لماذا لم يغير الحجر الصحي في حياتي الكثير؟

وفاء خيري

 

مرت أسابيع طويلة على ظهور "فيروس كورونا" وبدأ العالم كله بالتغير، كنا جميعًا متابعين فقط لما يحدث في العالم إلى أن أتى علينا نحن الدور وتغيرت حياة الكثيرين بيننا أيضًا، أنشطة تجارية كثيرة توقفت، ومطارات أُغلقت، كما توقفت الدراسة أيضًا وتعطلت الحياة العامة في أغلب الدول العربية، 

بمرور الوقت بدأنا نستمع ونقرأ عن نتائج هذا الفيروس المخيف عبر العالم على المجتمعات، بدأت أرى عبر منشورات الفيس بوك الهلع الذي أصاب الكثيرين، من قبل حتى ما تتصاعد الأمور في البلاد، ورأيت آخرين يوقفون كل أنشطتهم الحياتية فقط لخوفهم وهلعهم الشديد من كل شيء، على الجانب الآخر، رأيت آراء متضاربة حول تعطل الدراسة، وبعدها وبمرور الوقت تم تحديد أنه لن يتم عقد الإمتحانات بالشكل التقليدي؛ وفرح كثيرون من هذه النقطة واعتبروها ميزة عظيمة لما يحدث، بينما ظللت أنا أراقب الجميع عن بعد وبسكون تام، وأتسائل عن معنى الحياة واتأمل في أحوال الناس بين كل هذا، رأيت الكثير من الخدمات المدفوعة تُقدم بشكل مجاني، وكثيرين يتبادلون الأفكار حول الأنشطة التي يمكن ممارستها عن بُعد ومن المنزل، وأتعجب أنا تارة وأضحك تارة أخرى على كل ما يحدث، وكان دائمًا السؤال الذي يدور في رأسي "إلى هذه الدرجة الحياة جميلة وتستحق أن تُعاش؟، إلى هذه الدرجة يخشى الناس على حياتهم؟" حتى من كانوا يتمنون الموت منهم ويتحدثون عن الإنتحار!

مرت الأيام وأنا غير مكترثة لشيء، وما زلت، فقط أراقب من بعيد؛ إلى أن فوجئت ببث مباشر لحفلات بعض المطربين بمناسبة شم النسيم، وبصراحة أقف مشدوهة وسط كل ذلك وأنا أتسائل عن جدوى هذا كله، وأتعجب من أن أرى بثًا على الإنترنت لحفلة لفرقة "كاريوكي" ويتابعهم الجميع، سواء، من كان يحضر حفلاتهم بالفعل في الواقع أو من كان يراهم في الكليبات فقط، ما هذه المساواة المفاجئة!

يمر يومًا بعد الآخر وأرى أصدقاء عدة بعضهم يكتب "سننجو" وآخرين يفتقدون حفلاتهم وأصدقائهم وكل ما كانوا يمارسوه من ترف في الحياة، وآخرين يشتاقون للسفر والحفلات وغيرها من مبهجات الحياة، وأمام ذلك كله أقف متسائلة؟ ولكن ماذا عني؟ وماذا عن المئات حول العالم الذين يعيشون حياتهم بهذا النمط من دون ظهور أي فيروسات! ولم نر في الحياة متعًا نشتاق إليها ونشعر بالحرمان منها كما حرموا هم! وأواصل حياتي الروتينية الرتيبة دون أي جديد يومًا بعد يوم.

أعيش في مدينة صغيرة وفقيرة في صعيد مصر، وإلى وقت قريب لم أكن أُدرك ما معنى أن أكون فتاة صعيدية في مصر، إلى أن جاء الكورونا وأظهر الكثير عن حياة الناس في مختلف بقاع الوطن العربي، وأراقب من بعيد كيف يستعيد الكثيرين ذكرياتهم القديمة ويحلمون بشاطيء آخر يجمعهم قريبًا بأحبائهم، أو حفلة مطرب ما أو سفرية خارج بلادهم، ويندمون على كل لحظة لم يقضوها في المتع والملذات، وأتسائل مع نفسي، هل أدرك هؤلاء قيمة النعم التي يعيشونها حقًا؟

أستيقظ كل يوم وأتناول فطوري مع أسرتي وابدأ بمذاكرة دروس اللغة الإنجليزية التي أدرسها منذ عدة أشهر، عن بُعد، ثم أفتح كمبيوتري الخاص وابدأ بتحديد ما سأفعله اليوم وأنجز شيئًا من مهام عملي، قد يستغرق الوقت ساعات طويلة أو أقل، وبعدها أجلس مع أهلي أو أساعد أمي في الطعام أو تنظيف المنزل، ونجلس ونتسامر مع بعضنا البعض ونضحك كثيرًا على أي شيء، قد نجتمع لحضور فيلمًا أو لقضاء الوقت بأي طريقة، ويتنوع روتيني اليومي تارة أرغب في قراءة كتاب ما وأصارع وقتي لأنظر إلى كتبي المؤجلة وأتحسر على وقتي الذي لا يكفيني لعمل كل شيء أريده، يتنوع روتيني بين الأيام، فتارة أشاهد فيلمًا ما أو أتعلم شيئًا عبر الإنترنت أو نخرج في زيارات عائلية محدودة كل فترة، وأنا هنا لا أتحدث عن روتيني الجديد بسبب الكرورونا؛ بل أتحدث عن روتين حياتي العادي، الذي هو بلا خروجات كثيرة أو احتكاك بالعالم الفعلي لأن ظروف الحياة لم تعطني رفاهية الاختيار والعيش كما أريد.

