منذ مرحلة الطفولة كنتُ أميل إلى الهدوء والسكينة، أفضّل عدم الانخراط في ألعاب الذكور العنيفة وشقاوتهم المعهودة. كانت اهتماماتي فنية، أحببت القراءة والرسم والغناء وحتى الرقص. كنت إلى حدود المرحلة الإعدادية تلقائيا في حديثي، مشيتي وتعبيرات جسدي. ربما جدّيتي وتفوّقي الدراسي كمّ وسدّ أفواه المتنمّرين في الفصل. لكن لم يكن من الصعب عليّ التقاط بعض الرسائل الخفيّة التي كانت تُرْسَلُ داخل حجرة الدرس أو إبان الاستراحة بخصوص حركاتي الأنثوية وبشرتي الناعمة وحاجبيّ الدقيقي الرّسمة، بالإضافة إلى عبارات سمعتها في مناسبات مختلفة بعضها من خلف ظهري: المفعول به! وأحيانا في وجهي: أخ لو كنتَ فقط صبية! لأدرك حينها أني مختلف وأن صوتي الخشن ولحيتي وشعر جسدي فشلوا في إخفاء تلك الأحاسيس والعواطف الرّقيقة التي كانت تفيض جيّاشة من كياني وروحي فتحرّك قلوب أصدقائي من الذكور، بل وتكاد تفقدهم تعقّلهم لولا رزانتي وحكمتي وعدم اهتمامي بالعلاقات الجنسية خلال تلك الفترة.
تعرّفت على توجّهي الجنسي أكثر من خلال عقلي الباطن إذ كانت أحلامي المبلّلة تدور في فلك أمثالي من الذكور، بل أغرمت بطالب جامعي وسيم جدا كان يتردد على المكتبة البلدية وكثيرا ما كنا نتلصّص على بعضنا البعض من بعيد دون أن يجسر أحد منّا على إطالة النظر في الآخر...كان قلبي يخفق بشدة ووجنتاي تحمرّان لمجرّد حضوره. أخيرا قررت الاستفادة من مهارتي في التمثيل والتمويه فوأدتُ هويتي دون رحمة!
اختفت تلقائيتي وتدرّبت على إخفاء "أنا"، وظهرتُ لسنوات طويلة بشخصية مُفبركة جذبت كثيرات من المعجبات وأبعدت عني العديد من الشبهات. لكن نداء "الموءودة" بل وصرختها كانت تعذبني وتُلحّ عليّ في الرجاء أن أخرجها من الحفرة المنسية.
تجارب كثيرة عشتها، ومع مرور الوقت كان لابد من وقفة صريحة مع الذات...كان لابد من استحضار كل جوانب هويتي وكياني...كان لابد من تحرير الرهينة...استعدت بهجتي، وأشرق وجهي من جديد؛ لدرجة أن أحد أصدقائي انتبه للأمر فأخبرته بلغة الواثق المتصالح مع نفسه والمتقبّل لحقيقة مثليته؛ أن سرّ هذه القوة والصحة النفسية مُتاحة لكل شخص قرّر أن يكون فقط ما يُدركه هو عن نفسه، لأن لا أحد سيعرفك بقدر أوْفى وأكْمل وأصدق من نفسك!
إضافة تعليق جديد