كلوب هاوس سوريا: أن نَبني وطننا المسلوب في غُرفٍ افتراضية

كيف أثّر تطبيق كلوب هاوس على التواصل بين السوريين/ات؟ وكيف بات يصوغ ذلك التواصل علاقاتهم/ن بالمنفى والوطن والذكريات والتطلعات؟

قبل كلوب هاوس

أكره اعتيادي على روتين الحجْر. صباحاتي ضاجّةٌ بالمكالمات والأخبار. أستيقظ وأجدُ نفسي في أقلّ من نصف ساعةٍ مطّلعًا على أخبار سوريا وأخبار الجائحة في بلدانٍ عدّة. لم أعُد أذهب إلى المكتب لأعمل لأكثر من خمسين ساعةٍ في الأسبوع، هذا أمرٌ مُريحٌ نوعًا ما. تركتُ درع المُحارب الباحث عن الخلاص مُلقًى فوق السرير، ووجدتُ نفسي تائهًا مُجددًا في دوّامة الأحداث السّورية التي حاولتُ مرارًا وتكرارًا النجاة منها.

كنتُ أعلم مُسبقًا بقدوم العاصفة الثلجية. نهضتُ من سريري وارتديتُ ملابس دافئة. كان البرد شديدًا حتى أنّ الكهرباء انقطعَت، وهو أمرٌ لم يحدث قطّ طيلة سنواتي السبع هنا. "بسيطة، فأنا سوري ومُعتادٌ على انقطاع الكهرباء"، قلتُ لنفسي وأنا أعدّ كوب القهوة.

ازداد البرد مع كل رشفة، ولم أشعر أنني بخير. قرّرتُ الذهاب إلى أحد المقاهي القريبة والتكلّم مع بعض الأصدقاء. كلّ علاقاتي تحتاج إلى الإنترنت. 

اتصلَت بي حبيبتي من دمشق وشرَعت تصفُ لي الطقس هناك بكلّ تفاصيله، وتخبرني عن سهرتها وكم تشتهي لو كنتُ معها. تحدّثني عن المقهى الجديد الذي بدأت تعمل فيه. أتخيّلها تعمل وأشعر أنني لا أدرك معنى مرور الوقت. كنّا طلابًا عندما اضطُررتُ إلى مغادرة البلاد. والآن، أصبحَت حبيبتي تعمل. أشعر أنّي أدرك للمرة الأولى ثقل الزمن الذي مرّ وأنا بعيدٌ عنها. يأخذنا الوقت، وعليها الآن أن تذهبَ وتغتنمَ موعد عودة الكهرباء، فروتينها في دمشق يتمحور حول توفّر الكهرباء والبنزين. تمازحني قائلةً "سوريا تلاحقكَ أينما ذهبت، فها أنتَ من غير كهرباء مجددًا". أجلد ذاتي لامتعاضي من صباحٍ واحدٍ بلا كهرباء.

أكلّم معالجتي النفسية. أشرح لها ما حدث معي وأقول ممازحًا أنّي اعتدتُ على مزايا دول العالم الأوّل، فلم أعُد أحتمل انقطاع الكهرباء. تستوقفني لتشرح لي بأنّ الوضع الطبيعيّ هو ألا نحتمل البرد، وأن ننزعج من انقطاع الكهرباء ونكتئب بسبب الظروف القاسية، لا العكس. تؤكّد لي بأنّ مواقف كهذه ستجعلني مُضطربًا على نحوٍ حادٍ لأنّها جزءٌ من التروما التي أعاني منها. 

