لقد أصبح التوافق الحقيقي أكثر صعوبة في ظل عالم لا ينتهي من الاختيارات، وفي ظل ظاهرة "الخوف من تفويت متعة ما" الذي نعاني منه كلما ازدادت اختياراتنا في تطبيقات المواعدة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
لم تعد الكتابة عن المواعدة في منطقتنا شائكة أو مجرد تماهٍ مع ثقافة أجنبية كما كانت في زمنٍ سابق. فالعديد من الشباب والشابات اليوم يعرفون الـ dating. وفي ما عدا الموانع الدينية أو الأعراف الاجتماعية التقليدية لدى البعض ممن يفضّلون وتفضّلن الزواج التقليدي المدبّر، فإن البقيّة تبحث عن الـ date القادم، والأغلبية تراقب الـ crush على وسائل التواصل الاجتماعي، والكثيرون والكثيرات تقلقن من كونهم في الـ
بالنسبة لي، فقد بدأت مبكرًا الاهتمام بهذا العالم، بعقل صغير شغوف منذ الطفولة بالعلاقة بين الرجل والمرأة. كتبت خطابي الغرامي الأول من السعودية – حيث كنا نقيم أغلب العام - لطفل يكبرني قليلاً في القاهرة. كنا نراه أوقات اللعب في حوش منزل جدتي، خلال الإجازة الصيفية، "فيتركني أفتقد السعادة التي تطل من عينيه الحلوة" – هكذا كتبت في الخطاب، وبالطبع أفتقد دعاباته السخيفة كذكر مصري يخطو نحو المراهقة، وبعض الضحكات الخاصة المختلسة بيننا.
دفعتني هذه المشاعر المختلطة، إلى كتابة خطاب له، وتكررت العمليّة بعد ذلك، لتجد أمي مجموعة من الخطابات بعد قليل مرتّبة بالتواريخ في حقيبتي البلاستيكية، وتخبرني إنه "عيب جدًا"، "دي حاجات بتاعة كبار"، و"انتم أطفال، أحمد ده صديقك وبس".
طوال فترة الدراسة الإعدادية، كنت نهمة جدًا في القراءة، أقضي أغلب أوقات الفراغ وما بين الحصص الدراسية في مكتبة المدرسة. لم أكن مهمومة بالواقع، بقدر ما كنت مشغولة بالخيال، وبالعلاقات العاطفية التي أقرأ عنها في روايات يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس، وبشكل أقل قليلاً نجيب محفوظ – علاقات روايات محفوظ معقّدة جداً على حكايات البنات في مدرسة السنيّة الإعدادية - حتى اكتشفت صديقة لي روايات عبير المترجمة! وأصبحنا نتبادلها فيما بيننا سرًا، نظراً لطبيعة أغلب القصص التي تحتوي على مشاهد حيّة لممارسة الجنس بين الأبطال، وكنا نتفق أنه لا يمكن لهذه العلاقة الجنسية أن تحدث في مصر، إنها تقتصر على الأجانب فقط.
بعد الدراسة الثانوية ودخولي الجامعة، بدأت رحلة الاختلاط مع زملاء الدراسة، واستكشاف كوكب الرجال. اتسع العالم ولم يعد مقتصرًا على الأقارب وصديق العائلة أو صديق الأخ، ليصبح هناك زميل الجامعة وزميل العمل. تطوّرت رؤيتي للحب قليلاً، وبدأت أبحث عن الرجال الذين قرأت عنهم في الكتب وشاهدتهم في الأفلام.
كأي فتاة، بدأت أفكاري ومواقفي تتطوّر في فترة الجامعة مع النشاط السياسي والطلابي وعبر المشاركة في المؤتمرات والورش التي تقيمها الكلية. اكتشفت بعض الخطابات الغرامية وبعض المحاولات لتقليد قصائد نزار قباني وفاروق جويدة وبعض النثريات على مدوّنتي الخاصة، أنني أستطيع الكتابة، فذهبت للتدريب بالقطعة في صحيفة محليّة معارضة، وانفتح أمامي عالم آخر مع صحفيين وإعلاميين. ثم عملت في دار نشر، فانفتح أمامي عالم آخر من الكتاب والمثقفين أيضًا.
