البكاء في الغناء: التاريخ الجريح للنساء في تونس

يبحث هذا النص في تعبير المرأة التونسية عن أوجاعها واضطهادها من خلال مدوّنة غنائية من مختلف جهات تونس.

 

مبروكة تتبرّى   ***   قالت ما عينيش (لا رغبة لي)

راجل خايب شين (سيّئ فاسد)   ***   رامي (يلقي) عليّا شرّه

لعلّ هذه الأبيات المقتطعة من أغنيةٍ بكائيّةٍ تختزل وجهًا من وجوه معاناة النساء التونسيات في المجتمع التقليدي، البدوي والحضريّ. لكنها تشير كذلك إلى عنصر مقاومةٍ في شخصيّاتهن قد يتجاوز اقتدارهنّ على التحمّل والتصبّر إلى التمرّد والعصيان في وجه النظام الذكوريّ الذي سلبهنّ حقوقهنّ. ومدوّنة الأغاني والشعر الشعبي في تونس.1 وثّقت ألوان المعاناة التي اكتوَت بها النساء، سواء كنّ فتياتٍ أم زوجاتٍ أم أمّهات، في مختلف المجالات. ولئن تعدّد جلّادو النساء، كأن يكونوا الآباء، أو الأخوة، أو الأزواج، أو الأعمام، أو الأخوال أو رجال السلطة، فإنّهم في حقيقة الأمر جلّاد واحد؛ الذّكر العربيّ.

في علاقة الأغنية/الشعر بالتاريخ

هل يمكن اعتماد مدوّنة الأغاني والشعر لتشكيل صورةٍ صادقةٍ لواقع النساء أو لأيّ واقعٍ آخر؟ يُعَدُّ هذا السؤال من الأسئلة التقليدية في نظريات تحليل الأدب، ويتعلّق بمفهوم "الانعكاس" الذي بموجبه يُعتَبر الأدبُ "مرآةً لحياة صاحبه الشخصيّة وحياة عصره الاجتماعية".2 وللانعكاس أنصاره ورافضوه، وأهمّ أنصاره هم أصحاب التحليل النفسيّ للأدب، كتحليل سيغموند فرويد (Sigmund Freud) لأعمال فيودور دوستويفسكي (Fyodor Dostoevsky) وفريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche)، وكذلك أصحاب المنهج الماديّ التاريخيّ من الماركسيّين، كتحليل فلاديمير لينين (Vladimir Lenin) لأعمال ليو تولستوي (Leo Tolstoy) في مقاله "مرآة الثورة الروسيّة"، وتحليل كارك ماركس (Karl Marx) نفسه لأعمال فريدريك شيللر (Johann Christoph Friedrich Schiller) وغيره. أمّا الرافضون، فهم تحديدًا الشكلانيّون والبنيويّون الذين قالوا بـ "موت المؤلّف" واكتفوا بتحليل العمل الأدبي من الداخل فقط، واضعين في ذلك مناهج ومبادئ.

لكن الطابع الشفويّ لثقافة المجتمعات التقليديّة التي لا تميل إلى التدوين يفرض على الباحث/ة استعمال أيّ سندٍ يسهم في تشكيل صورةٍ وإن تقريبيةً لجانبٍ ما من حياة المجتمعات، لاسيّما الأغاني والشعر. وفي هذا الصّدد، يتحفّظ أستاذ الأنثروبولوجيا التاريخية بالجامعة التونسية، عبد الواحد المكني، على الثقة المطلقة بالأغاني، مؤكّدًا أنها "تبقى من المصادر الثانوية في عمل المؤرّخ"، لكنّه مع ذلك يستند إليها في تأريخه لنكبة جبل وسلات، ويعتبر أنّ "الأغاني بما هي تنفيسٌ وفنّ وتذكارٌ لا تنشأ من عدمٍ تمامًا مثل نظم الشعر".3 من جهته، يَذكر جامعُ الأغاني التونسية الأوّلُ، الصادق الرزقي، أنّ "المرآة الوضيئة التي لها الحظّ الأوفر في انطباع صور أخلاق الأمم وتمثيلها للعالم بأجلى منظرٍ هي الأغاني والموسيقى".4

النساء في معترك الحروب

لطالما كانت النساء أوّل ضحايا الحروب التي تنهزم فيها عشيرتهنّ أو قبيلتهنّ أو دولتهنّ، حتّى تَشَكّل في اللغة معجمٌ وافرٌ من العبارات المفرَدة لوَصف حالاتهنّ، كالسَبيّة والأخيذة والمغتصَبة والصفيّة. وقد بلغ برجال قبيلة تغلب قبل الإسلام أن أخذوا نساء القبيلة معهم في حروبهم حتّى يحمّسهم خوف سَبْيِهنّ ولحوق العار بهم إن هُزموا. يقول في ذلك شاعرُهم، عمرو بن كلثوم:5

