منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، كان جيل الثمانينات من المثقفين الشباب يسعى إلى التخلّص من رواسب دينية ومجتمعيّة كثيرة، مُحاولين الانعتاق والتحرّر، لكنّ هذا لم يطل قضيّة المساواة بين الجنسين حيث ظلّت النظرة الدونيّة للمرأة ثابتة لا تتزعزع على اعتبار أنّها منبع الإغواء وجميع الخطايا.
كما يقولون، جرَت في النهر مياه كثيرة...
منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، كان جيل الثمانينات من المثقفين الشباب يسعى إلى التخلّص من رواسب دينية ومجتمعيّة كثيرة، مُحاولين الانعتاق والتحرّر، لكنّ هذا لم يطل قضيّة المساواة بين الجنسين حيث ظلّت النظرة الدونيّة للمرأة ثابتة لا تتزعزع على اعتبار أنّها منبع الإغواء وجميع الخطايا.
القدرة على اصطياد الطرائد هي المعركة الذكورية القائمة دائمًا داخل أي مُجتمع يدّعي شيئًا ويتصرّف بعكسه. ازدواجية تتلخّص في احتقار أفكار المجتمع المُحافظ المُتخلّف البطريركيّ الرجعيّ والانصياع لها في نفس الوقت، هكذا هم كثرٌ من ثوريّي هذا الزمن الجديد. الصياد الماهر هو الذي يستطيع أن يتعامل في نفس الوقت مع أكثر من فريسة، وكيف لا وهو المُثقّف التقدميّ التنويريّ الباحث دائمًا عن المغامرة والإثارة. زوجته ربّة بيت ممتازة، تُحسن طبخ أشهى المأكولات وتعرف كيف تُغيّر حفّاظات الأطفال. زوجة مُطيعة لا تحشر أنفها في السياسة ولا ترتاد المسارح والنوادي الثقافيّة. يجلس المثقّف المتأمّل في المقهى ليروي على مسامع رفاقه المثقّفين المتأمّلين قصّة الرجّل المُعذّب والمُمزّق بين زوجة غير قادرة على احتواء غربته وأفكاره العظيمة وأطفال أعزّاء على قلبه لا يستطيع الاستغناء عنهم. يستحق دائمًا حبّ المرأة الجديدة، المرأة المتحررة المناضلة التي يظهر معها في دوائر أصدقائه لكنه لن يلتزم بأي مسؤولية تجاهها. وربما يستخدم الزواج كحجة واضحة في وجه أية محاولات لاستمرار العلاقة أو اتخاذها شكلا أكثر جدية. أما إذا كان عازبًا، فالعلاقات "العدميّة" هي مساره، علاقات قصيرة ولاهثة، تُضيّع وقته وطاقته وتُشعره في نفس الوقت بإنجازِ ما.
أصبح "استخدام" الجنس هنا حلا مؤقتًا لسد الفراغ. الخواء الداخلي الذي يتّسع مع كل هزيمة. لم يعد العالم مصبوغًا بالأحمر، فقد تبخّرت السرديّات الكبرى التي كان المثقّف اليساريّ يسير في ركبها ويشعر بالانتماء لها.
يبدأ في حبك حلم كبير حول حبيبته المتمرّدة التي تدفع ثمن إيمانها بالعلاقات النديّة داخل مجتمع ذكوريّ، مُعتقدة أنها أخيرًا وجدت رجلا يفهمها ويؤمن بما تؤمن به. يُباغتها فارس الأحلام والأفكار بالتنصّل من أية مسؤولية "واقعية" يفرضها عليه هذا الحب الجامح. كان المجتمع صارمًا في حفاظه على الأسرة النووية كبنية أساسية له، ولم يكن هذا المثقف قادرًا على النضال ضد التيار، لكنه في نفس الوقت مسكون بأفكاره التقدميّة التي لم تجد لها متنفسًا إلا في الجنس المحكوم بالوصم.