في غُرف كلوب هاوس

في الأسابيع التي سبقَت الذكرى العاشرة للثورة السّورية، بدأ العديد من الناشطين والناشطات السوريّات بالتجمّع في غُرف كلوب هاوس. كُثرٌ ممّن انضمّوا أتابع أخبارهم/ن وكتاباتهم/ن على فيسبوك أو تويتر، لكن كانت هناك حميميّةٌ جديدةٌ لهذه العلاقات الرقمية بفضل كلوب هاوس. تتجسّد هذه الحميميّة في سماع أصوات الجميع بمختلف اللهجات السّورية، ومعرفة ما يضحكهم/ن، وأسلوب مزاحهم/ن، وخلافات المطابخ وحديث الشاورما الذي لا ينتهي. صحيحٌ أنّ وجودي في غرفٍ سوريةٍ في تلك المرحلة قلّل من شعوري بالوحدة والاغتراب، لكن كلما تذكّرتُ أنّ كلّ هذا افتراضيّ وغير حقيقيّ، يزداد حزني.

كانت غالبية الغرف السّورية على كلوب هاوس تُناقش الأزمة السّورية. تكلّم البعض عن اعتصام السفارة اللّيبية في دمشق في ذكراه العاشرة. كثيرون وكثيراتٌ يعتبرون ذلك اليوم شرارة اندلاع الثورة السّورية. أذكر عندما رأيتُ العلَم اللّيبي الجديد يُرفع في السفارة في العام الأوّل من ثورتنا، والأملَ الذي بثّه في نفوسنا. وتكلّم أهل درعا عن الانطلاقة الأولى للمظاهرات في منطقتهم/ن، وأهلُ حلب وحمص عن أيّام الحصار. هذه القصص الحقيقية عن الثورة على لسان أشخاصٍ كانوا شهودًا عليها، لطالما تمنيّتُ سماعها بعيدًا عن الخطابات الرسمية لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية.

كانت الغرف النسوية والكويريّة من أهمّ الغرف السّورية على كلوب هاوس، فسَماعُ تجارب النساء وخبراتهنّ في الثورة والحرب والهجرة أمرٌ عظيمٌ ينبغي تدريسُه

في غرفٍ أخرى، تشاركنا قصص اللجوء الذي سعينا إليه بكل الطرق الممكنة، ومشاعر المنفى التي تلَته، ومعنى أن نُهجّر قسرًا من بلادنا. كنّا جميعًا نعاني اضطرابات ما بعد الصدمة، إذ جئنا من سوريا وكان لكلٍّ منا تاريخٌ شخصيٌ من الخيبات والإحباط.

كانت الغرف النسوية والكويريّة من أهمّ الغرف السّورية على كلوب هاوس، فسَماعُ تجارب النساء وخبراتهنّ في الثورة والحرب والهجرة أمرٌ عظيمٌ ينبغي تدريسُه. سمعتُ من بعضهنّ كيف شيّدن مدارس في مُدنٍ كانت تختنق تحت الحصار، وكيف وجدنَ السُبل لمساعدة طالبي وطالبات اللجوء وتسهيل الإجراءات لهم/ن. تحدّثنا في هذه الغرف عن صعوبة التعبير عن اختلافاتنا وهويّاتنا الجندرية عمومًا، وفي ظلّ الحرب تحديدًا. كما تحدّثنا بقلوبٍ مفتوحةٍ عن مشاعر العزلة والوحدة، وعلاقاتنا المُرتبكة والمُهتزّة والسّطحية مع عائلاتنا. نُعاني من الذكورية والتعصّب حتى في دوائرنا الضيّقة التي نظنّها تقدّميةً ومُعارِضةً للسلطة السياسية والدّينية التقليدية.

كان الحديث عن ضرورة خلق مساحاتٍ آمنةٍ ثريًا ومُلهمًا بالنسبة لي، لاسيما أنّ العديد من مؤيّدي/ات النظام كانوا يقاطِعون نقاشاتنا بطرح أسئلةٍ ساخرةٍ وتحقيريّة، ويكتبون تعليقاتٍ هوموفوبيةً مردّدين الجملة ذاتها التي سمعناها آلاف المرّات: "أنقذوا سوريا قبل أن تتكلموا عن المثلية".

