يستعين المعتصم بالله السنوسي بمثال الراقصة المعروفة بـ "الحجّالة" لمحاولة فهم التاريخ الشعبي الليبي من منظور تفكيكي وتقاطعي.
من حينٍ لآخر، تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في ليبيا مقاطع فيديو لحفلاتٍ شعبيةٍ يظهر فيها رجالٌ كُثرٌ يغنّون ويصفّقون بنهمٍ وشغفٍ لامرأةٍ مغطاة الوجه والرأس ترقص بعنفوان، لتفتح ملفّ الفلكلور الليبي والتساؤلات عن هوية تلك الراقصة التي يتداول الجميع مقاطع رقصها.
بالتأكيد، عند الحديث عن الفلكلور والنساء والرقص، يكون الموضوع شائكٌ ومليءٌ بالألغام بسبب الحصار الذي تفرضه الأبوية والفكرُ الذكوري على المجتمع وأجساد المواطنات والمواطنين.
لكن ثمة تفكيرٌ ملحٌ ورغبةٌ شديدةٌ لديّ في الكتابة عن تلك الرقصات بغرض استكشاف ما تكون، في سياق مقاربةٍ جندرية، كما وعدتُ على تويتر صديقتي الجميلة "سالمين"، المفتونة بالشِعر والإنسانيات.
"نحن كليبيّين نتبرّى من هذه الأفعال"
عند تصفّحي موقع تيك توك، شاهدتُ أحد المقاطع في "الإكسبلورير" تحصد رواجًا وتفاعلًا كثيفَين، وكانت تحمل عنوانًا فرعيًا يصرّح باستهجانٍ شديد: "نحن كليبيّين نتبرّى من هذه الأفعال".
تفهّمتُ ذلك الاستهجان، فقد كان صادرًا عن فتًى بسنّ 15 عامًا لا يدرك على الأرجح وجود هذا النوع من التراث الشعبي في زمن العولمة الثقافية، ولا يعرف بحضوره في المنطقة منذ مئات السنين.
في عصرنا الحالي، يُعد رقص المرأة موضوعًا جدليًا في الأوسط الاجتماعية، حيث تتطابق النظرة الذكورية النمطية إلى جميع الراقصات لتسمّيهنّ "عاهرات"، أو "قحبات" باللّسان الليبي. لكن الحال لم يكُن دومًا هكذا.
من هي الحجّالة؟
"الحجّالة" هو الاسم الذي تُعرف به راقصتنا مثيرة الجدل، وأصل التسمية يأتي من كلمة "حجل" العربية التي تعني بحسب قاموس مختار الصحّاح الخلخال1 الذي كان يوضع في قوائم الفرَس، على أن يجاوز الرسغ ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين.
والحجّالة هي امرأةٌ راقصةٌ ترقص على وقع أشعارٍ شعبيةٍ غنائيةٍ تسمى بـ"أغاني العلم"، تتبعها أغاني "الشتّاوة". وتؤدّي رقصاتها وسط حشدٍ من الرجال المجتمعين في دائرةٍ أو صفٍّ طويل، مردّدين المقاطع الشعرية بصيحاتٍ عاليةٍ مع التصفيق بحرارة. ويُسمى هؤلاء الرجال المغنّون والمصفّقون بـ"الكشّاكين"، كما تُلحظ علاقةٌ طرديةٌ بين حركة جسم الحجّالة وقوّة تصفيقهم التي تبلغ أحيانًا حدّ الجنون.
الحجّالة هي امرأةٌ راقصةٌ ترقص على وقع أشعارٍ شعبيةٍ غنائيةٍ تسمى بـ"أغاني العلم"، تتبعها أغاني "الشتّاوة"
عرّف الباحث الأمازيغي الليبي إيهاب ازطاف الحجّالات بأنّهن "نساءٌ بدوياتٌ ناضجاتٌ (متزوجات) يصاحبن الكشّاكة، وهنّ يتمايلن ويتمايحن على إيقاع التصفيق وذلك لإثارة الفتيان". ويجدر بالذكر وجود تشابهٍ بين لفظتَي "حجّالة" و"هجّالة" التي تعني المرأة المطلّقة أو الأرملة في لهجات شمال إفريقيا، مع إشارتها الضمنية إلى كون المرأة سيئة أو منحوسة بسبب طلاقها أو مسؤوليتها عن وفاة زوجها. ويعود أصل كلمة "هجّالة" إلى لفظة "تادجالات" الأمازيغية التي تعني المرأة الأرملة.
