبلها بين عامي 2011 و2012 ضمن حركة "20 فبراير". اعتقلتهم/ن السلطة وعذبتهم/ن وتسبّبت لهم/ن بأضرارٍ جسدية ونفسية مستدامة، ومنذ ذلك الحين أسكت هذا القمع العنيف الحركات الاحتجاجية والمشاركين/ات فيها والمؤيدين/ات لها تدريجيًّا1، رغم ذلك لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تلجأ فيها السلطة إلى القوة، ففي الفترة المُمتدة من الستينات إلى التسعينات عرف المغرب ما يُسمّى بـ"سنوات الرصاص"2، وهي عمليات اختطاف واعتقالات جماعية للناشطين/ات السياسيين خلّفت مناخًا عامًا من الخوف والحذر. 

في الآونة الأخيرة تكرر الأمر عبر محاكمات استهدفت الصحفيين/ات أدت إلى سجنهم3، إضافة إلى حظر بعض الفعاليات السياسية والثقافية والتي تندرج ضمنها التجمعات النسوية، وهو ما فاقم من تراجع حرية التعبير وأحكم السيطرة على الصحافة والمجتمع المدني.
تمدّد الخوف وتوسعت ممارسة الرقابة الذاتية من الصحافة إلى مستخدمي/ات وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدًا النسويات والكويريون/ات ممّن يعبرون عن قضاياهم/ن، إذ أحدثت حالة الخوف تحوّلاً في استراتيجيات التعبير وزادت من تحدّيات معالجة بعض القضايا عبر الإنترنت. فما هي هذه التحديات؟ وكيف تؤثر الرقابة الذاتية على النشر في وسائل التواصل الاجتماعي؟ وكيف يُعبّر عنها الناشطون/ات؟ 

التكنولوجيا: أداة ترهيب؟

حفّزت الثورات والأحداث التي شهدتها منطقتنا منذ عام 2010، الاهتمام البحثي بدور وسائل التواصل الاجتماعي في نشأة وتطوّر الحركات الاجتماعية. ومن جانبها كشفت بعض الدراسات الدور الذي لعبته المنصات في إشعال الانتفاضات، وكيف استخدمت النساء والأقليّات لها بفعالية لإيصال الصوت وتسهيل فرص التواصل السياسي4، إضافة إلى استخدام النسويين/ات والكويريين/ات لها كأداة للنضال في فضاءات حرّة. في المقابل أثبتت دراسات حديثة أن منصات التواصل غالبًا ما تعزز التمييز الجندري والتمييز الاجتماعي، وتطرح تحديات جديدة أمام الفئات الأكثر اضطهادًا في المجتمع؛ مما يجعل الأفراد أكثر عرضةً للرصد والمراقبة لا سيما في الأنظمة السلطوية، لما توفّره من سهولة في التواصل وتعزيز للحضور الرقمي. 
يتخذ استخدام التكنولوجيا كوسيلة لاستهداف وترهيب النسويات والكويريين/ات أشكالًا متعدّدة في المغرب، وذلك لعدّة عوامل من بينها الطبيعة الأبوية والمُحافِظة للمجتمع، والقوانين التمييزيّة ضد النساء وأفراد مجتمع الميم-عين،5 لذا زادت عمليات القمع الأخيرة من الرقابة الذاتية وتقييد حرية التعبير، وهو ما دفعنا لإجراء مقابلات مع ناشطين/ات نسويين/ات وكويريين/ات لفهم مدى ممارستهم للرقابة الذاتية وأنماط تواصلهم عبر الانترنت واستراتيجيات اختيار المواضيع وإعدادات الخصوصية. 

نشأ كريم (شاب في آخر العشرينات) في حضن أمّ عازبة، ما ساهم في إدراكه المُبكِر للظلم المجتمعي، لهذا اضطر لممارسة الرقابة الذاتية منذ المرحلة الابتدائية لإخفاء تفاصيل حياته العائلية، ثم في وقت لاحق صار أكثر ميلاً لتجنّب التعبير عن آرائه خوفًا من السخرية والوصم المجتمعي، والتي عبر عنها من خلال الصفحة التي دشنها على تطبيق "إنستغرام" للحديث عن الجنسانية والممارسات الجنسية، مثل انتشار جرائم اغتصاب الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة في المغرب، والتقصير في تطبيق القوانين التي تحمي ضحايا العنف الجنسي...

يقر كريم باعتماده على الرقابة الذاتية للحفاظ على حريته في التعبير كناشط في مجال العدالة الاجتماعية ويقول "أدركتُ مبكرًا أنه في هذا البلد، وقبل أن تتحدث بحرية في العلن ( قبل ما تحلّ فمك)، يُفرض عليكَ أن تكون نموذجيًّا. ينبغي على المرء الحذر بشكل عام، حتى لو لم يتضمّن كلامه دعوةً إلى الكراهية أو غيرها…لكن ألا يخدم هذا المخزن6؟".

