الرفض والنبذ والإقصاء العاطفي والاجتماعي، العنف المبنيّ على النوع الاجتماعي، ورهاب العبور الجندري؛ هذا بعضٌ ممّا اعتدنا سماعه وقراءته عن تجارب الأشخاص العابرين والعابرات مع أهاليهمن، وغالبها سلبيّ الطابع.
ربما يكون هذا واقع معظم الأشخاص الترانس، لكن من المهمّ أيضًا أن نمنح مساحةً للتجارب المُختلفة وغير المتوقّعة التي تحمل أملًا حتّى إن لم تكن مثالية، وأن نأخذ مجالًا لسَرد قصصنا الإيجابية مع عائلاتنا، لأنها الشاهد على وجود دروبٍ مُختلفةٍ وحتى مُبشّرة بالخير لنا كأشخاصٍ عابرين وعابرات جندريًا.
سَمِر: أمّي، أمّي وأمي، فمَن أنا من دون أمّي؟
لطالما شعرتُ أنني محظوظةٌ وأحظى بامتيازاتٍ أكثر من أصدقائي الكويريّين الآخرين، فقد كانت والدتي صديقتي منذ صغر سنّي. كانت وما زالت مصدر دعمٍ لي بالرغم من كلِّ ما مررنا به من مآسٍ منذ وفاةِ والدي، معاناتي مع الاكتئابِ وغيره من مصاعب. في سنّ السادسة عشرة، أخبرتُها عن مثليّتي الجنسية وأنا أصارع نوبة هلعٍ تملّكَتني لحظتها. تمكنّتُ من التعبير لأمّي عن إحساسي وفخري بنفسي، واضطُررتُ حتى لتفسير أنّ المثلية ليسَت مرضًا، بل أحد أشكالِ الميول الجنسية الطبيعية، وأني لستُ بحاجةٍ لأيّ علاج، فلا جدوى من علاجِ ما ليس بمرَض. احتضنَتني أمّي يومذاك وعبّرَت عن حبّها غير المشروط لي. أعرف أنّ هذه ردّ الفعل المرغوبة ربّما من كلّ الأشخاص الكويريٍّين/ات، ما يضعني في مركز امتياز، حتّى وإن كان قبول ودعم الأولاد هو الحدّ الأدنى من دور الأهل ومسؤوليّاتهمن.
تطوّرَت علاقتي بوالدتي، فأنا اليوم أبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا، واكتشفتُ أنني بالفعل امرأةٌ عابرةٌ ولستُ رجلًا مثليًّا. كنتُ أخشى إخبار أمّي بهذا الاكتشاف الجديد، فاحتاجَني الأمر خمسة أشهرٍ للإفصاح بأنّني أفضّلُ ضمائرَ المؤنثِ من دون تفسير هويتي، إذ أصابني الخوف بنوعٍ من الشّلل. استصعَبَت والدتي الأمر في البداية، وأعرف أنها تلقى صعوبةً في مخاطبتي بضمائر المؤنث ومحاولة فهم مسائل الترانس التي أشاركها معها. ومع ذلك، لا تنفكّ تستمتع لي وتحاول فهمي بكلّ ما أوتيَت من إمكانيّاتٍ ومعرفةٍ وإن محدودة.
والدتي هي بوصلتي، لاسيّما الآن، فأنا ما زلتُ أحاول اكتشاف نفسي أكثر، والتعرّف إلى سَمِر (Summer) التي لم تحظَ بالضوء كفايةً حتى الآن. أحدِّث والدتي دومًا عن المواقف التي أرى نفسي أشبهها فيها، فهي تملك حسًا فكاهيًّا لا مثيلَ لهُ، ولديها قدرة قديرٍ على مساعدة الأشخاص للشعور بالارتياح وكسر الجليد في المواقف الاجتماعية المُربكة. تأتي أمّي من بيئةٍ متديّنةٍ شبه محافظة، ومع ذلك لم تفشل يومًا في تأمين حضنٍ آمنٍ ومساحةٍ للتعبير والمناقشة. أحبّها وأعرف أن لا شيء بإمكانه كسر علاقاتنا، لكنّي لا أستطيع كبح القلق بشأن المستقبل ومكاني في العائلة في ظلّ عبوري الجندري. آمل في أن تبقى والدتي إلى جانبي أيًّا تكُن ردّات فعل باقي الأقرباء ومواقفهمن.