أعيش في مدينة لا يوجد بها أي سبل للترفيه، لا توجد لدينا سينما أو نعرف ما هو المسرح، ولا يوجد لدينا مولات أو أماكن حيوية للتنزه، أو حتى تُقام حفلات من أي نوع، فقط أخرج مع إحدى صديقاتي للتمشية كل فترة، هذه هي وسيلة ترفيهي الوحيدة، وبالتأكيد في مدينة بمثل هذه المواصفات لا يمكننا أن نأمل كثيرًا في عاداتها وتقاليدها القاسية بالطبع تجاه بناتها، إذ أنني بحكم الواقع المنغلق لا يمكنني أن أفعل أشيائًا كثيرة منها السفر مثلًا، لذا ما الذي سيتغير في حياتي إن أُغلقت المطارات أو فُتحت؟ في كل الأحوال لن أتمكن من الاقتراب لها أو عبر حدود دولتي لأني فتاة صعيدية. 

إضافة إلى كل ما فات يجبرني عملي كصحفية مستقلة تعيش في مدينة نائية، على البقاء في المنزل بطبيعة الحال، لهذا لم يتغير شيء في روتين عملي، أكتب مثل السابق وأشعر بملل تارة من ركود أفكاري أو أضغط على نفسي بسبب تعدد مهامي حسب الوقت والسياق، وهذا نفسه ما يحدث بوجود كورونا أو في غيابها. 

اتأمل الوضع من بعيد وأتسائل بشدة، هل هذه عدالة سماوية مثلًا، ليتساوى الجميع ولو لفترة؟ ليشهد التاريخ أنه لأول مرة يتساوى الغني والفقير، يتساوى من لديه حرية فعل الأشياء ومن يفتقدها؟ حقيقة لا أعرف ما جدوى هذا كله، ولكن اتأمل البشر وأدوراهم في هذه الدنيا. أعرف بالطبع أن الأمور تسوء لدى المصابين وأن الفيروس مدمر وفتاك وكثيرين يتضررون مما يحدث بالواقع، بل حتى إن رؤية الأجواء العامة تتأثر وتركد الحياة يسبب الإحباط، حتى لو كانت حياتنا نحن راكدة فلا نريد أن يتوقف كل شيء في العالم، أعرف أن كورونا ليس خيارًا لأن نقبله أو نرفضه بل هو واقع بكل ما جلبه بمخاوفه وتدميراته وعلينا أن نتعامل معه، ولكني فقط أتعجب على الإنسان باختلاف منظوراته ورؤاه للحياة، وأتعجب من هذه الفترة الغريبة التي تكشف الكثير عن الناس وطبائعهم وعن ضعف إنسان العصر الحديث وتعكس التأملات لنعرف موقعنا من العالم. 

رغم كل الأشياء السيئة التي نتابعها يومًا بعد يوم، أرى أن هنالك توافر للكثير من الفرص المجانية، التي لم تكن لتُقدم مجانًا لولا مثل هذه الظروف، وبالطبع أحاول أن أنتهز كل تلك الفرص، حتى إن كان أغلب يومي لا يتسع لها، ولكن ما أقوله أن حتى الظروف العادية في حياتي لا يوجد بها إلا الفرص الإلكترونية، صعب جدًا أن أجد مناسبة ما أو ورشة في أي مجال وأذهب لحضورها في مكان ما هنا، الأمر برمته مكرر وسخيف. وبين كل ما يحدث أرى أغلبية يحزنون ويحلمون بالغد الذي تعود فيه الحياة لطبيعتها، ويعودوا ليستمتعوا بحياتهم من جديد، وأنا مؤمنة بأن الغمة ستنتهي مهما طالت وسيعود الجميع لحاله السابق، من كان يستمتع ويملك ترف الحياة سيستكملها مرة أخرى، دون حتى أن يشعر أن على هذه الأرض من يعيشون حجرًا صحيًا طوال حياتهم، وأنا هنا لا أقصد من يعيشون ذلك بإرادتهم، بل على من أجبرتهم الحياة على البقاء في بلدان لا يشعرون فيها بتحقيق الذات أو الأمان أو حتى أن يتطلعوا فيها للأمل ويوصموا بأنهم غير واقعيين.