يلتزم كريم بمعايير سلوكية صارمة، كما يُموّه ويُليّن آرائه وتصريحاته لحماية نفسه، لكن هذا يجعله أسير صراعٍ داخليّ ويدفعه للتساؤل: ألا يستفيد المخزن بطريقة غير مباشرة من التواصل الليّن؟ أليس من الأجدى زعزعة الوضع القائم والإشارة إلى التجاوزات؟ يعترف كريم بوجود حق حرية تعبير، ولكن من يُمارسه سيُعتقل - لا سيما عند تجاوز الخطوط الحمراء للمخزن - بتهمٍ ملفقة لتشويه السمعة كما في حالتي الصحفيين سليمان الريسوني7 وعمر الراضي8.

يكفل الدستور المغربي حرية الفكر والرأي والتعبير بكلّ أشكالها (الفصل 25)، وكذلك حرية الصحافة (الفصل 28). لكن الأرقام تشير إلى واقعٍ آخر، ففي عام 2021 تراجع المغرب إلى المركز 136 من إجمالي 180 دولة في تصنيف حرية الصحافة9، ما يُمثّل تراجعًا بـ 16 مرتبة منذ عام 2005. كما يتكرّر إغلاق المواقع الإخبارية الإلكترونية أو اعتقال الصحفيين/ات لأسباب مزعومة مثل الإرهاب والتجسس أو تهم الاعتداء الجنسي. عززت هذه الممارسات القمعية ثقافة عقاب المبلغين/ات عن الفساد والمخالفات بدلاً من مكافآتهم أو حمايتهم.

من الدولة إلى منصات التواصل الاجتماعي

تُظهر بعض الأبحاث اعتقادًا سائدًا بين عدد من الناشطين/ات بأن النشاط الرقمي كان أكثر أمانًا خلال فترة الثورات. يُعزى الأمر إلى أن تقنيات المراقبة والرصد الرقمي التي تعتمدها الأنظمة لم تكن آنذاك بالتطور الذي بلغته اليوم، ما يجعل النشاط الرقمي أكثر خطورة في الوقت الراهن، إذًا تُعدّ السلطة عاملاً رئيسًا في دفع الناشطين/ات لممارسة الرقابة الذاتية، إلاّ أنها ليست العامل الوحيد، إذ توجد عناصر أخرى مثل الخوف من ردود الفعل العائلية أو الأصدقاء أو في المحيط المهني، بالإضافة إلى تفاعل متابعي/ات الحسابات عبر منصات التواصل الاجتماعي. 

ريم شابة في أواخر العشرينات من العُمر، تعمل معالجة متخصّصة في مجال الصحة الجنسية والإنجابية. أنشأت حسابًا عبر تطبيق "إنستغرام" لمشاركة محتوى علمي باللهجة المغربية (الدارجة)، لتوفير معلومات أساسية ونادرة لغير المتقنين للغتين الفرنسية أو الإنجليزية. اختارت إبقاء هويتها مجهولة تفاديًا لردود الفعل السلبية من محيطها العائلي والمهني، ولكنها لم تتخيل أن الأمر سيشمل من يجهلون هويتها فقد فوجئت بأسلوب التعبير العدائي من بعض متابعي/ات حسابها بمجرّد اختلافهم معها في وجهات النظر. لذلك أصبحت تسأل نفسها قبل قيامها بالنشر:

"هل سيجذب المنشور عددًا كافيًا من المشاهدات؟ هل هو مفيد؟ هل سيثير ردود أفعال عنيفة؟ هل يمكن أن يؤذي أحدًا من دون قصد. أحيانًا أتردّد في النشر وأحيانًا أخرى أُلغي المنشور".  

تُسلّط تساؤلات ريم الضوء على وعيها العميق بردود الأفعال المُحتملة من متابعيها ومستخدمي/ات "إنستغرام" عمومًا. أي منشور ما قد يجذب جمهورًا واسعًا وربما ردات فعل عنيفة يصعب تفاديها، وهو ما تُثيره منشورات ريم المتعلقة بالجنس مثل الإجهاض والعلاقات الجنسية المثلية، ما يُعقّد من عملية تحرير محتوى صفحتها. 

الرقابة الذاتية حفاظًا على السلامة

ما تتحدث عنه ريم من ردود أفعال عنيفة على مواضيع المثلية ومجتمع الميم-عين يُعايشه أنس أيضًا، وهو شاب متطوع في ائتلاف لرعاية حقوق مجتمع الميم-عين في المغرب. يحرص الائتلاف على حماية هوية الأشخاص المذكورين في منشوراته حفاظًا على سلامتهم، كما يضع تخطيطًا دقيقًا للمحتوى الذي قد يتغيّر من منصة إلى أخرى. لاحظ الائتلاف أن منصتي "فيسبوك" و "إكس" (تويتر سابقًا) أكثر عدائية تجاه مجتمع الميم-عين من إنستغرام مثلاً، سواء على صعيد الإعدادات الخاصة بالتطبيق أو لنوعية المتابعين/ات. لكن الرقابة الذاتية حاضرة على جميع المنصات: " هناك مواضيع لا نتناولها أبدًا لضمان سلامة فريق العمل. لدينا خطوطٌ حمراء خاصة".