نجلاء، مُلهِمة المقال
ليس بإمكاني ألّا أكتب عن علاقة نجلاء بوالدتها حضرة، فهي أوّل مَن لفتَ نظري إلى تنوّع وجمال علاقات النساء العابرات بوالداتهنّ.
تتحدّث نجلاء عن نفسها بكلّ فخر، وتخبرُني بأنّها امرأةٌ عابرةٌ تبلغ من العمر واحدًا وأربعين عامًا، كانت تعمل في الماضي مرافِقةً (إسكورت) لتأمين معيشتها. لم تكن الحياة سهلةً لنجلاء، فهي عانت ولا تزال تعاني وتتحمّل رفض أخوتها لها. مع ذلك، تأخذ نجلاء وقتها لوَصف علاقتها بوالدتها حضرة. تقول: "كنتُ أعيش في منزل أهلي مع والدتي حتّى وفاتها منذ ثلاث سنوات. بقائي في المنزل معها كان أفضل ما فعلتُ في حياتي، فهي كانت صديقتي ومصدر قوّتي، ولا تزال. عبّرتُ لوالدتي عن هويّتي العابرة منذ صغري، فكانت تسمح لي بإطالة شعري، ولم تحاول أنّ تغيّر تصرّفاتي أو أن تكبت أنوثتي. لم تكترث على الرغم من الضغط العائلي الذي تعرّضَت له، وكانت دائمًا تردّ بالقول "إنّني أرى ابني بأيّ صورةٍ يرغب بها".
على الرغم من اللّغط بين الميول الجنسية والهوية الجندرية، تقول نجلاء إنّ أمّها تقبّلَتها كما ولدَتها. "كانت دائمًا تعبّر عن مكانتي في قلبها، 'البيت كلّه بكفّ وإنت يا ماما بكفّ، أنت نعمة من ربّنا، الله أعطاني إيّاك'"، كانت تقول.
تتابع نجلاء: "عانت أمّي مع المرض لستّ سنواتٍ تقريبًا، وكنتُ الوحيدة من بين أولادها التي اهتمَّت بها طيلة مرضها وحتى لحظة وفاتها ودفنها. ومع ذلك، لم تضعف علاقتي بها. أزورها دومًا وأدردش معها، الحديث بيني وبينها بالأرواح".
تقول نجلاء إن أمّها هي مدرستها. وتشرح: "علّمَتني أمّي كلّ ما في الحياة من حبّ وقوة ورعاية. أشعر بها دائمًا وبتأثيرها في حياتي، ولاسيّما في معاملتي لقطّتَيّ لوسي وبوسي. قطّتاي بمثابة طفلتيّ، أرعاهما وأطعمهما قبل أن أطعم نفسي، تمامًا كما كانت والدتي تفعل. أجد نفسي أركض خلفهما في المنزل لأربّيهما، كما تفعل أيّ أمّ مع أطفالها".
من الصعب عدم الابتسام والشعور بالأمل عند التحدّث مع نجلاء. تشعرين بالدفء تلقائيًا، وتغمركِ الطاقةُ الإيجابية التي لا تفارقها على الرغم من الصعاب التي لا تزال تواجهها حتّى اليوم.
لِيا والتضحيات للمّ الشّمل مع والدتها
تختلف تجربة لِيا عن تجربتَينا أنا ونجلاء، لكنّها بلا شكٍّ ليسَت فريدةً بين تجارب الأشخاص الترانس.
منذ عامٍ تقريبًا، وبالتزامن مع بدء تناولها العلاج الهرموني، شاركَت لِيا مع والدتها أنّها امرأةٌ عابرةٌ جندريًا. أعطَت لِيا الخيار لوالدتها بين أن تتقبّلها أو أن تخرج من حياتها، إذ لم تشأ أن تتعرّض لأيّ نوعٍ من المعاملة السّلبية وهي تدخل مرحلةً جديدةً من حياتها. للأسف، قطعَت والدة لِيا التواصل معها تدريجيًّا لأنها لم تكن قادرةً على تفهّمها أو حتّى جاهزةً للاستماع إلى تجربتها.