كان الرفاق يعتبرون حقوقنا وحريتنا كنساء ترفًا فكريّا ومازالوا، وحتى بعد الثورة المصرية لم يغيّروا خطابهم
جرت في النهر مياه كثيرة، وأحجار أيضًا، وأصبحت النساء أكثر وعيًا بمكانتهنّ وقوّتهن وقدراتهن، فمنذ قيام الثورة المصرية سنة 2011 اقتحمن الفضاء العام بكامل ثقلهنّ وقرّرن ارتداء دروعهنّ والمقاومة بإدانة المُتحرّشين المسعورين والمُطالبة بإدراج حقوقهنّ على أجندة الأولويّات. كتب بعضهن عن قصصهن مع القمع الأبوي، وخلعت أخريات حجابًا فُرض عليهنّ بالقوّة، وسعت كثيرات إلى الاستقلال عن الأهل ونجحت فتيات المحافظات الصغيرة والبعيدة في الانتقال إلى العاصمة لاستكمال حلم الدراسة. بدأنا نحن النساء في التطلع إلى الاستقلال المادي والمعيشي والاعتماد على النفس والتحرر من قيود وأشكال العلاقات القديمة الخاضعة لمعايير التفوّق والمكتسبات الذكوريّة. صرنا نُطالب الرفيق بالمزيد ولم نعد نكتف بكلام ووعود الليالي الرومانسيّة وأحاديث الثورة والخبز والسلام. صرنا نعرف متى سيُشهر الرفيق رايته الحمراء ويأخذنا إلى مقهى قديم لنشرب سويّة الشاي المُرّ. الرفيق الذي يُمكن أن يُهدّدنا بالفضيحة، أو يتحرّش بنا، أو يغتصبنا في إطار سكرته الحالمة الغارقة في دم الكادحين، يخوننا ثمّ يسرد علينا كذباته المنمّقة حول حبّ لا نشفى منه. صار كلّ شيء واضحًا ومكشوفًا أيّها الرفيق الذي لا يبوح بمشاعره إلاّ عندما يسكر، وينسى ما قاله عندما يصحو. "صار الخمر المُحرّك الأساسيّ للعلاقات ولا أعرف لماذا يتكلّم عن مشاعره فقط عندما يسكر، ربّما خوفًا من اهتزاز صورة المثقّف الصارم الجديّ العميق"، هكذا علّقت إحدى صديقاتي على تصرّفات حبيبها الذي ينقلب إلى النقيض عندما يفيق. في نفس السياق، أتذكّر حديثًا جرى بيني وبين صديقة سيّئة الحظّ فرضت على نفسها عزلة منذ سنة 2012 هربًا من خسارات رفاقية متتالية حيث كانت تقول: "لم يتغيّر شيء، كان الرفاق يعتبرون حقوقنا وحريتنا كنساء ترفًا فكريّا ومازالوا، وحتى بعد الثورة المصرية لم يغيّروا خطابهم بل والأدهى من ذلك أن بعضهم اصطفّ وراء "الإسلام السياسي المعتدل". لم يتغيّر شيء ولن يتغيّر.
لم يتحمّل الرفاق هذا التغيير في موازين القوى، سواء في سنوات الثورة الأولى، أو بعد إدراك أنها أصبحت جرحًا يتأرجح حاله ما بين السكون والإيلام. العالم ينهار من حولِهم متخذًا اليمين المتطرّف قِبلة. إقليم مشتعل بالحروب وقمع متصاعد في الداخل. رغبة تتراوح بين الرغبة في الهروب من كُلّ هذهِ الضغوط وبين مواجهتها ببعض الأمل، تقع السياسة كحائطٍ مائل على الرؤوس مرّة بعد مرّة، ويستلم الجيل الذي عاصر الثورة مركّبات هزيمة جديدة، وجرحًا لم يجرؤ الكثيرون على تشريحه وتضميده بشكل حقيقي حتى الآن.
لم تخذل المنظومة الأبوية أحدًا من رجالها الأبرار في أي وقت يلجأ إليه
"لنعِش سويا"، هكذا تبدأ الحكاية بين المُثقّف المتأمّل وشريكته التي غالبًا ما تكون حبيبة صديق مُقرّب، في تعدّ واضح على "الكود" الذكوريّ باسم التقدميّة والعلاقات الحرّة. تكتمل الحكاية بالعثور على البيت المُناسب، وفي لحظة تنفيذ القرار بجعل العلاقة "رسمية" ومُعترفًا بها أمام الأهل والمجتمع، يتذكر الذكر ما نسيه طوال السنوات الماضية، الدين. "أنا مسلم وأنتِ غير مسلمة، كيف يمكننا أن نتزوّج؟". لم تخذل المنظومة الأبوية أحدًا من رجالها الأبرار في أي وقت يلجأ إليها. تدور دائرة الفضائح والتشهير والوصم عندما ترفض الفتاة هذهِ النهاية الحزينة لقصة حب مُتحرّرة صدّقتها وآمنت بها. وحتى عندما يتزوّج يُؤذي زوجته ويتعدّى على أمانها الشخصي في الشارع وفي المحلات العامة وأمام الأصدقاء. التفاصيل تتشابه والقصص تتكرّر، وفي كل مرة يعود إليها باكيًا أو يلجأ لوساطة رفاقه المثقفين. كيف لها أن تطلب الطلاق؟ سيُؤذيها أكثر علّها ترتدع دون أن يهتمّ لها ولما تريده.