من بين القصص العديدة التي عشتها، اخترت باقة من ألمعها
بدأت في الاختلاف عن زميلاتي. ففي حين كان زملائي في الكلية يرتبون للزواج بشكل تقليدي بعد انتهاء الدراسة، كنت في عالم آخر، ينفتح بشكل أكبر على علاقات التعارف والمواعدة وإن حملت اسم "الصحوبيّة".
من بين القصص العديدة التي عشتها، اخترت باقة من ألمعها، وأولها تجربتي الأولى مع ما أسميته "شبه علاقة"، حيث يستمتع الرجل بفكرة أن هناك من تحبه وتسأل عنه وتهتم به، فيما يتندّر هو على القصة مع أصدقائه. يحاول أن يقنعها أن تستمر في حبه، دون التصريح بوجود علاقة بالفعل، ولكن مع القيام بكل شيء يدل عليها. كنت في بدايات الحلم كما يقولون، معجبة جدًا بالموهبة التي أراها أمامي، ومعجبة بالرجل وراءها. وكان هو يترنح بين أفكار منفتحة وتقدمية وأفكار تقليدية ومحافظة. بالطبع لا نعرف متى يحدث أين، ولذلك نحن لا نتوقع الأفعال، في هذه الشبه علاقة، كانت أولى مواجهاتي مع "التشبّح أو الاختفاء بشكل مفاجئ Ghosting".
فلقد كانت هوايته إغلاق الهاتف فجأة لمدة شهر والانقطاع عن العالم الحقيقي والافتراضي، عدا أناس بعينهم، وبالتالي كنت أجن في محاولة الوصول إليه، أو انتظار ظهوره حين أفشل في التواصل، ليعود بعدها بحجج أو بدون، للاتصالات الهاتفية الطويلة، وقصائد الشعر، وإنكار أنه يحبني في روتين لا يتغير.
بالطبع كان الروتين يتضمن مغامرات مع أخريات، كان يحرص على معرفتي بأنه يحتقرهن، وأنني في مكانة مختلفة، ربما مع بعض الحكايات عنهن وعن محاولاتهن لإغرائه، أو مغامرة سريعة فعلها لأنني أغضبته، في حديث يستدعي التعاطف والحب مرة أخرى.
كانت لدي محاولاتي الصغيرة للخروج من هذا الفخ، ففي مرة حاولت بدأ علاقة مع شاب آخر، فنهرني بشكل واضح وبغيرة شديدة، وعندما عدت باطمئنان، فاجأني بأفكار رجعية عن الزواج والحجاب والمرأة ربة المنزل المصون، ولاحقًا فاجأني ببعض الانفتاح على العالم واحتضاني بلا خجل أمام الأصدقاء، في نوع طريف من الانفصام، لم تستطع سنوات عمري الصغيرة وقتها أن تستوعبه، وظللت لمدة عام ونصف تقريبًا أحاول أن أفهم، حتى سألته بشكل واضح في أحد المعارك بيننا: ما معنى علاقتنا؟ فأجاب بأنني مثل ابنته!
مستوى متقدّم من الإنكار! وهنا بدأت في الاختفاء أنا أيضًا، والخلاص من هذه العلاقة السامة بالتدريج.
الدرس المستفاد: أشباه العلاقات منذ البداية لن تتحوّل إلى علاقات بعد مضي الزمن. الرجل الذي يستخدم تقنية التشبُّح في أي وقت، لا يمكن الاعتماد عليه. اهربي فورًا.