كانت مشاركاتُ الذكرى العاشرة للثورة في غاية الأهمية، إذ تنوّعَت القصصُ وترسّخَت السردياتُ التي تُسلَب منّا يوميًا، لكن أيضًا بفعل الحاجة إلى عَيش الشجَن الجماعي. لم أدرك كم كنتُ مفتقدًا إلى الاجتماع في مكانٍ واحدٍ مع أبناء وبنات بلدي. أردتُ أن أحزن على الوضع معهنّ/م. أردتُ أن نحزنَ جماعيًا. أردتُ أن أتكلّم مع الناس وأسمَعهم/ن. جاء كلوب هاوس ليُتيح لي فرصة اللّطم والبوح والمزاح والنقاش والتفكير بصوتٍ مسموع.

بعد كلوب هاوس

مرّت عشرُ سنواتٍ على الثورة السّورية، وما زالَت جراحُنا غائرة. دموع السوريّين والسوريّات التي سمعتُها من خلف الشاشة غالية. نحتاج إلى عناقٍ جماعيّ، إلى مَن يُربّت على أكتافنا ويُخبرنا بأنّ العالم سيتغيّر. نُعزّي أنفسنا بأنّنا نتكلّم ونتشارك التجارب والخبرات ولو افتراضيًا، لكن عندما يخرج الجميع من غُرف كلوب هاوس، نعود إلى صمتِ غرفِنا، وبرد بُلداننا وعزلتنا الأبدية.

في آذار/مارس المنقضي، أكملتُ سنةً في الحجْر، سبعًا في المنفى، وعشرًا في الألم. عقلي يرفض تقبّل حقيقة أن كلّ هذه السنوات مرّت ونحن في الشتات والمنافي. أريد أن أتحرّر من الزمن لأنّي لا أفهم منطقَه. عشرُ سنواتٍ مرّت وأنا أحاول النجاة لا غير. كنتُ في الجامعة عندما اندلعَت الثورة وتسرّب الأمل إلى شراييني. لكن في خلال سنتَين فقط، دقّ ناقوسُ الخطر وحان موعدُ هروبي من وطنٍ سقانا المُرّ وأطعمَنا الخوف.

أصعبُ ما تعلّمتُه من الثورة هو أن المكاسب لا تأتي من دون الخسارة. الثورة لم تُعطِني الأمل فقط، بل علّمَتني المقاومة

بعد عشر سنواتٍ على كلّ ذلك، أجدُ نفسي في مكانٍ مشابه؛ منهكٌ ممّا يُسلب منّي كلّ عام، ومنهكٌ من ثقْل الوقت. أحاول أن أفكّر في كوْني الداخلي. ما الذي أحتاجُه كي أكون بخير؟ كيف أستعيدُ عشر سنواتٍ من عمري؟ كيف أداوي جرح المنفى؟ كيف أشفى من شوقي؟ كيف أتصالح مع ذاكرتي المتلاشية؟ كيف ألتئم؟

أظنّ أنني سأقضي ردحًا طويلًا من حياتي باحثًا عن أجوبةٍ مُستحيلة. كلّ ما أعرفه أنني أقوى بوجود كلّ مناضلةٍ ومناضلٍ سوري، حتى ولو عن بُعد.

نظامُ الأسد لم يسلب منّي الكثير كما فعل مع أشخاصٍ آخرين. سلبَ منّي صديقة عمري وحبّ حياتي، لكنّنا تحدّينا المسافات وأوجَدنا طرقًا للتكلّم يوميًا طيلة سبع سنوات، فحافَظنا على حميميّة علاقتنا. سلبَ منّي أحلامي وطموحاتي فوجدتُ غيرها. سلبَ مني ماضيّ وذكرياتي، وها أنا أعمل كلّ يومٍ لأبقيها حيّة. الأسد سلبَ منّي فُرصَ مقابلة أشخاصٍ كان من المحال ألّا تتقاطع دروبُنا معًا في سوريا، وها أنا أعثر عليهن/م وأبني معهن/م وطننا المسلوب، وإن كان افتراضيًا. أصعبُ ما تعلّمتُه من الثورة هو أن المكاسب لا تأتي من دون الخسارة. الثورة لم تُعطِني الأمل فقط، بل علّمَتني المقاومة.