تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية: تجارة ببيانات النساء وإرشادات خاطئة

"اكتشفتُ حملي رغم أنني أستخدم تطبيقًا لمتابعة دورتي الشهرية منذ أكثر من خمس سنوات"، تقول سمر (اسم مستعار) وهي لبنانية تبلغ 35 عامًا من العمر: "لحسن الحظ اكتشفت أنه حمل كاذب… فالتطبيق لا يخذلني عادةً، لكنه لا يتكيّف مع التغيّرات التي أمرُّ بها والتي دائمًا ما تؤثر في هرموناتي". 

تمر الكثير من النساء بتجربة مشابهة لسمر في العالم العربي، في ظل ازدياد عدد اللواتي يستخدمن تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية، وهو ما تؤكده  دراسة أعدّتها باحثاتٌ من جامعة "كينج كوليدج" (King's College London) ومعهد التعليم في UCL لندن عام 2022،  والتي أوضحت أنها خذلت كثير من النساء تمامًا كما خذلت سمر، إذ صرح 72.1% من المشارِكات في الدراسة أن دورتهنّ الشهرية تبدأ في وقتٍ متأخر عمّا يتوقّعه التطبيق الذي يستخدمنَه. في المقابل أفادت 6.7% فقط أن التطبيق يتوقّع موعدَ بدء الدورة الشهرية بدقّة في كل مرة. وتؤكّد دراسةٌ أخرى أجراها المركز الوطني للمعلومات التقنية الحيوية عام 2023 أن اضطرابات الدورة الشهرية تصيب من 5% إلى 35.6% من النساء في العالم، ما يجعل توقُّع تاريخ الدورة الشهرية والإباضة باستخدام تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية عملية حسابية غير دقيقة.  

الـ"فيم تيك": صناعة مُغرية وتجارة بيانات بملايين الدولارات

ظهرت تكنولوجيا الـ"فيم تيك" منذ 10 سنوات تقريبًا، وهو مصطلح يقصد به استخدام التكنولوجيا لتقديم خدمات صحية للنساء عبر الإنترنت، تتضمّن الصحة الجنسية والإنجابية والاستشارات صحية والخدمات الذكية وأجهزة تتبع الصحة الحيوية والبيومترية للنساء وغيرها من الخدمات.

اتسع نطاق  تكنولوجيا الـ"فيم تيك" حتى وصلت قيمة سوقها حول العالم إلى 7.81 مليار دولار سنة 2024 وارتفعت إلى ما يفوق تسعة مليارات سنة 2025، ومن المتوقع أن تصل إلى 28.89 مليار دولار أمريكي سنة 2032، وفقًا لتقديرات موقع Fortune Business Insights.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن تطوّر هذه التكنولوجيا الملحوظ والسريع في السنوات القليلة الأخيرة بعد دمجها تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة (Machine Learning) وغيرها من التقنيات الحديثة، جعل التطبيقات المرتبطة مليئة بكمياتٍ هائلة من البيانات الخاصة بالنساء اللّواتي يستخدمنها، وهو ما أظهرته بوضوح قضية تطبيق "فلو" (Flo) لمتابعة الدورة الشهرية بعد أن رفعت إيريكا فراسكو سنة 2021 دعوى ضد الشركة بتهمة تجميع البيانات الحساسة المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية بدون إذن المُستخدمات. وبالفعل أظهرتالتحقيقاتُ التي أجرتها المحكمة العليا في الولايات المتحدة هذا العام أن هذه البيانات بيعت لشركات مثل غوغل (Google) وميتا (Meta) بالإضافة إلى شركات تحليل البيانات مثل AppsFlyer وFlurry. 

تعليقًا على هذه المسألة تقول زينب اسماعيل، الصحافية والناشطة في مجال الحقوق الرقمية في لبنان: "إنّ تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية تُعتبر منجم ذهب لتحديد ملفّات تعريف المستهلك/ة وجمع البيانات؛ فهي قادرة على جمع معلومات عن كل شيء بدءًا من التمارين الرياضية والنظام الغذائي والأدوية وصولًا إلى التفضيلات الجنسية ومستويات الهرمونات واستخدام وسائل منع الحمل".