الحياة في وسط أقلّوي يختلف جذريًا عن التيار العام في المجتمع (mainstream)، تكفل المزيد من المتعة والمرح فيما يتعلق بالرجال بالتأكيد، لكنها أيضًا تكفل المزيد من العجائب والغرائب، فها هو الباحث الجاد، والمثقف الملتزم، يُعرّف نفسه أنه "صياد" للنساء، ولكنه لا يستطيع مقاومة جمالي وحبي، ويصر على أن نرتبط حالاً. كنا نعمل سويّة على مشروع بحثي، في سنوات ما بعد الثورة، عندما كانت المساحات تسمح. وبشكل مفاجئ أبدى إعجابه الشديد بي وأخبرني أنه يحبني بالفعل، وأثناء سيرنا في مظاهرة أصر على تشبيك أيادينا أمام الجميع، لنبدأ في علاقتنا الخاصة وتبدأ محاولاتي لاستكشاف تناقضات هذا الشخص.
بدأت العلاقة بخروج في كافيه لطيف وبوكيه ورد، بينما أحاول أنا أن أعرفه أكثر، كان قد انتقل إلى المرحلة التالية تعليقًا على سلوكي ومحاولة تقويمي. كان ينتقد إنفاقي لمالي على اهتمامي بنفسي، كان يفضل أن أوفّر النقود لغرض ما، وأقوم بالاهتمام بنفسي منزليًا. وفي أحد الحوارات، كان يتحدث عن الأموال والعقارات، فأخبرته أنه حر في اختياراته، لتقوم معركة من العدم، مفادها أنني لا أهتم به ولا أهتم فيما يستثمر فيه؛ "تحويشة العمر". جدير بالذكر أن هذا الحوار كان بعد أسبوعين من بداية العلاقة!
بدأ المال والمرتب ومعدلات الإنفاق يأخذون أماكنهم المتقدمة في أحاديثنا، وبدأ في التعليق على توقعاتي في الحياة ويسألني على تفاصيل طبقتي الاجتماعية، ليقارن بين أساليب تربيتنا ونشأتنا، ولينكر أنه يستقبل الأصدقاء في منزله، الذي اكتشفت بعد ذلك أنه كان يستقبل أصدقاءه وغير أصدقائه فيه، وبعد أقل من شهرين، يرسل رسالة مفاجئة فجرًا على برنامج المحادثة، مفادها أنني لا أصلح لتحمل مسؤوليات الحياة الصعبة وأن العلاقة يجب ان تنتهي!
أجبته بالإيجاب طبعًا، رغم يقيني أنه لا يعرفني على الإطلاق، وإنما هو يعرف الصورة المتخيلة في رأسه عني، ولديه بعض المشاكل ذات البعد الطبقي. بعدها بسنوات، اكتشفت أنه يخبر جميع صديقاته وغير صديقاته أنني فتاة سيئة، وأنني نموذج للاستغلال الرأسمالي للفرص وللناس، وإنني علاقة حب طويلة استمرت لسنوات، وأنه يعرف عني كل شيء!
الدرس المستفاد: هناك الكثير من أنماط "المثقفين" "المتحررين" في مجتمعنا الشرقي. إذا كان ُيعرّف نفسه أنه "صياد" ويحتقر النساء اللائي يتمتعن بحريّتهن ولا يشبهن نموذج والدته، ويخلق صراعات طبقية في عقله، اهربي فورًا.
أما الفيسبوك، فله دور بالتأكيد، كنا أصدقاء عليه منذ عدة سنوات، نتابع أحدنا الآخر ونعلّق بمجاملات لطيفة، وتهنئات طيبة بعيد الميلاد، حتى ظهر في يوم في صندوق الرسائل، برسالة ظريفة: نحن لم نتحدث منذ 2009، هذه صداقة افتراضية بالمعنى الحقيقي!" بالطبع قادت هذه الرسالة إلى حوار طريف في محاولة تذكر كيف انتهينا إلى معرفة أحدنا الآخر، ثم إلى تبادل أرقام الهاتف وبعدها بعدة أيام للتعارف بشكل أكبر، ثم إلى موعد date لطيف. كان فنانًا ذو حضور متألق، يتبع الخطوات الرسمية للتعارف كما قال الكتاب.