على آثارنا بِيضٌ حِسانٌ   ***   نحاذر أن تقسّم أو تهونا

وفي سياقٍ مشابه، وثّقت أغنية "مع العزّابة" نكبة جبل وسلات عام 1762 التي كان مصير النساء بعدها رمزًا موجعًا لمأساة ذلك الجبل. ويُذْكَر أنّ الوسلاتيّة ساندوا عام 1728 علي باشا الأوّل ضدّ حسين بن علي الذي هاجمهم بأربعين ألف فارسٍ لكنه لم ينَل منهم، حتّى جاء علي باي عام 1762 ليشتّتهم في البلاد بعد حصارٍ دام ثلاث سنوات. وكانت المرأة الوسلاتيّة التي يُضرب بجمالها المثَل هدفًا لعساكر الباي والقبائل المساندة له ضدّ وسلات. ويسجّل أحد مؤرّخي تلك الحقبة، الصغير بن يوسف الباجي، أنّ مَن "كان في عياله امرأةٌ جميلةٌ فكّوها له وسلبوه وأطلقوه، وكذلك إن كانت له بنتٌ بكرٌ جميلة قنصوها".6 وتحكي الأغنية محنة أمّ وسلاتيّة على طريق التشريد في اتّجاه تونس، وهي تبكي ابنتها البِكر التي شُرّدت مع "العزّابة" (جمع عازب)، وهم فرسان قبائل العرب الذين تنعتهم بـ"القتّالة". ويبدو أنّ تشرّد الفتيات مع الفرسان لم يكن بالسّبي فقط، وإنّما باختيار الفتيات أحيانًا نظرًا لطوق التجويع والحصار الذي فرضَه الباي على أهل وسلات، فانجرّت النساء إلى التكسّب بأجسادهنّ، حتّى أنّ الباحث عبد الحميد لرقش افترض في إحدى محاضراته  عن البغاء في تونس سنة 1993، وجودَ نساءٍ مارسن البغاء من أصل وسلاتي في القرن 19 استنادًا إلى هذا الزجل:7

نا بكرتي شردت مع العزّابة   ***   خشّت بلاد الشيح والقطّابة

يا سايقين البلّ يا جمّالة   ***   تونس بعيدة والعرب قتّالة

ويذكر أنّ صليحة التونسية غنّت إبّان التحاقها بفرقة الرشيديّة هذا الزجل "خامًا" دون تهذيب أو تحريف،8 لكن يبدو أنّ تدخّلًا سياسيًا نافذًا حملها على تهذيبها بُغْية المصالحة بين السلطة وأهل وسلات لطيّ صفحة الماضي، لاسيّما بعد سقوط نظام البايات وإعلان الجمهوريّة، لتصبح العبارة: "تونس جديدة والعرب رجّالة".

النساء ومحنة الزواج

تزخر مدوّنتنا بأغانٍ وجيعةٍ باكيةٍ تصوّر عذابات المرأة في زواجها، سواء في إكراهها عليه أو في عشرتها مع زوجها. ففي أغنية مبروكة تتبرّى التي أدّتها نبيهة كراولي، تذكر المرأةُ ناسَها وأعمامها الذين غصَبوها على الزواج من رجلٍ لا تحبّه، حتّى أنّهم تَهدّدوها بعقابٍ وخيم. لكن رغم هذا الضغط من العائلة الواسعة، تقرّر المرأةُ قبول الزواج لتنتقم منهم بأن تجلب لهم العار الذي يخشونه، فتهدّدهم بالفرار وتفتيق الخلّة، وهي ضربٌ من الحليّ تتمنطق به المرأة في إشارةٍ رمزيةٍ إلى فكاكها من قبضة العائلة. ولعلّ تلك الحركة تماثل في معناها حركةَ تعرية الصّدر لدى حركة "فيمين" كتعبيرٍ احتجاجيّ نسويّ، وإنّ تباينَت المرجعيّتان. وفي الأغنية، تهدّد المرأة أيضًا إخوتها بقتل نفسها جوعًا انتقامًا منهم، ويكثر في أغاني النساء الباكية ذِكر عبارات "خشّان الخلاء" و"دخول البلدان" و"طبّان الجوّة"، وجميعها ذات معنًى واحد، هو أن تهيم المرأة على وجهها وتفكّ ارتباطها تمامًا بالنظام الذكوري الذي ظلمَها، فلا تجد سبيلًا غير الفرار:

قالولي ناسي   ***   لازم باش تاخذيه يا طفله

والاّ راك تباصي (تتورّطين)   ***   قلت اعطوني ليه

خلّي ندبّر راسي   ***   ونخش (أدخل) البلدان ونفتق الخلّة 

قالولي خوتي   ***   لازم بيه تاخذيه أ طفلة

والّا راك تموتي   ***   قلت اعطوني ليه

خلّي نحرّم قوتي (أحرّم على نفسي الأكل)   ***   ونخشّ البلدان ونفتّق الخلّة

ويرتفع صوتُ المرأة في أغانٍ كثيرةٍ في وجه أهلها، رافضةً الزواج ومراسمه من التخضّب بالحنّاء ودخول الرجل بها ولو أعطاها وزنها ذهبًا، كما تتوسّل أمّها لتساندها، وتتّهم أعمامها وأخوالها بالوقوف خلف تلك الزيجة المرفوضة، داعيةً إيّاهم إلى تزويج بناتهم لذاك الرجل، ومؤكّدةً ألّا دخل لهم في حياتها وزواجها:9

علاش تغصّب فيّ

امّيمتي

لا نحنّي ولا نمدّ يديّ

***

يا امّا ضرب الطبّال

وجاب الحنّة والخُلخال

لو يوزنّي بالمثقال

ما يسكّرشي الباب عليّ

***

يا امّاه وعمايل عمّي

هو الّي متسبّب في همّي

عندو بنتو أكبر منّي

راهو ما يدبّرش عليّ

لكن المرأة في نهاية المطاف لا تملك إلّا أن ترضخ لقضاء أهلها، فلا تجد غير دموعها ليلة "تمليكها" لتنفّس عن الظلم الذي سلبها حقّها في رفض الزوج:10

يا امّا نهار الملاك

الّي عدّيتو بكي وعياطْ

نوم ربّي ما دارش بيّ (لم أذق النوم)

ولونٌ آخر من ألوان عذاب الإكراه على الزواج هو زواج الفتاة الصغيرة، فتناجي والدها ليراعيَ قلبها الذي أبى أن يبتغي ذلك الرجل، راجيةً إيّاه أن ينظر إلى صغر سنّها:11

ما نسمحاشي   ***   أعطوني لراجل

خاطري ما بغاشي   ***   أبّيْ والدي

ما نسمحاشي   ***   نايا صغيرة

قلبي ما بغاشي   ***   أبّي والدي

أمّا بعد الزواج فعذاباتٌ أخرى، ويعجب المرء أنّ المرأة تجهر بكلّ ما تكرهه في الرجل وما يصيبها به من الشّر، حتّى إن كان من المحظورات. فهذه امرأةٌ حضريّةٌ تشكو وساخة زوجها الذي لا يستحمّ ولا يحلق شعره ولا يجيد آداب الأكل، فيأكل بيده لا بالملاعق، كما لا يجيد التظارف معها وملاطفتها، فهو في نظرها كثورٍ عجوز، لا يجيد غير الأكل والتذرية (لعلّها التغوّط)، وأخرى مثلها تشكو لأبيها زوجَها الذي لا ينظّف أنفه، فكيف ببقيّة جسمه:12

يا امّيمتي العربي   ***   خذاني وهمّلني

لا يعرف حمّام   ***   لا يعرف حجّام

شعره للأقدام   ***   يا محنة ربّي

لا يعرف يظارف   ***   لا ياكل بمغارف (ملاعق)

كيف الثور الشارف (الهرم)   ***   ياكل ويذرّي 

آه يا حزوني   ***   أعطوني لراجل خايب (سيّء) ودوني

حتّى خشمه ما يخمطاشي (حتّى أنفه لا ينظّفه)   ***   أبيّ والدي

وهذا زوجٌ طالحٌ آخر يبيت في الخمّارات مهملًا أهله وزوجته، أمّا هي فتبيتُ الليل آرقة شاكيةً عجزها عن إنزال حكمٍ  ملائمٍ به، فالمجتمع لا يقبل إلّا أحكام الزوج، وكذا القضاء:13

