افتتاحية وتقديم
بقلم رواند عيسى
"تبدو مؤقتة"، هكذا وصفتها صديقة لي أتت لزيارتي من عمّان؛ غرفتي الجديدة في بيروت. لم أحب تعليقها، لكنها محقة. لا أملك سريرًا وفراشي مُهمل ومرميّ على الأرض دون بساط خفيف تحته. لا يوجد في الغرفة أي كرسي أو كنبة لأجلس عليها بمفردي وأحصل على بعض الخصوصية أو أقرأ. رفوفي شبه خالية. الكتب كلها جديدة وأدوات الرسم قليلة ومبعثرة. لا تاريخ في غرفتي، ولا تبدو كأنها ستحتضن أية ذكريات قادمة. "مؤقتة"، هي الصفة المناسبة لها.
انتقلت إلى المنزل الذي أعيش فيه حاليّا منذ خمسة أشهر، ومن اليوم الأوّل أخبرت أصدقائي في السكن أنني أريد أن أشتري مكتبًا وكرسيّا مريحًا لأنني أعمل من المنزل، وأريد أن أخلق مساحة مناسبة للعمل. ضحك عليّ صديقي حين أخبرته، ربما للمرة المئة، أنني أبحث عن مكتب. غضبت من رد فعله مثلما غضبت من ردّ فعلٍ مماثل لصديق آخر من عمّان. ولكنهما على حق. تغضبني تعليقاتهم لأنني أهرب من حقيقة أنّني أخاف الاستقرار.
لا أعتبر الانتقال المستمر عملًا بطوليًّا، ولا عدم الاستقرار أسلوبًا عصريًّا في الحياة. على الأقلّ بالنسبة لي. بكلّ بساطة وتعقيد، أخاف من المكوث في مكانٍ واحد لفترة طويلة. فمنذ أن خرجت من بيت أهلي سنة 2013، لم أستقر في نفس المكان لأكثر من ستّة أشهر. وأنا مرهقة جدًا.
قبل أن أنتقل إلى بيتي الجديد، أخبرت الطبيب النفسيّ بأنّي أريد أن أشتري نبتة وستائر بألوان دافئة لغرفة جديدة، فقط. "سهلة جدًا أهدافك"، هكذا علّق على كلامي، ووعدته في تلك الجلسة والتي كانت الأخيرة، أنني سأشتري النبتة والستائر. لكنني لم أفعل ذلك. قد يبدو سهلًا ما أريده ولن يُكلّفني شيئًا تقريبًا ولكنّ دلالاته الرمزيّة هي ما تُرعبني. أن أشتري نبتة وستائر يعني أنني سأعتاد على منزل دافئ، وأصدقاء أشاركهمن حياتي. "ماذا لو اندلعت الحرب في بيروت يا دكتور؟ وماذا لو لم يحبّني أصدقائي، واضطررت للرحيل مجددًا؟".
أعيش في حالة طوارئ دائمة، منتظرةً حدوث كارثة ما. اعتدت منذ صغري، وبسبب الظروف الصعبة التي مرّت بها عائلتي، على أنّ الأحوال تسوء ولا تتحسّن. لديّ قدرة عجيبة على التأقلم بسرعة مع أيّ وضع. دائمًا ما يسوء الوضع ودائمًا ما أتأقلم. هكذا أعيش.
لا أريد أن أمتلك أيّ شيء مُثقل بالذكريات وأحرص بشدّة على ذلك حتى أخفّف من وطأة الكارثة عند حدوثها. ما دُمت لا أملك شيئًا، فلن أخسر شيئًا بالتأكيد. فلتحترق الدنيا من حولي، فلتندلع الحروب، فليهاجر الناس، لا يهمّنّي، فأنا محصّنة. صرت لا أشعر بشيء. أليس هذا الموت بعينه؟ خائفة طول الوقت أن يلتقط قلبي القليل من الدفء. أنام على الأرض لأنني لا أريد أن أرتاح. قد أعتاد على الراحة، ومن ثم حين أفقد السرير، لن أقدر على النوم مجددًا. لا أحسن التعامل مع الخيبات ولا أريد ذلك. أموت كلّ يوم على دفعات.
"صارت لديك خبرة في النجاة من الكوارث، هل من الممكن أن ترتاحي قليلاً الآن؟"، "لديك القدرة على التأقلم مع أي شيء فاسمحي لنفسك ولو مرّة أن تعتادي على الراحة والأمان؟"، "يجب أن تحبّي نفسك".
أتذكر أنني تركت آخر جلسة لي مع الطبيب النفسيّ وعيوني تدمع من الفرحة. مشيت في الشارع وأنا أغني وأردد "سأحب نفسي". وصلت إلى المنزل، فانتكست مجددًا. أنا فعلًا غير قادرة على حب نفسي، لأنني لا أعرف كيف أحب نفسي. ماذا أفعل الآن؟ ما معنى أن أحبّ نفسي؟
وحدي في مدينة غير أليفة مع النساء المُستقلّات وغير المعياريّات. أستيقظ كلّ يوم وأستعدّ جيّدا لخوض حروبي الصغيرة مع الناس في الشارع، ومع مؤسسات النظام القمعيّة التي تريد وصم أجسادنا والسيطرة عليها، ومع أهلي غير الراضين عن اختياراتي، ومع تلك الوحوش التي رُبيت في رأسي، تبتلعني إن لم أنتبه إلى ترويضها بشكل دوريّ، ومع العزلة التي أرمي نفسي داخل جدرانها خوفًا من الهزيمة الأخيرة.
كيف أتعلّم أن أحب نفسي عندما لا يحبني أحد؟ كيف أتعلّم أن أهتم بنفسي عندما لا يهتم بي أحد؟ كيف أتعلّم أن أرى نفسي جميلة عندما لا يراني هكذا أحد؟ كيف أتعلّم احترام نفسي في حين يقلّل من شأني معظم من حولي؟ لم لا يوجد "روتين" للاهتمام بالنفس كـ"روتين" العناية بالبشرة والشعر المنتشر في كل ركن على الإنترنت والشوارع؟
خلال الأسابيع القادمة، ستنشر جيم عدّة مقالات توثّق تجارب نساء وتأملاتهن في رحلتهن إلى حب الذات، أتت بعد دعوة أرسلتها إلى كاتبات، وباحثات، وفنانات لتقديم محتوى حول حب النفس وتقبّل الأخطاء.
أردت أن أجد أجوبة لأسألتي من خلال مشاركة تجاربنا مع بعضنا البعض، والدعوة مازالت مفتوحة لتقديم محتوى يُثري الملف، سواء كان نصًّا يسرد قصّة حول الطريق الصعبة التي نسلكها نحو الاستقلاليّة ونحو اكتشاف ذواتنا وهويّاتنا، أو نصًّا لمحاولة اكتشاف أسلوب حياة "حب النفس"، أو حتى دليلًا حياتيًّا يمكن لأخريات الاستفادة منه.