ورغم من التحديات الناتجة عن خرق الخصوصية والمخاطر المتعلقة بحفظ البيانات - لا سيما الحساسة منها - ما زالت الكثير من النساء يستخدمن هذه التطبيقات لأنها ببساطة تُسهّل حياتهن وتسمح لهن بمتابعة إيقاع دورتهنّ الشهرية لتجنب مفاجأة قدوم الحيض في مكانٍ عام مثلًا، أو الأصعب من ذلك، مواجهة حمل غير مقصود خاصة إذا كانت المرأة عزباء. 

تعلّق زينب اسماعيل على هذه المسألة قائلةً: "قد تبدو هذه التطبيقات تمكينية، لكنها في الواقع تعمل ضمن نموذج رأسمالي يستغلّ بيانات شخصية للغاية من أجل بناء استراتيجيات ربحية من دون احترام خصوصية الأفراد الذين يأتمنونها على هذه المعلومات". 

يتجلي خطر جمع البيانات في تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية كما هو الحال في الكثير من التطبيقات، أي عبر سياسة الشروط والأحكام التي تفرضها. وعادةً ما يكون المستخدم/ة مُلزمًا بالموافقة، وفي الكثير من الأحيان يوافق من دون قراءة سياسة الخصوصية، رغبة في الاستفادة السريعة من الخدمة. من هنا يصبح استخدام التطبيق بمثابة عقْد إذعان لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية المستخدم/ة ولا يفتح أي باب للنقاش بشأن البيانات والتمييز بين ما يمكن مشاركته وما تفضّل المستخدمة أن يبقى سريًّا. 

في وجه هذه المحدوديات، لا يعود هناك أمام المستخدم/ة سوى الامتناع عن الاستفادة من التطبيقات، أو على الأقل محاولة فهم المعلومات التي يشاركها. بمعنى آخر وكما تشرح اسماعيل: "نشجّع الجميع على قراءة سياسة الخصوصية لكل تطبيق يثبتونه على هواتفهم بعناية، لأنها الطريقة الأضمن لمعرفة المعلومات التي يزوّدون التطبيق بها". وتوجّه رسالةً إلى المستخدِمات/ين: "إذا شعرتمن بأي شك إزاء تطبيق معيّن أو لاحظتمن غموضًا في سياسة الخصوصية، فمن الأفضل الامتناع عن تثبيته، لأنكم لا تعرفون نوع المخاطر التي قد تفرضونها على أنفسكمن وأجهزتكمن".

عن أرباحٍ تُدرّ من دماء حيضنا 

بدايةً، لا يمكن النظر إلى جمع البيانات بوصفه مجرّد اختراق للخصوصية بلا هدف، فهذه الكمّية الهائلة من البيانات معرّضة للبيع لصالح عددٍ من الشركات التي قد تستخدمها لتشكيل فهم أعمق لسلوكيات النساء خلال الحيض ولمشاعرهن واحتياجاتهن، فتوظّفها لأغراض تسويقية تحقق لها النسبة الأعلى من الأرباح. 

في هذا الإطار تلفت اسماعيل: "كثيرًا ما تصل هذه البيانات إلى أطرافٍ ثالثة، ما يعني أن المستخدمين/ات يدفعون مقابلًا بينما يحقّق آخرون أرباحًا من معلوماتهم الخاصة، وتشمل هذه المعلومات على سبيل المثال عدد الأشخاص الذين يحاولون الحمل، والممارسات والوسائل المستخدَمة لتخفيف الألم أو التعامل مع متلازمة ما قبل الحيض، وأنماطًا سلوكية أخرى بإمكان الشركات استغلالها للتسويق المستهدف وتطوير المنتجات". 

تُستخدم هذه البيانات بطرق أخرى أيضًا بغية تحقيق الربح، ومنها الإعلانات المباشرة التي تستهدف جميع مستخدمي/ات مواقع التواصل الاجتماعي؛ فمع حصول "ميتا" على بيانات من "فلو" أو غيرها من التطبيقات، يكتسبُ فريق المتخصصين/ات بالإعلانات فهمًا أعمق لاحتياجات النساء فيؤمّن لهن ظهور الخدمات والمنتجات التي يبحثن عنها عبر بيع الإعلانات لشركات تقدّم هذه المنتجات أو الخدمات وتحديد الجمهور المستهدف من النساء، علمًا أن بيانات المستخدِمات تكون في حوزة "ميتا" أو غيرها من الشركات التي تشتري البيانات من تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية، أو تدرج في سياسة الخصوصية حق استخدامها المفروضة على المستخدِمات، وهي سياسات غالبًا ما تؤدّي إلى اختراق خصوصيتهن. 