أصبحت الخطوط الحمراء ممارسة شائعة بين الناشطين/ات على الإنترنت، وقد يُسمّيها البعض معايير النشر. ويعد هدف الائتلاف الأساسي نشر المعرفة حول حقوق مجتمع الميم-عين، مع إدراك استحالة تناول كل المواضيع، وضرورة الحذر لضمان استمرارية حساباتهم والائتلاف نفسه: "نحاول ألا نجذب الكثير من الانتباه من خلال منشوراتنا، حساباتنا مفتوحة للجمهور ولا نريد حظر بعض  المشاهدات لأننا نحتاج أيضًا الى أكبر عدد ممكن من المتابعة".
هذا العناء الذي يتكبده الائتلاف لتحقيق التوازن الدقيق بين رفع المشاهدات ورعاية أمان المتطوعين/ات، يعكس طبيعة الخطاب العام المحيط بالمواضيع الحساسة، وتحديدًا الدفاع عن حقوق مجتمع الميم-عين في المغرب. 

من الواضح أنّ معالجة بعض المواضيع، كمناصرة حقوق مجتمع الميم-عين أو الإجهاض أو الجنسانية بشكل عام، غالبًا ما يُشكّل مصدر قلق للناشطين/ات ويؤدي بهم إلى الرقابة الذاتية. لكل منشور القدرة على تعزيز نشاطهم أو تعريضهم للخطر والإقصاء. لهذا يؤدي السعي الدائم لتحقيق التوازن بين التعبير عن الأفكار والحفاظ على دعم المتابعين/ات إلى ممارسة شكل من أشكال الرقابة الذاتية، وهذا ما تشير إليه تجارب كريم وأنس وريم، أن الرقابة الذاتية بالنسبة للناشطين/ات في الحيّز الرقمي واحدة من التكتيكات المستعملة لضمان استمرارية النضال في المغرب، حيث تتشابك الديناميات الخوارزمية لمنصات التواصل الاجتماعي مع السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية.

  • 1

     انظر/ي تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" عن محاكمات غير عادلة جرت في المغرب بين عامي 2008 و2013. 

  • 2

     يُطلق عليها اسم "سنوات الرصاص والجمر"، وهي فترة ممتدة من الستينات إلى بداية التسعينات من القرن العشرين، مارست خلالها السلطات المغربية قمعًا عنيفًا واعتقالات دون محاكمات وكذلك وإخفاء قسري للمعارضين/ات وتعذيبهم في السجون. 

  • 3

    في نيسان/أبريل من عام 2021، أصدرت منظمة العفو الدولية بيانًا حول محاكمة الصحفي عمر الراضي وظروف احتجازه "غير القانونية" لمحاولة إسكاته. لقراءة البيان

  • 4

     انظر/ي  Khamis, S., Vaughn, K. 2011. “Cyberactivism in the Egyptian Revolution: How Civic Engagement and Citizen Journalism Tilted the Balance”, Arab Media and Society 14
    للمزيد
    Yachoulti, M. 2015. “The Feminist Movement in the Moroccan Spring: Roles, Specificity, and Gains”, Sociology Study 5.12, 895‐910

  • 5

    تنصّ المادة 454 من القانون الجنائي المغربي على معاقبة "كل امرأة أجهضت أو حاولت الإجهاض"، بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من 120 إلى 500 درهم مغربي. 

    تعتبر المادة 489 الأفعال الجنسية المثلية جريمة جنائية، يُعاقب عليها بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة بين 200 و1000 درهم.

    تُحظّر المادة 490 العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ويُعاقب عليها القانون بالسجن من شهر إلى سنة. 

  • 6

    المخزن هو مصطلح يشير إلى الحكومة المغربية والملكية وكذلك النخب التي تشارك في حكم البلاد، وأقرب ترجمة صحيحة يمكن أن تكون معبرة عنها هي "الدولة العميقة"

  • 7

    تستعرض منظمة "هيومن رايتس ووتش" في هذا التقرير تفاصيل قضية الريسوني والراضي. 

  • 8

    لقراءة المزيد. 

  • 9

    تصنيف حرية الصحافة لعام 2021 حسب منظمة مراسلون بلا حدود. تراجع تصنيف المغرب إلى المركز 144 في عام 2023، لتعود إلى المركز 120 في العام الحالي. 

سناء أنصار الشطبي

باحثة أكاديمية نسوية، متخصصة في النسوية الرقمية و التقاطعية. تعمل على منطقة شمال افريقيا، و خاصة المغرب. تشمل اهتماماتها مواضيع التصوير النمطي للمرأة والأقليات في وسائل الإعلام، فضلاً عن ممارسات التمثيل الذاتي على منصات التواصل الاجتماعي.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.