شوفوا أفعاله

يبات في الحانوت  يخلّي عيالَه

لو كان عندي حكم ع الرجّالة

نمشي لشيخنا ونشكيله

ونجد في المدوّنة أغنيةً شفويةً تُعدّ من أندر الأغاني من حيث الموضوع، تروي لنا قصّتها الموجعة هدى نعمان من معتمدية جبنيانة من ولاية صفاقس، وهي باحثةٌ في علم الاجتماع وتُعدّ إحدى الحافظات في جهتها، وكانت تسمع الأغنية وهي طفلة بصَوت ابنة خالة أبيها - واسمها العارم - أثناء نسجها. وأصل القصّة شابٌ وشابّةٌ جمعَتهما قصّة حبّ تُوِّجَت بالزواج في منطقةٍ حدوديةٍ بين الجزائر وتونس، وكان كلٌّ من والدَيهما رئيسًا لعشيرته، وفي روايةٍ أخرى كان الحبيبان ابنَي عمّ. ويبدو أنّ الزوج كان عاجزًا جنسيًا، فاحتملَت الزوجة الأمرَ تسعَ سنين كاملة، حتّى زارها يومًا أخوها وهي عاكفة تدير الرّحى وسألها عن حالها فأجابته بهذه الأغنية، وإن لم تصرّح عن السبب نظرًا لأنّ "داءها" الذي تشبّهه بألوان المستحيل، لا يمكن وصفه. ولعلّ المُنشدةَ رمزَت إلى رحمها بالقفل، وإلى قضيب الزوج بالمفتاح. وربّما يعود سبب صبرها إلى حبّها لزوجها، ولأنّ افتضاح السّر يمسّ برجولته وفحولته، وقد يثير فتنةً بين العشيرتَين. واتّفق أنّ حماها – أي والد زوجها – كان يسمع سرًّا ما تنشده، وفهم مقصودها. فلمّا أنهَت بكائيّتها، خرج لها من حيث كان وسمح لها بالارتحال آمنة، وشبّه ابنَه بالزرع الذي لم يثمر. وتضمّ الأغنية مقاطعَ طويلة، وقد أدّاها وقصّ جزءًا من قصّتها الفنّان الشعبي عبد اللطيف الغزّي. نورد هنا بعضًا من أبياتها:

نا دايا لا تقدر جْمَال تقلّـه (دائي لا تقدر الجمال على حمله)   ***   سحن (شوى) كبدتي تسعة سنين بالهلّه

لا يقدروه طوايـف   ***   ولا يقدرا نجع المحشّد خايف

نا داي في المكنون صيفه صايف   ***   والناس ترتع في الربيع بكلّه

لا يقدروه بعايـر (البعير جمع الجمال)   ***   ولا يقدرَه فرخ الحمام الطاير

نا يا خويا نحدثك باللي صاير   ***   قفل بلا مفتاح واش يحلّا

ثمّ يجيبها حموها فيقول:

يحرم عليه معاشك   ***   ويحرم عليه النوم فوق فراشك

هاون الجمل هزّي عليه قشاشك (أغراضك)   ***   نا زرعي حِمِرْ ما جاب حتّى حِلّة

وقد يبلغ بالمرأة ضيقُ العيش مع الزوج والتبرّم به إلى حدّ التبرّؤ من الزواج وإنكاره وطلب الطلاق. فهذه امرأةٌ تفضّل "العزوبية" على زواج "الهانة" الذي حطّ من قيمتها، وتستذكر حبيبها الذي حُرمت منه، فإذا بها كالناقة التي هدّتها أحمالٌ من حطب، وتشبّه قلقها واضطرابها باضطراب "الريحانة" (نوعٌ من الحُلي يوضع على الصدر)؛ والأغنية من الملالية:14

يا لا لا يمّة ادَقْديقي (تحطّمي)   ***   ادقديق الناقة بحطبها

صغيرة ومفارقة صاحبها

يا لالا يمّة ادَلْويحي (قلقها)   ***   ادلويح سلاسل الريحانة

عزوبة ولا زواج الهانة

وفي أغنية مبروكة تتبرّى، تشكو المرأة للقاضي قسوةَ حكمه عليها، إذ رفض قبول طلبها الطلاق بسبب عدم موافقة زوجها على تطليقها. فوفقًا لأحكام ذلك العصر الفقهية، لم تكن المرأة تُطلّق إلّا بتطليق زوجها لها. لذا، تراها تبيت الليل آرقةً ودموعها تتقاطر على خدّها، محمّلةً أباها مسؤولية كدرِها وطالبةً المغفرة له:

يا سيدي القاضي   ***   يا سيّد الأسياد عذابي   ***   حكمك والله ماضي (جارح)

والراجل ما باش (لم يرغب)

موش عاطيني طلاقي   ***   كثّر ما يضحّيش

نبكي طول الليل   ***   ودموعي تتقاطرْ

الله يسامح باباي   ***   دار كان (لم يفعل إلّا) الباطلْ

وفي أغنيةٍ شهيرةٍ أدّاها كثيرٌ من الفنّانين التونسيّين، منهم حنان جبنون وزياد غرسة، تطلب المرأة الطلاق من زوجها، مفرّطةً في كلّ شيء: من "الدبلج" (المقياس، كالسوار في اليد) والأقراط، إلى الخلّة، والحرام (غطاء كالسفساري)، والبخنوق، والخلخال وكلّ حليّها، مُشهِدةً عليه أعمامها وأخوالها والقاضي وشهوده؛ فجلّ ما يعنيها أن يسمح بطلاقها ويدعها تذهب في سبيلها. بل يبلغ بها مقتها لزوجها أن كرهَتْ أولادَها الذين أنجبتهم منه، فنراها تدعو الله أن يصيبهم بمرض الحصبة والجدري لتتخلّص منهم كي تفقد كلّ رابطٍ يربطها به:

طلّقني خوذ الدبلج (كالسوار في اليد)

يا راجل ما تعجبني

هيّا خوذ الدبلج

***

خوذه خوذه

قدّام القاضي وشهوده

لاني مهرة لاني قعودة (صغيرة الناقة)

ولاني فرسة تركضني

***

خوذ حرامي

وبخنوقي الغالي وحزامي

قدّام أخوالي وأعمامي

نعطيك الكلّ وسيبني

***

خوذ الخلخال

وطلقني يا ولد الخال

عندي منّك زوز صغار

يعطيهم حُصبة وجدري

وهذه أخرى لم تصبر أكثر من عامٍ واحد، لتتيقّن استحالة العشرة مع زوجها بعد أن ذبل قلبها وذاب وجعًا، فتدعوه إلى تطليقها، مشبّهةً نفسها بالميّتة التي لن تحيا داخل قبرها الذي هو منزل زوجها:15

عيِيتْ نْداملْ (أتحمل الألم)   ***   حسّيتْ قلبي صار مثل دمايلْ

وراسي راسك عام توّة كامل   ***   شاورت عقلي لعشرتك ما باشي

طلّقني واصغى لي وحط في بالك   ***   ميّت داخل القبر ما يحياشي

وللزواج محنةٌ أخرى، هي رحيل الزوج في سفرٍ أو حربٍ أو عمل. ويتكشّف من جزع المرأة على زوجها خوفٌ على نفسها أكثر من خوفها عليه، ذلك أنّ الرجل هو حصن المرأة في مجتمعٍ لا يرحمها إذا كانت بلا "وليّ أمرها". ويشتدّ بها الجزع تحديدًا إذا ما كانت حبلى أو لها أطفال، فترى المجهول ينذرها بنسيان زوجها لها وفراقه الأبدي عنها:16

سافر وخلّاني حبلى   ***   والنوبة جاته في الدخلة (اسم مكان على الأرجح)

يا عمري اشنية ها الوحلة (الورطة)   ***   بالك تغيب وتنساني

سافر خلّاني في الزنقة   ***   نبكي ودموعي بالحرقة

نا صغيرة ما نطيق الفرقة   ***   كيف طوّل بالك ينساني

ومن طرائف الأغاني في سياق معاناة الزوجة، أغنيةٌ تتشفّى فيها المرأة في حَمِيّها وتتشمّت لموته لأنّه كان بخيلًا شحيحًا حرمَها لذّة الطعام وقتّره عليها تقتيرًا. ويبدو أنّ حماها كان المُنفق عليها وعلى زوجها الذي هو ابنه، فتصِفه بـ"القارص"، أي البخيل في اللهجة التونسية، وتدعو حفّار قبره إلى تعميق الحَفْرِ خشية أن يعود حيًّا إليها:17

بعد ان مات القارص بات   ***   عليه الجيران تنبي

ساولتك يا حافر قبره   ***   بجاه ربّي غرّف له شويْ

خايفة للدفّانة تروّح   ***   بأكفانه يرجع لي حيْ

النساء وعذابات العشق

يبدو أنّ المجتمع التقليديّ حافظ على البُنى العرفيّة للقبيلة العربيّة، لا سيّما مع هجرة بني هلال وبني سليم في القرن الحادي عشر ميلاديًا التي طبعَت بأعرافها أخلاقَ بعض المجتمعات الإفريقيّة، كتحريم وصال الحبيبة بحبيبها قبل الزواج. لذا عاشَت المرأةُ محنة الحبّ وتجرّعت مرارة الحرمان، فكانت الأغاني والأشعار منفذًا للتنفيس عن شجونها. وكان الأهل إذا تنبّهوا لشبهةٍ ما بين ابنتهم وحبيبها، أذاقوها شُواظًا من العذاب، كإقفال الباب عليها وإخفاء المفتاح في خزينة "رومية"، في إشارةٍ إلى استحالة فتحها. لنستمع إلى هذا الرجل واصِفًا "سجن" حبيبته:18

قفلوا عليك الباب يا مضنوني   ***   حطّوا المفاتح في مكاتب رومي

وقد تتعرّض البنت للضّرب حتّى "يزرقّ" لحمها، لكنها تقاوم في سبيل حبيبها، بل إنّ الضرب يزيدها قوّة:19