ترى ميرا عبدالله، وهي مديرة المساواة والإشراك في مؤسسة "وان-ايفرا" (WAN-IFRA)، أن "هذه الممارسات تُعدّ استغلالًا لبيانات صحة المرأة، إذ يُمكن أن تكشف عن أنماط الخصوبة، واحتمالية الحمل، أو بداية انقطاع الطمث. وقد تستخدم الشركات هذه المعلومات في إعلانات مُوجّهة (مثل منتجات الأطفال، وعلاجات الخصوبة)، أو حتى في تحديد مخاطر التأمين، ما يؤثر بشكل غير متناسب في النساء والأشخاص الذين يمرون بتجربة الدورة الشهرية. كما يُمثّل هذا الأمر تسليعًا للتجارب المتأثرة بالنوع الاجتماعي، والتي تُحوّل إلى نقاط بيانات قابلة لجني الربح".

حين تصل البيانات إلى الأيدي الخطأ

بالإضافة إلى الاستخدامات التجارية والربحية، يشكّل وصول بيانات الدورة الشهرية إلى الجهات غير المناسبة، لا سيما في المجتمعات المحافظة أو المتزمّتة دينيًا، خطرًا على المُستخدِمات اللاتي يعشن في بيئة اجتماعية تنظر إلى هذه الموضوعات على أنها من المحرّمات. وقد تصل البيانات من الشركات الكبيرة عبر تسريبات متعمدة أو نتيجة أعطال تقنية مفاجئة، فيُكشف عن معلومات المستخدِمة السرية والخاصة وتُخرق خصوصيتها أمام مجتمعها وتصبح حياتها الجنسية والصحية متاحةً للعلن. في هذا الإطار توضح زينب اسماعيل أن: "بعض التقارير تشير إلى أن سوء استخدام البيانات قد يشكّل مخاطر جسيمة، مثل التأثير على فرص العمل والمراقبة في أماكن العمل والتمييز في التأمين الصحي والمطاردة الإلكترونية، وحتى تقييد الوصول إلى الإجهاض". 

وترى ميرا عبدالله أن مخاوف النساء من تسريب هذه البيانات تُظهر مدى هيمنة النهج الذكوري في التعامل معهن إذ إن "مخاطر الخصوصية تتأثّر بالنوع الاجتماعي، مع العلم بأن النساء غالبًا ما يكنّ أكثر عُرضةً للوصمة والحكم عليهن والمضايقة في حال الكشف عن بياناتهنّ الشخصية".

لا يقتصر تسريب هذه البيانات إلى مضايقات وضغوطات اجتماعية على النساء وحسب، بل قد يُعرّضهنّ للملاحقة المباشرة ويشجّع على استخدام بياناتهنّ ضدهن في محاولةٍ لتكريس سيطرة الدولة والمجتمع على أجسادهن، أو تطبيق القوانين الجائرة على أجسامهنّ حتى لو أتى ذلك خلافًا لإرادتهن.

يعزّز تكديس البيانات بحسب عبدالله السيطرة والإساءة القائمتين على النوع الاجتماعي، وتوضح أنه "عندما تُتتبَّع أجساد النساء وتُراقب، تتعمّق هياكل التحكّم القائمة على الصحة الإنجابية، فعلى سبيل المثال قد تضغط الحكومات أو المؤسسات في بعض السياقات الاجتماعية على الشركات كي تشارك هذه البيانات معها، وهو ما قد يحدث بالفعل ويقيد الوصول إلى الإجهاض أو تجريم خيارات الإنجاب". 

وتعبر عبدالله عن أسفها لحقيقة أن الحل الوحيد لحماية البيانات يكمن في تقويض حرية النساء: "قد يكون لذلك تأثير سلبي على استقلالية المرأة؛ فإذا علم المستخدمون/ات بأن بياناتهمن الإنجابية غير آمنة، قد يتوقفون/ن عن استخدام خدمة التتبّع تمامًا، وهو ما يُقوّض استقلالية المرأة في إدارة صحتها، كما أن الخوف من المراقبة يحتمل أن يُولّد رقابةً ذاتيةً على سلوكيات البحث عن الرعاية الصحية".

