صادقتها على مدى شهرين ونصف... سُررتُ بالتعرّف إلى ملامحها طيلة فترة الحجر الصّحّي، عن كثب هذه المرّة وبشكل مُسترسل... أقتفي أثرها وأرصد خطواتها الحثيثة، محاولا بحرفية قاص تصوير جانب من شخصيتها تصويرا مكثفا له مغزى. لكن بالتفاتة حازمة منها ونظرة ذات معنى، أفْلَتُّ أدوات اشتغالي المنحوتة مدرسيًّا وتسمّرتُ في مكاني أراقب بإعجاب سفرها الظامئ لرحيب الآفاق...
حالة الطوارئ الصّحية التي فرضتها جائحة كوفيد-19، لم تسرق سلامها أو تُدخلها في جحيم قلق مزمن، لأن الحكومة استمرت في دفع أجور موظفي وموظفات القطاع العام، وبالتالي لا تهديد بفقدان العمل مع إمكانية إنجاز بعضه عن بُعد إذا استمرّت حالة الطوارئ وتمّ تمديد فترة الحجر في مرحلة لاحقة. حاجتها للأمان الاقتصادي مُشْبَعة...حُمْرَةُ خدّيها وألَقُ عينيها يُفصحان عن ذلك... تَحَرُّكُها بين غرف شقتها المرتّبة والفسيحة؛ بتمايلها العفوي وهي تدندن ألحانها المفضلة، يكشف استمتاعها بالحياة في الداخل رغم بشاعة أجواء الصمت والحيطة والحذر في الخارج!
لم تشعر يوما بالراحة تحت وجه الشمس كما سائر ذوات الأنفس التي تدبّ على أديم الأرض... أرض الله الواسعة كانت تضيق بها وتحدّ من تلقائيتها وتحرمها من أن تكون "هي" عندما تستيقظ الأميرة في غفلة منه مُطلّة برأسها الخفيف كَبَتَلَة تتشوّق إلى حصّتها من الضوء.
الفضاء الخارجي مجرّد ركح مُبتذل تتقمص فيه دور "ذكورة" لم تحسّ قطعا بالانتماء إلى عالمها بتفاصيله الرتيبة. لكن لا مناص من لعب الدور ولا فكاك من الْتِحافِ هوية عُيّنت لها بسلطة الصفات الخارجية وقوة القوانين البيولوجية... وهل من وسيلة لإقناع ذهنية خاملة منتفعة بضرورة مراجعة بُناها الاجتماعية ونصوصها القانونية ومدوّناتها الأسرية المرصّعة بالثغرات؟ كيف لذهنية تتغذى على القشور أن تفكر حبيبتي فيما يجول بخاطرك وما يعتمل في داخلك وما تحتفظ به مكنونات قلبك من أسرار وكنوز؟
تُحادث نفسها كثيرا، وتنخرط في مونولوغ قصير بين الفينة والأخرى، كما لتُبقي ذهنها متيقظا مُقاوما لمحطّات التنويم والقولبة المبثوثة كالفُطر، والتي لا تتوانى في الارسال والبث بشتى الوسائط الممكنة والأشكال المبتذلة؛ مُمعنة بقصدية بغيضة في رسم الحدود وطبع الثنائيات المقدسة وتبجيل النمط.
كنتُ أغبط استماتتها في الدفاع عن هويتها الجندرية وعدم انكسارها تحت ثقل الاستقبال...كانت تحاجج...تُقارِع السّن بالسّن...تتجرّد للدفاع عن مكاسبها الثمينة ولا تتهاون بدورها في الارسال مؤكدّة في ثقة بقبضة يدها الخشنة الجميلة وبسخرية ماكرة: الاستقبال بدون إرسال يؤدي إلى الاعتلال!
وتفتح نيران جبهتها على التيارات المضادة بلا هوادة وبطريقتها... بناطيل وقمصان وبذلات ملتصقة مشدودة هي تفضيلاتها في اللّباس، ولأنها تفقد راحتها وحيويتها داخل الأزياء التقليدية الفضفاضة؛ لا تحتفظ بقطعة واحدة منها بين أجزاء الصّوان. تجترئ أحيانا على "الذوق العام" فترتدي ألوان فاقعة تشكّك لامحالة في ميولاته الجنسية وتقرأ ذلك من خلال تلصّصات المارّة بل والتفاتهم المتكرّر بدافع الفضول بعد مجاوزته في الطريق.
عادة، لا تحبّ وضع مساحيق ملوّنة وتكتفي في البيت بقلم حمرة خفيف بلون شفتيها الورديتين. لكنها استغلت ظروف الحجر للتبرّج والْمَكْيَجَة ِ على سبيل التسلية وتزجية الوقت...فعلت ذلك على فترات متباعدة لكن ما فتئت أن أعادت علبة الزينة إلى درج الكومودينو وتخلّت عن استعماله...في إحدى خرجات تبضّعها وضعت أحمر شفاه داكن وأحكمت وضع الكمامة على نصف وجهها... كانت تغني بصوت جهير نسبيا لخلو الشارع الرئيس من الحركة وأحيانا تتمايل في سيرها على الرصيف قبل أن تعاود اعتدالها وتقدّمها الآلي المُصطنع في اتجاه السوق المُغطّى...ضحكت كثيرا يومها إبّان إيابها وكيس المشتريات في يدها، وهي تتذكر تحديق بائع الخضر الشاب إليه وهَرْشِهِ الفج المتكرّر أسفل بطنه بينما تحاول هي التأكد من ثبات الكمامة على الأنف، حتى إذا دلفت الشقة تنبّهت إلى عدم خلعها لسوار حول معصمها الأيسر مجدول من خيوط قوس قزح !
سعيدةً مُنطلقة كانت في معظم الأوقات... تُعدّ أكلات بروح مرحة... تواظب على الرياضة وتمارين الرقص...تقرأ بِنَهَمٍ روايات لم تسنح لها فرصة مثيلة كهذه لاقتحام عوالمها واكتشاف طبيعة شخوصها...تتواصل مع أفراد الأسرة- المتواجدة على مسافة ساعات طويلة من السفر- باهتمام دائم وتقدّم الدعم لمن طالته لعنة كورونا بسخاء جزيل... فعّالة، مُعبّرة، مُتحرّكة في بيتها بأسلوبها الفريد... لكن سحابة قلق صارت تُظلل قسمات وجهها كلّما تذكّرت اقتراب موعد إعلان رفع حالة الطوارئ... يجب أن تتهيّأ للدّور من جديد ليتوافق مع "المعايير الاجتماعية" فلا يشذّ عن "النموذج الأصيل"... يجب أن تتهيّأ في قادم الأيام لحجر فرديّ، وتتزوّد بالقدر الكافي من الصبر؛ لتتنفّس برئة واحدة وتكمل المسيرة الشاقة بقدم واحدة وتصفّق لِتَقَدُّمِها البطيء بيد واحدة وتطل من كوّة زنزانتها بعينين دامعتين على عالم موغل في التوحّش والتعصّب والأنانيّة... سلاحها الطّريف هذه المرّة كمامة تُخفي اللّون المفضّل على الشّفاه، وشارب كث ولحية مُدبّبة وكتفين عريضين وعضلات مشدودة وعروق نافرة لفّاء لا تسمح قط برؤية الأميرة التي تهجع داخلي...
إضافة تعليق جديد