يا لا لا يمّه ضربوني   ***   ضرب العصا زادني قوّة

يخلى الدوّار يقعد هوّ

يا لا لا يمّة ضربوني   ***   ضربوني من غير سبايب

قلبي مليان لحمي طايب

يا لالا يمّة ضربوني   ***   ضرب العصا زرّق لحمي

وفي أغنية "يمّة وجّعتوها" التي أدّاها لطفي جرمانة ونبيهة كراولي وغيرهما، يدعو القائل أو القائلة أهلَ البنت إلى الكفّ عن ضربها، ويبدو أنّ "خطيئتها" هي ابتغاء "الشهوات"، في إشارةٍ مضمرةٍ إلى رغبتها في وصال حبيبها وخشيتها أباها الذي يحول دون قضائها رغبتها:

يمّة وجّعتوها ما تضربوش البنت   ***   تبغي الشهاوي وخايفة من بوها

وإذا حدث أن مارسَت العاشقةُ الحبّ مع حبيبها، تكون التبِعات أوجع في مجتمعٍ لا يغفر مثل هذه "الخطايا". فهذه حبيبةٌ تشرف على الموت وتوصي حبيبها بأن يمسك دموعه يوم وفاتها حتّى لا تُتّهم بالزنا معه، فيلعنونها أو يقطعون الصلاة عليها:20

امشي وراء نعشي وما تبكيشي   ***   لا يقولوا فلانة مع فلان زنات

ويكون العقاب أقسى إذا ما هجرها حبيبُها بعد أن قضى منها وطره، تاركًا إيّاها لمصيرٍ مجهولٍ غالبًا ما تكون عاقبته ما يُسمّى "جريمة شرفٍ" يرتكبها في حقّها أبوها أو أحد إخوتها:21

يا لا لا طحت مريضة   ***   هزّوا الكتّان شوفو مرضي

لاني بخالي لاني بعرضي

وفي أغنية "ما عندك سوء" التي أدّتها سلاف أمام الرئيس الراحل بورقيبة، تتكلّم الفتاة عن محظورٍ ارتكبَته من دون أن تسمّيه، محمّلةً نفسها المسؤولية. لكن هذا الطريق الذي سلكَته لا رجعة فيه، فتقرّر التمادي والهجرة إلى الخلاء بعيدًا عن أهلها. ويبدو جسدُ المرأة دائمًا هو العامل الحاسمُ في رضا أهلها عنها:

قالت يا جوحي (مهجتي أو عذابي)   ***   نا طفلة صغيرة

غرّيت بروحي   ***   ويا بيدي نكمّل

ويا نساسي جروحي   ***   ونولّي فريخة

ونطبّ الجوّة (أدخل إلى الخلاء)   ***   مريضة هاي

لكنّ المرأة إذا ركبَت بحر الحبّ "لا تخشى من الغرق"، كما تقول كلمات قصيدة لسان الدين بن الخطيب، فنراها في الأغنية التالية تحثّ حبيبها على بيع الفرس بما حمل ليهرب بها:22

خالي خليلك كان عينك فيّا   ***   بيع الفرس والسرج واهرب بيّا

أما أغنية "البابور الّي هزّ رقيّة" التي أدّتها فرقة أولاد قبودية، فيبدو أنّ بطلتها رقيّة اختارَت حبيبَها الأجنبي وفرّت معه إلى بلاده،23 تاركةً ابن عمّها الذي يبدو أنّه أحبّها ولم تحبّه. ولعلّ الفتاة اضطرّت إلى مداراته مدّعيةً مبادلته الحبّ نظرًا لرقابة أهلها، فإذا به يبكيها بعد رحيلها بهذه الأغنية:

البابور الّي هزّ رقيّة   ***   بحر غارق والموجة قويّة

تبعتك يا بنت العمّ وغرّيتي بيّا

طقوس النسج والغزل والرّحي وأثرها في إهاجة شجون النساء

في ظلّ التقسيم البطريركي للأدوار، أُلزمت النساء في المجتمعات التقليدية بإنجاز الأعمال المنزلية من نسجٍ وغزلٍ ورحي، بل حتّى إعداد الشّاي وفقًا لبعض الأغاني، مع لحظ الفروق الجغرافية وأثرها في تقسيم العمل، حيث النساء في الشمال الغربي مثلًا مكلّفات أيضًا بالحصاد والفلاحة. وهذه الأعمال التي يدّعي بعض الرجال أنّها أخفّ حملًا على النساء، هي في الحقيقة شاقّة جدًا، ويفوق عبؤها عبءَ أعمال الرجال في أحيانٍ كثيرة. ولعلّ هذا المقطع من إحدى الأغاني يلخّص حجم تلك المعاناة، إذ تشبّه المرأة حِملها وصبرها بحِمل الجِمال وصبرها:24

كتّيت ما كتّ الجمل بحَمْلَهْ   ***   نا نفرّغ فيك يا قلب وانت تملى

ويذكر الباحثان في أغاني النساء، أحمد الخصخوصي ونعيمة غانمي، أنّ تلك الأدوات المحيطة بالمرأة "لا تلبث أن تتشخّص وتحمل عواطف وأحاسيس في حركةٍ تعاطفيةٍ محبّبةٍ إلى النفس من شأنها أن تخفّف من الحِمل وتقلّل من العَناء".25