بمرور الأيّام، أصبحَت لِيا أكثر ثقةً بنفسها، فهي ليسَت بحاجةٍ للآخرين لتأكيد أنوثتها أو هويّتها. لكن بالرغم من هذه الثقة والاستقلالية، ظلّت لِيا تحنُّ إلى والدتها وتشتاق إليها. وبعد حوالي سنةٍ على آخر حديثٍ بينهما، تواصلَت لِيا مع والدتها طالبةً رؤيتها. وبعد محاولاتٍ عدّة، تمكّنتا من اللقاء.
تخبرني لِيا بأنّ الجلسة لم تكن مريحةً أو سهلة. كان هناك الكثير من الكلام والمناقشات الحادّة، فوالدتها متديّنة، وحاولَت إقناعها بأنّ كيانها الترانس حرامٌ ومؤذٍ لها، من دون أن تسمع حال ابنتها فعلًا. تقول لِيا: "فسّرت لأمي بين الدمعةِ والأخرى أنّني أعلَم بهويّتي من أيّ شخصٍ أو دين، وأنّي وجدت السعادة والأمان في عبوري".
ثم اضطُرّت لِيا للعودة إلى العمل. وفي الطريق، وصلَتها رسالةٌ من والدتها تطمئنّ فيها عنها، لأنها لاحظَت التوتّر يعتريها عند مغادرتها. كانت تلك الرسالة علامةً إيجابية، وإشارة أملٍ للِيا بتكوين علاقةٍ وطيدةٍ مع أمّها حتى إن لم تكن مثالية.
بالنسبة لنا، نحن النساء العابرات، تلك العلاقاتُ بأمّهاتنا أشبه بالحلم، وقلّما نصادفها في الواقع. ترى لِيا في نفسها الكثيرَ من والدتها، فهي امرأةٌ قويةٌ وجميلة، وتؤدّي دور القدوة في حياة لِيا. والاثنتان تمتلكان ملامح الوجه نفسها تقريبًا، ما يشعر لِيا بقربٍ إضافيّ نحو أمّها.
تختتم لِيا حديثها عن والدتها بالتعبير عن نوعٍ من السّلام الداخلي. وتقول: "تقبّلت أن العلاقة بيننا ليست مثالية، وأنّني سأبقى بحاجة إليها لأنّها تشكّل جزءًا كبيرًا من طفولتي، وقد أدّت دورًا لا يمكن إنكاره في رسم معالم المرأة التي أنا عليها اليوم".
ـــــ ملاحظة
ننشر هذه المادة في إطار زاوية "عبورٌ في المدينة" المُخصّصةٌ للكاتبات والكتّاب والفنّانين/ات والناشطين/ات العابرين والعابرات (الترانس) من المنطقة الناطقة باللغة العربية، من مختلف البلدان، والخلفيّات، والتخصّصات، والهويّات، من مقيمين/ات ومهاجرين/ات. هي مساحةٌ دوريةٌ مفتوحةٌ للأفراد العابرين/ات للبوح والتعبير عمّا يعنيهنّ/م، لاسيّما المواد الآتية:
- حكايات الحياة اليومية التي تُبرِز التجارب والمشاعر والتأمّلات الإنسانية الحميمة.
- المساهَمات المُسيّسة والمُشتبِكة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا مع وقائع العابرات والعابرين في مختلف سياقات المنطقة وبلدان المهجر والشتات.
- التأمّلات الفنّية والفكرية والفلسفيّة في آداب ونظريّات التجسّد والعبور الجندري والهويّاتي، والمعاني الكامنة في تجاربه.
للمساهمة في الزاوية، يمكن إرسال المقترحات إلى البريد الإلكتروني: contact@jeem.me
سياسة المساهمة في جيم متوفّرة على موقعنا.
إضافة تعليق جديد