أمي رجل البوليس

عندما أفكر في علاقتي مع أمي، منذ الصغر، يصعب علي كثيرا ان أعثر على ولو لحظة واحدة لم أكن فيها امتداداً لمحاولتها النجاة وسط المنظومات الاجتماعية والسياسية القمعية التي تحدد حيواتنا في هذا المجتمع. على مر السنين، لم تكف أمي عن جعلي اداة تثبت بها وتعكس من خلالها صلاحها، لا وبل تفوّقها ضمن المنظومتين الذكورية والرأسمالية. كل لبسة، كل لعبة، كل مشوار، كل دورة صيفية، كل درس، كل نصيحة، كل تنبيه، كل تحذير، كل كلمة مؤذية وكل اطراء. كلها تمتثل امام عينيّ اليوم وهي تصب ضمن مشروع أمي الخالص إلى جعلي انعكاسا أكثر ما يكون جاذبية ومثالية عنها.

تحدثت الكثير من الكاتبات والباحثات النسويات عن دور النساء والامهات خصوصا، كراعيات أساسيات في مؤسسة الأسرة (السياسية بالضرورة)، كحارسات لمنظومة الذكورية. أخبرننا كيف تقع الأمهات في أزمة لا مفر منها، تجبرهن على تطبيع القمع الممارس عليهن وقمع وتهذيب بناتهن بغية الحصول على بعض الحصانة ضمن المنظومة الذكورية ومن أجل حماية أنفسهن وبناتهن من أحكام المجتمع وجلده.

أتسائل هنا عن موقع بعض ما تقوم به العديد من الامهات، ومنهن أمي، من أعمال تحرٍ وتقصٍ وتنقيب وراء بناتهن بشكل يكاد يكون يشكل لهن مصدرا اللذة. منذ صغري، تنامى في داخلي شعور تجاه أمي يصورها كرجل بوليس، يفتش حقيبتي، يبحث بين أغراضي، يقتحم غرفتي، ينتهك خصوصية أمتعتي، لا يخفى شيئ عن عينه الثاقبة ويده العابثة المتسللة. ما الذي يدفع الام الى المبادرة بتفتيش حقيبة ابنتها اذا ما رأتها ملقاة بعيدا عن الأعين؟ ما الذي يدفع الام الى تلك الحالة من التقصي والبحث بكل ما فيها من نشاط وفاعلية؟

لا أجد الجواب بعد. محتمل أن ينم ذلك عن قلق مستمر، نوع من الهشاشة المؤكدة تلف كل من حياتها وحياة بناتها. تلك الحيوات التي تستند في محاولاتها للنجاة تحت طغيان الذكورية الى نكران غير طبيعي لحياة افضل. تلك الحيوات المعلقة على خيط رفيع من الاكاذيب، الغش والتخفي. ان لم يكن كذلك، فلربما تنم مثل هذه الاعمال عن مرحلة متقدمة جدا من تطبيع القمع لدى النساء، وخصوصا الامهات، حتى اصبحن فعلا يجدن نشوة في القيام بعملهن كحارسات وراعيات للنظام الطاغي على أتم وجه.

ولعل كتابتي لهذا النص ردة فعل عصبية، تود فضح هشاشتهن، او تقزيم نشوة نجاحاتهن.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.