وتعتبر آلة الرّحى أكثر الآلات ارتباطًا بالوجع في أغاني النساء. ويفسّر لنا الشاعر الشعبي ضو حدّاد - وهو جنوبيّ خَبَرَ هذه الأغاني جيّدًا - أنّ إدارة يد الرّحى أشبه بإدارة الزمن ليرجع بها إلى أيّامٍ خوالٍ تهشّ لها نفسها، فتبغض حاضرها، أو لعلّها بالرّحي "ترحي" أيّام عمرها التي طُحنَت مع الحبوب وصارت هباء. وعادةً ما تطحن النسوةُ الحبوبَ ليلًا لكثرة شواغلهنّ في النهار التي لا تقلّ شقاءً عن الرّحي، لذا يزيد السهر والليل من تهييج ما في نفس المرأة من شجن. وهذا مغنًى تتناجى فيه المرأةُ مع الرّحى وظلمها، وتمنّي النفس بأن يتزوّج ابنها كي تعينها كِنّتها على العمل، وهكذا تُتوارَث المحنة:26

ضيم  (ظلم) الرحى   ***   يا ضيم الرحى

يكبر ولدي   ***   ويجيب مرا

أما المنسج – أي آلة النسج التي تقف خلفها المرأة – فاتّصلَت بطقوسه كثيرٌ من الأغاني، لاسيّما أنّ المرأة تقضي معظم وقتها وراءه، فتدندنُ الأغاني لإبعاد رتابة الزمن. ولعلّها في هذه الأغنية تخاطب "الخلالة" التي تمسكها بيدها لترصّف الخيوط فتحدث رنينًا موجعًا في سمعها، لتشكو لها غدر صاحبها بها:27

يا عين نوحي   ***   ويا الخلالة رنّي

نا صاحبي   ***   بعد الغلا بدّلني

ويقتربُ من النسج عملُ غزل الصّوف الشاقّ الذي تقضي فيه النسوة لياليَ بيضاء أحيانًا لتشذيبه. فها هنا فتياتٌ شاباتٌ يطلبن من سيّدتهنّ المشرفة عليهنّ تسريحهنّ لمّا قدم الليل، فتُغريهنّ بلحم الخروف الذي سيأكلنه غدًا، فتتنازل المسكينات عن الراحة في سبيل لحمٍ لا يذقنه إلّا في مناسباتٍ نادرة:28

الليل ضرب   ***   الليل ضرب

قولوا للّا   ***   تسرّحنا

***

باتوا وخيّاتي   ***   باتوا

ولد الدرعة (الخروف)   ***   ذابحينو

***

والله لا يبات (أي الصّوف)   ***   والله لا يبات

لو كان نغدو   ***   عليه فتفات

ونجد أغنيةً نادرةً تذكر فيها المرأة إهمال زوجها لها ولأبنائها، وداؤها منه يهتاج لدى شربها الشاي من "برّاده" (الإبريق):29

شوفوا حاله

لو كان فيه قلب كالرجّاله

لا يسهر في الحانوت ويخلّي عياله

ويحرّم عليّ النوم وتفاكيره

نا دايَ من البرّاد وفناجيله

المرأة والحجاب

في أغنيةٍ نادرةٍ للشاعر الجريء عبد الرحمان الكافي (1885-1934)، ينقل حوارًا بين بنتٍ وأبيها عن السّفور والحجاب، "فيصِف لنا ثورتها على الحجاب ورغبتها في التخلّص منه والخروج إلى الشوارع سافرة". وفي الأغنية، تصِف البنتُ تفكير أبيها بـ "الأنتيكة" (العتيق الذي عفا عليه الزمن)، أمّا تفكيرها هي فابنُ عصرها الحديث. وعلاوةً على ذلك، تشمئزّ الفتاةُ من لون الحجاب الأسود وتعتبره جالبَ شؤمٍ كالغراب، فلا ترى سببًا له غير أن تكون المرأة قبيحة، أمّا هي فلا تشاء أن تحرم الناس من رؤية جمالها:30

قاللها الوالد يا غشيمة (جاهلة)   ***   بطّلْ ها التخمام

المعرّي (اللباس العاري) ما عندو قيمة   ***   يبراد ويشوامْ

قالتلو البنت الضبضابة (الطائشة)   ***   ما نطيقش عتابْ

انتيكة فكرك يا بابا   ***   توة الراي شبابْ

آش اللذّة في العصابة (الحجاب)   ***   سودة مثل غرابْ

علاش زينه نخبّيه رزيّه   ***   لا تشوفاش أنظاره

لا عورة لاني دونيّه   ***   لا وجهي مصفارْ

إنّ الإشارات الصريحة والضمنيّة التي تظهر فيها المرأة قويّةً وصامدةً ومتحدّيةً هذا النظام التقليدي بكلّ ما أوتيَت من حيلة، ومعرّضةً نفسها أحيانًا لما لا يجرؤ عليه الرجال، يُبطل الاعتقاد السائد أنّ المرأة تلقّت استبداد الرجل بالصمت والامتثال والخضوع، بل راكمَت مسيرةً تحرّريةً طويلةً انتزعَت خلالها حقوقًا ومكاسب، ولا تزال ساعيةً نحو المساواة التامة.