أعرف ما تقولونه الآن – كان يجب أن أقلق – ولكن في حقيقة الأمر، كنت سعيدة بوجود رجل يستطيع أن يدعو امرأة إلى عشاء رومانسي، وأن يختار مكانًا جيدًا بنفسه، وأن يدير حوارًا لطيفًا وثريًا. تطوّرت العلاقة لمدة شهرين مثلاً، حتى اللحظة التي بدأت أسأل فيها عن نوعية العلاقة وما إذا كنا نستطيع الخروج مع أصدقائنا، أو نذهب إلى مناسبات مشتركة، بدون إجابات لأسئلتي، أو أية قدرة على التواصل.
بدأ الرجل الناضج في الخامسة والثلاثين من عمره، في الهروب من المواعيد، أو تأجيلها لدواعي السفر، والخروج مع فتيات آخريات، دون أي قدرة على إنهاء العلاقة بشكل صريح، سواء في مواجهة أو عبر الهاتف أو حتى عبر الرسائل. لقد كان مذهلاً حجم الطفوليّة التي تعامل بها مع الأمر، حتى توقفت أنا عن الرد على رسائله. وبعد انقطاع، عاد فجأة وبدأ بالاتصال بكثافة كأي ميّت حي "زومبي" يحترم نفسه.
الدرس المستفاد: هناك رجال غير قادرين على التواصل بشكل صحي وطبيعي، وهناك رجال يتصرفون مثل "الموتى الأحياء" Zombie’ing حيث يعودون فجأة من الماضي ليستمتعوا بإفساد الحاضر. لن تستطيعي تعليمهم شيئًا أو تغييرهم. اهربي فورًا.
الدرس المستفاد هنا، هو ألا نفزع من كوننا وحيدات ووحيدين، أو بغير رفيق أو رفيقة
توالت بعدها فترة من ال Breadcrumbing حيث يتسلّى الرجل بكونه موعدًا محتملاً أو علاقة قد تحدث، مستخدمًا وسائل التواصل الاجتماعي لجذب انتباهي، وإثارة الأفكار والخيالات عن اهتمام متخيل من جانبه، في حين يعلم أنني لست على علاقة بأحد، لكنه في نفس الوقت لا ينوي الدخول في علاقة أو حتى الوصول للموعد الأول. هناك من وصلوا للموعد الأول بعد سلسلة من فتات الخبز، لكنهم اختفوا كأشباح بعده، ثم ظهروا كموتى أحياء بعد شهور يسألون عني وعن أخباري!
الدرس المستفاد: الاهتمام عن طريق الإعجاب الإلكتروني أو تحديث الحساب بكلمات من أغنية رومانسية ليس حبًا، ولا يرقى لكونه علاقة. إذا كان الرجل معجب بك فعلًا، فسيخرج معك ويسعى للحصول على قبلة وعلى موعد ثانٍ. إن لم يفعل أو يتواصل معك بشكل مباشر عمّا يمنعه، فهو غير مهتم بكِ ببساطة.
في الحقيقة الدرس المستفاد هنا هو ألا نفزع من كوننا وحيدات ووحيدين، أو بغير رفيق أو رفيقة في سهرات الأصدقاء ورحلات السينما الليلية، كل شخص لديه فترة جفاف جنسي Sex Drought يجب أن يمر بها، خصوصًا بعد الخروج من العلاقات الطويلة، أو بعد الطلاق، حيث تكون معدلات الطاقة في أدناها، وقدرتنا على التعامل مع الآخرين وتحمّل هفواتهم تساوي الصفر.
قد نقابل الكثيرين والكثيرات في مواعيد لطيفة لكنها لا تكتمل أبدًا، وقد لا نجد من نقابله/ا أصلاً ونقضي الليل مع فيلم شاهدناه مائة مرة وبيتزا بالحجم العائلي. لقد أصبح التوافق الحقيقي أكثر صعوبة في ظل عالم لا ينتهي من الاختيارات، وفي ظل ظاهرة "الخوف من تفويت متعة ما" الذي نعاني منه كلما ازدادت اختياراتنا في تطبيقات المواعدة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، لكن في المقابل -والقول الفصل للحسابات الرياضية - كلما زادت تجاربنا ومحاولاتنا للوصول إلى شريك حقيقي، كلما زادت نسبة حصولنا عليها بالفعل!
إضافة تعليق جديد