جندريًا، على الرغم من وجود عددٍ قليلٍ جدًا من الحجّالين الذكور، تبقى معايير الرجولة المفروضة على رقص الرجل الليبي أكثر صرامة، ويُنظر للتحجيل تحديدًا على أنه خاصٌّ بالنساء حصرًا، حتى أن الغالبية لا تصنّفه فنًا أو رقصًا شعبيًا، بل تربطه بإشباع أنظار الرجال وإبهاجهم. ويشي هذا الموقف بتسليعٍ حديثٍ لحركات الحجّالات في السياق الشعبي الليبي، وارتباط ذلك التسليع أو التشييء (objectification) بسنّ الراقصة التي دائمًا ما تكون في أواخر الثلاثينات أو أكثر، وتتمتّع بجسدٍ مكتنزٍ لا يطابق معايير الجمال السائدة التي تمجّد أجساد عارضات الأزياء.
وذكر ازطاف انتماء الحجّالات إلى البدو عندما صنفهنّ "نساءً بدويات"، ما يعني تحدّرهنّ من القبائل الموجودة في ليبيا من أصلٍ عربي، ما يشير إلى أنّ ذاك النوع من الرقص الشعبي لا يوجد إلّا عند العرب. وبما أنّ الشعب الليبي متعدّد الأعراق ولكلٍّ منها ثقافةٌ خاصة، يصبح فنّ التحجيل الخيطَ الذي يقودنا للبحث في تراث القبائل العربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لاسّيما الرقصات الفلكلورية فيها، سواء قبل ظهور الإسلام أو بعده.
أمّا بالنسبة إلى "الكِشّاكين"، أي ممارسي فنّ "الكِشِكْ" الشعبي وقوامه التصفيق الحارّ بالأيدي بالترافق مع ترديد الشّعر الشعبي المعروف بـ"الشتاوة"، فأينما وُجد صاحبَته الحجّالة. ويَشتهرُ الكِشِكْ في حفلات الزواج أو الختان التي كانت تستمر قديمًا طيلة سبعة أيام، حتى أن ثمّة مثل ليبي شهير عن الأعراس يقول "سبعة أيام وسبعة ليالي"، ويرتبط بالرواية الدينية عن الخلق الإلهي للدنيا في ستة أيامٍ ثم استواء الله على العرش في اليوم السابع.
وتُقام هذه الحفلات في وقت "اللوايا" (شهرا يونيو ويوليو) الذي غالبًا ما يكون مناسبًا للمجتمع البدوي بفضل الوضع المالي الجيّد بعد موسم بيع ناتج الأغنام، والطقس الملائم للاحتفال في الهواء الطلق، والعطلة المدرسية الصيفية. فبعد حلول العصر ونزول الشمس في مغربها، يجتمع الكشّاكون كما أسلفتُ في صفٍّ طويلٍ أو في دوائر، ويشرعون في ترديد الشتّاوة أو أغاني العلم التي تحفّز الرجال وتُعدّهم لدخول الحجّالة.
"إدَّودِشْ وخُوذْ اْقْدَارْ *** إنْ كُنُتْ يا عَلَمْ في بَابْهِنْ"
بيتٌ من أبيات أغاني العلم التي تُؤدّى في الصّف ومفاده: تعالي الهوينى، تجدين كل التقدير واحترام، إذا كنت متشوّقةً إلى هذا الاحتفاء والتقدير منّا.
"نْبَاتُوا مَيخُوذِينْ صِحِيحْ *** إنْ كَانْ مَا قِسَمْ بُو دُورْ يمِيحْ"
بيتٌ من أبيات أغاني الشتّاوة ومعناه: ما يجعلني أفقد الأمل والثقة، هو فقداني حبّك يا حبيبي.
يُروى أن الحجّالات كنّ قديمًا من بنات النجع، لاسيما قريبات ومعارف صاحب العُرس. وكان تطوّعهن للرقص يُعتبر نوعًا من التحية والتعبير عن الفرح؛ ذلك أنّ الحضور كان يقتصر على أهل العُرس وبعض النجوع المجاورة. كان الجميع يعرفون بعضهم البعض، فيلتزمون "الآداب العامة" و"السلوك الحسَن". لكن بسبب تغيّر طبيعة الأعراس وانفتاحها للغرباء، صار رجال العائلة أو القبيلة يمنعون نساءهم من الرقص، ما أفسح المجال لظهور طائفةٍ أخرى من النساء اللواتي يمتهنّ الرقص لقاء بدلٍ مادي.