المصادر كثيفة لكن ما مدى دقّتها؟

تحصل تطبيقات الدورة الشهرية على المعلومات التي توفّرها للمستخدِمات من مصادر متعددة، فجزءٌ من هذه المعلومات تنشره المستخدمات أنفسهنّ على هيئة ملاحظات عن حياتهنّ الصحية، وقد يقدّمن فيها نصائح لغيرهن من المستخدِمات، ما يساهم في بناء مجتمع من نساء مستخدِمات يتشاورن ويتبادلن المعلومات بينهنّ، فيما تتبرأ التطبيقات من هذه النصائح طبعًا، معتبرةً أنها صادرة عن مستخدِمات قد لا يكنّ ضليعات في الطبّ، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن التطبيق فتح مجالًا أمام المستخدِمات لتقديم نصائح طبية وصحية بحرية أمام الملايين. أما المصدر الآخر الذي تعتمد عليه التطبيقات، فهو الأبحاث العلمية والطبية المنشورة، خاصة تلك التي تركّز على صحة الدورة الشهرية والهرمونات والبيولوجيا التناسلية، بالإضافة إلى الإرشادات والتوصيات الصادرة عن منظّمات صحية معترف بها مثل منظمة الصحة العالمية ووزارات الصحة في مختلف الدول. 

ورغم مصداقية بعض هذه المصادر وتتبّع التطبيقات للأنماط الخاصة بالمستخدم/ة نفسه/ا، تبقى هذه المصادر ثانوية وبحاجة دومًا إلى مراجعات وتعديلات مع صدور أبحاثٍ علمية جديدة بشكل دوري، وهو ما لا تنفّذه تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية، ناهيك عن أن هذه التطبيقات لا يمكنها تقديم معلومات موثوقة تمامًا لأنها ليست جهة طبية مختصة، ولا تستطيع تشخيص كل حالة من حالات المستخدِمات على حدى، ما يجعل معلوماتها الطبيّة غير دقيقة. 

في هذا الإطار، توضح الطبيبة أمل ناصر الدين المتخصصة في الجراحة النسائية والتوليد أن: "بعض التطبيقات التي تتتبَّع الدورة الشهرية تُقدّم معلومات خاطئة توهم المستخدِمات بأن دورتهن الشهرية طبيعية بينما هي ليست كذلك"، وفي ذلك الإيهام إبعاد للنساء عن الاعتناء الجدّي بصحتهن الجنسية والإنجابية، ولهذا تضيف الدكتورة ناصر الدين موضحة: "لا أشترط على مريضاتي استخدام هذه التطبيقات لأن المعلومات التي أطلبها منهن هي معلومات بسيطة وليست بحاجة لتتبّع على التطبيقات". خاصة أن : "الكثير من النساء لا يعرفن كيف يستخدمن هذه التطبيقات ولا يدركن ما هو الطبيعي فيما يتعلّق بالدورة الشهرية. مثلًا قد تظن النساء أن دورتهن الشهرية طبيعية لأنها تحدث كل 40 يومًا بحسب التطبيق، لكن الواقع أن الدورة الطبيعية يجب ألا تتجاوز 35 يومًا بين كل دورة وأخرى".

بالإضافة إلى إمكانية وجود معلومات طبية غير دقيقة على هذه التطبيقات واحتمال ثني بعض النساء عن مراجعة الطبيب/ة المرافق/ة، كما تلفت ميرا عبدالله إلى أن هناك خطرًا آخر يهدد صحة المعلومات على هذه المنصات، مردّه أنها تُدار من قبل شركات أجنبية، إذ تقول في هذا الإطار: "بالنسبة إلى النساء في المجتمعات غير الغربية، تُشكل هذه العلاقة استعمارًا رقميًا، لأن بيانات النساء الشخصية تُستخرَج وتُعالَج وتُستغلّ من قِبل شركات لا تُشاركهنّ سياقاتهن الثقافية أو احتياجاتهن أو حمايتهن، الأمر الذي يعزّز خطر ترسيخ نهجٍ واحدٍ يُطبَّق على الجميع في كل ما يتعلق بالصحة الإنجابية".


تم تطوير هذه المادة ضمن مشروع  شراكة بين جيم  و omgyno و "جياتنا" وهذا المشروع مدعوم من ميدان.

    نورهان شرف الدين

    صحافية لبنانية تغطي قضايا النساء من زاوية بيئية وقانونية ورقمية.

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • سيتم تحويل عناوين المواقع الإلكترونية وعناوين البريد الإلكتروني إلى روابط تلقائياً.