 

 

  • 1. نشير إلى مقالَين لنا في موقع جيم عن أغاني النساء والشعر الشعبي التونسي، تطرّقنا فيهما إلى مرجعية هذه المدوّنة ومناسبات القول وأنواع الأغاني، من الملالية والأطراق والمحفل وغير ذلك ممّا له صلةٌ بالتوثيق، ما يغنينا عن ذكره في هذا المقال المخصّص لمعاناة النساء.
  • 2. حسين الواد، "الأعمال الكاملة"، "مفهوم الانعكاس في النقد الأدبيّ الحديث"، تونس، دار الجنوب، 2020، ص 387. وفي هذه المقالة تفصيلٌ تاريخي لظهور هذا المفهوم واتّجاهاته في النقدَين العربي والغربي.
  • 3. عبد الواحد المكني، "شتات أهل وسلات بالبلاد التونسيّة، مقاربة في الأنثروبولوجيا التاريخيّة"،صفاقس، دار سحر، 2020، ص 139-140. ويمكن الاطلاع على تصريحه التلفزي عن تجربته في اعتماد مدوّنة الأغاني على هذا الرابط.
  • 4. الصادق الرزقي، "الأغاني التونسية"، تونس، دار سحر، 2010، ص 12.
  • 5. أبو عبدالله الزوزني، "شرح المعلّقات السبع للزوزني"، "معلّقة عمرو بن كلثوم"، صيدا، المكتبة العصرية، 2001.
  • 6. المكني، نفسه، ص 137-138.
  • 7. الرزقي، نفسه، ص 244. وانظر/ي المكني، ص 138. والرزقي يعتبر هذا الزجل سابقًا لمأساة الجبل، وإنما هو عن مأساة الحامّة، وفيها توعّد لجبل وسلات بمصير مشابه، في حين اعتبر المكني أنّه بعد نكبة جبل وسلات.
  • 8. المكني، نفسه، ص 140.
  • 9. سلمى الجلاصي، "أغاني التونسيات من خلال مردَّدَات نساء بلدة الكنائس"، تونس، دار الكتب الوطنية، 2021.
  • 10. الرزقي، نفسه، ص 260.
  • 11. الرزقي، نفسه، ص 291 و260.
  • 12. سلمى الجلاصي، نفسه.
  • 13. سلمى الجلاصي، نفسه.
  • 14. أحمد الخصخوصي، "من مغاني الشعر الشعبي ومعانيه"، تونس، وزارة الثقافة، 2013، ص 21 و26.
  • 15. الرزقي، نفسه، ص 301.
  • 16. الرزقي، نفسه، ص 260.
  • 17. محمد المرزوقي، "الأدب الشعبي"، تونس، الدار التونسيّة للنشر، 1967، ص 161.
  • 18. الرزقي، نفسه، ص 245.
  • 19. نعيمة غانمي وأحمد الخصخوصي، "أغاني النساء في برّ الهمّامة"، تقديم مبروك المنّاعي، تونس، الأطلسيّة للنشر، ط 1، 2010، ص 164. يمكن الاطلاع أيضًا على أغنية مماثلة في كتاب الرزقي، ص 247.
  • 20. الرزقي، نفسه، ص 266.
  • 21. غانمي والخصخوصي، نفسه، ص 166.
  • 22. خريف محيي الدين، "الشعر الشعبي التونسي: أوزانه وأنواعه"، تونس، الدار العربية للكتاب، 1991، ص 139.
  • 23. يروي بعض أبناء مدينة الشابة أنّ رقيّة اختطفت، لكن كلمات الأغنية لا ترجّح ذلك كثيرًا.
  • 24. غانمي والخصخوصي، نفسه، ص 35.
  • 25. غانمي والخصخوصي، نفسه، ص 34. وانظر/ي نفس الملاحظة تقريبًا في كتاب خريّف السابق ص 139.
  • 26. غانمي والخصخوصي، نفسه، ص 34.
  • 27. غانمي والخصخوصي، نفسه، ص 33.
  • 28. غانمي والخصخوصي، نفسه، ص 40.
  • 29. سلمى الجلاصي، نفسه.
  • 30. المرزوقي، نفسه، ص 158-160.