تستخدم الحجّالة العصا لتنظيم صفّ المصفّقين أو في حال خروج أحد الرجال من الصّف واقترابه من مساحتها الشخصية بلا رغبةٍ منها
توقفَت بناتُ النجع عن الرقص بأمرٍ من رجال القبيلة أو العائلة بسبب عدم التزام الحاضرين بالعادات والتقاليد، ما يُرجعنا إلى وجه الاختلاف بين حجّالات القبيلة والحجّالات الممتهِنات للرقص بمقابلٍ مادي، لجهة درجة التشييء أو التسليع في الفضاء الذي يرقصن فيه. فقديمًا، كانت العادات والتقاليد تقضي باحترام الراقصة، وتحريم التحرّش بها أو محاولة إيذائها باعتبارها "ملكيةً" للقبيلة أو العائلة وأحد عناصر شرفها، ما يعني إمكانية نشوب نزاعٍ عائلي داخل القبيلة نتيجة تهديد الفاعِل للأمن والسّلم المُجتمعيّين.
من جانبها، تستخدم الحجّالة العصا لتنظيم صفّ المصفّقين أو في حال خروج أحد الرجال من الصّف واقترابه من مساحتها الشخصية بلا رغبةٍ منها، فتبتعد عن الساحة بمساعدة مُحضِرها (طفلٌ أو عجوز)، ولا تعود للرقص إلّا بعد معاقبة المُنتهك.
النخّاخة: هل هي حجّالة؟
"نُخّي يأم قصاص طويلة، عالطبيلة، جيناكم خطّار الليلة
نُخّي يا زينة الألباس، ويأم قصاص، وأم غيث إكداس إكداس
وأم عقود وزوز خراص، دار شعيلة، خدّك بارق نزل سيلة، نخّي يأم قصاص طويلة..."
عندما نتحدث عن الحجّالة وعلاقة النساء الليبيات بالرقص، لا يمكن نسيان أو تجاهل إحدى الأغاني العالقة في الذاكرة الموسيقية الليبية، أغنية "نُخّي يا أم قصاص طويلة" التي غنّاها المغني الشعبي الراحل محمد حسن.
"النخيخ" أو "التنخيخ" هو أحد أنواع الرقص الذي تؤدّيه الفتيات العازبات في الحفلات الشعبية والخاصة كما في المناسبات الوطنية لاسيما قبل عام 2011، إذ كان نظام معمّر القذافي يروّج له باعتباره تراثًا عربيًا أصيلًا. وفيه، نرى الراقصات الشّابات (16-25عامًا) ذوات القوام النحيف والشّعر الطويل المعطّر بالروائح والحنّة الممزوجة بزيت القرنفل، يتمايلنَ بشعورهنّ وهنّ جالساتٍ على ركبهنّ.
يُعد التنخيخ نوعًا من رقصات التعارف بقصد الزواج. فعند رقص النخّاخة أمام الشباب العُزّب، يختار الشابُ الفتاةَ التي تعجبه لتكون زوجةً له. وعند المقارنة بين الحجّالة والنخّاخة، ليس من فروقاتٍ جوهريةٍ أو بارزة، فكلتاهما ترقص أمام حشدٍ من الرجال وتتقاطع بعض الحركات الراقصة بينهما، فالحجّالة تَنُخْ لكن النخّاخة لا تُحجّل. إلّا أن السياقات المُجتمعية وبالتالي النظرة الفولكلورية إلى كلٍ منهما تختلف، فبعكس الحجّالة، الكلّ يحتفي بصفات النخّاخة ولا يُنظر إليها باعتبارها "عاهرة" البتة.
لكن في زمننا الحالي، يُعتبر التنخيخ مثل التحجيل، وإن كانا من بين الفنون الشعبية التي بلغَت الذروة قبل عقودٍ خلَت، إلّا أنهما تأثّرا بتغيّر الزمن، فباتا نادرَي الوجود ومُقتصرَين على الذاكرة التراثية.
هل هو تراثٌ عربي مشترك؟
بعد البحث، وفي حوارٍ مع أشخاصٍ مهتمّين بالثقافة الليبية، أشاروا إلى أن الحجّالة جزءٌ من تراث العرب مع اختلاف السّياق بحسب البيئة المحلية. فللحجّالة وجودٌ بالاسم ذاته (حجّالة) في منطقة الفيوم المصرية القريبة من نهر النيل، والتي يضمّ مجتمعها أهلَ الحضر وأهل البداوة من قبائل العرب رُحّل. بالإضافة إلى الاسم، تشترك الحجّالة الليبية مع حجّالة الفيوم بلثام الوجه، والرقص على "الشتّاوي" أو "الشتّاوة"، ومراحل الرقص التي تبدأ بأداء أغاني الشتّاوة التي يسمّيها أهل الفيوم بـ"الشتيوة"، والتصفيق الشديد أثناء ترديد الرجل أبيات الشتّاوة لجذب انتباه الراقصة كي ترقص أمامه. فمَن يفوز بانتباه الراقصة بواسطة قوة تصفيقه يُعتبر فحلًا أو رجلًا لعوبًا، وهنا يظهر استعراضُ الفحولة الذكوري.