ما يحصل اليوم من تقزيم ووصم لنساء كثيرات هو امتداد لنسيج فكريّ مُتخبّط ظلّ مثقّفو اليوم عالقين فيه. أعتقد أنّنا جميعنا سمعنا أو قرأنا عن ما قامت به الناشطة النسويّة الأيقونة هدى شعراوي مع زوجة ابنها محمد علي. لقد حاربت النسويّة المدافعة عن حقوق النساء المطربة فاطمة سري وهدّدتها بتلفيق تهمة دعارة حتّى تتخلّص منها ومن حفيدتها التي تنكّرت لها. تابعنا الكثير من قضايا إثبات النسب ولعلّ آخرها قضيّة نسب ديالا السيوي التي كانت ثمرة علاقة حب وزواج بين الصحافيّة سماح عبد السلام والفنّان التشكيليّ عادل السيوي.
لا تبادر مع امرأة أنت لا تستطيع أن تكون في علاقة متكافئة ونديّة معها، لن تملأ عقلها وقلبها بغربتك الأبديّة وحيرتك الوجوديّة ومشاكلك النفسيّة
يدخل المثقّف التنويري في علاقة دون علم زوجته، مع صحافية مختصة في الفنون التشكيلية، يتزوّجها عرفيًا، وينتج عن هذه العلاقة حمل لا يريد أن يتحمّل مسؤوليته ولا أن تحظى المولودة بشرف نسبه. يتبرّأ من الطفلة ومن أمّها ويُنكر علاقته بها وينضمّ إلى جوقة المُطبلّين رفاقه التقدميّون. لم تخف سماح من غضبة الشلّة/القبيلة، حيث بدأت رحلة المواجهة، ولجأت إلى نفس منظومة القضاء التي هدّد بها الفنان التقدّمي، كما لجأت إلى وسائل الإعلام لفضحه، متسلّحة بإيمانها بحقها وحق ابنتها، وبسابقة القويّة هند الحناوي، التي ساهمت قضيّتها ضد الممثل أحمد الفيشاوي في تغيير القوانين المصرية وضم اختبار الحمض النووي إلى قضايا إثبات النسب. ربحت سماح قضيّتها بعد عامين من الإشاعات والانقسامات بين دوائر معارفها حول الموقف من ابنتها ديالا، لكن الأمر لم يعد مستحيلاً كالسابق، و"الفضيحة" كما يعتبرها المجتمع أصبحت مقسّمة بين "الرجل" و"المرأة"، ولم يعد الإنجاب الناتج عن علاقة جنسية رضائية عبئًا تتحمّله المرأة لوحدها.
كلّما عرفت النساء أنفسهن واستقللن اقتصاديًا وتعلّمن المزيد عن أجسادهن وحقوقهن، كلما زاد وعيهن وزادت قدرتهن على التصرّف في حالات العنف والتهديد والتلويح بالمجتمع والدين والعائلة والقضاء. وإذا لم تكن تريد أن تصبح طي النسيان مثل تقدميي الزمن الغابر الذين أصبحنا نشاهدهم يتحسّرون على زمن ضعف النساء الجميل، حاول عزيزي أن تطوّر من نفسك وتتسِق مع أفكارك. لا تبادر مع امرأة أنت لا تستطيع أن تكون في علاقة متكافئة ونديّة معها، لن تملأ عقلها وقلبها بغربتك الأبديّة وحيرتك الوجوديّة ومشاكلك النفسيّة وشعورك الدائم بالتهديد، نحن لن نعود إلى الوراء لمجرد أنك تهدّدنا بفناء النوع أو باختيارك لزواج الصالونات بديلا للحب والعلاقات المتكافئة.
النساء الآن أقوى، وكل محاولة لضرب مكتسباتهن أو تهديدها، لن يقابلها إلا المزيد من المقاومة والمزيد من ارتداء الدروع!
*هامش: المقال مُستوحى من كتاب الروائيّة والناشطة السياسيّة المصريّة وإحدى زعيمات اليسار الطلاّبي أروى صالح "المبتسرون" والذي تحدّثت في أحد محاوره المعنون بـ"المثقف عاشقا" عن أزمة المثقّفين والعلاقات العاطفية وتمثّلاتهم للجنس والنسويّة. كما أنّ هذا المقال مُستوحى من نص كتبته الباحثة والروائيّة المصرية اللبنانية سحر مندور على موقع درج تحت عنوان "النسويّون الدجّالون داخل الفقاعات الآمنة في متناولهم أسلحة كثيرة سنقاومها كما الساحرات".
إضافة تعليق جديد