الحجّالة جزءٌ من تراث العرب مع اختلاف السّياق بحسب البيئة المحلية
وإذا ما ذهبنا إلى شبه الجزيرة العربية حيث رقصة "المُعلّاية" أو "أم علّاية" التي تقابل رقصة الحجّالة الليبية في الأفراح الشعبية، نجد الراقصة في الملبس ذاته، إذ تغطّي وجهها بحجابٍ أو لثامٍ أو نقاب، مظهرةً الأجزاء المثيرة من جسمها وترقص على وقع الأغاني الفلكلورية المحلية.
أما في الإمارات، فنجد رقصةً أخرى تُسمّى برقصة "العيّالة" الشهيرة، وتقابلها رقصة التنخيخ في ليبيا. وكانت العيّالة رقصةَ الانتصار بعد الحروب يؤدّيها الرجال بحركاتٍ راقصةٍ معينةٍ يرافقهم الضرب على الطبول وإنشاد الأناشيد، كما تتضمّن جذب أعين الخطّابة من قبل العائلات الموجودة في المكان. وتختلف الحركات التي يؤدّيها الرجال الإماراتيون في حضور العيّالة عن حركات الرجال اللّيبيين في حضور النخّاخة، رغم تشابه النوايا أو رمزية سياق الاحتفاء في إطاره الشعبي. أما النخّاخات والعيّالات أنفسهنّ، فيؤدّين الحركات ذاتها المذكورة آنفًا، مثل التمايل بالشّعر الطويل.
"بوحليقة" شاعرُ الحجّالات
في حقبة الحرب العالمية الثانية، اشتهرَ في المنطقة الشرقية في ليبيا شابٌ يهودي كان اسمه "كليمنتي اربيب"، وعُرف بلقب "بوحليقة" لوضعه حلقةً في أذنه. كان بوحليقة تاجرًا متجولًا يبيع الأقمشة والفرش العربي، ومن المثير للاهتمام أنه كان يرتدي الأفرشة النسائية، ما أضاف إلى مظهره هيئةً كويريةً بهويةٍ محلية. ويعتبر البعضُ بوحليقة أحدَ نجوم الشّعر الشعبي في ليبيا.
تزوج بوحليقة من امرأةٍ يهوديةٍ اسمها "سهاري حرنون"، كانت تعمل دلّالةً أي بائعةً متجولةً مثل زوجها. واشتهرت سهاري بأغاني العلم في الأعراس رفقة صديقتها "مطاري" التي يُقال أنها كانت مسلمة، كما كانت لها أختٌ شهيرةٌ عُرفت باسم "مراحب الحجّالة" نسبةً لممارستها التحجيل.
أنجبت سهاري من بوحليقة طفلًا أسمياه موسى، وفي ليلة الختان، أقام الوالدُ وليمةً كبيرةً للجيران وحفلة كشكٍ ضخمةٍ أتى فيها بأجمل وأشهر حجّالةٍ في برقة، وكان اسمها "ميزونة". أكل الناسُ وشربوا ومارسوا التكشيك مع ميزونة حتى الفجر:
"بيضا لبست ثوب حرير ... لها تصوير ... كما لير مصادف بوطير
حزام اللي في الجو تغير ... هي ما تعرنقي ... والخيل مع الخيل شرنقي"2
الحجّالة داخل المعترك السياسي
مؤخرًا، في عام 2019، انتشر لقب "الحجّالة رُكن" في سياق النزاع الناشب بين قوات شرق ليبيا وقوات حكومة الوفاق سابقًا الموجودة في طرابلس غربَ البلاد. التصق هذا اللقب الذي أطلقه المعارضُ السياسي نعمان بن عثمان على غريمه أحمد المسماري، المتحدث باسم ما يعرف بالجيش الوطني الليبي، حتى أصبح اللقبُ مطاردًا وملازمًا له. وبلغ الأمرُ أن أصدرَت قوات شرق ليبيا التي يتبع لها اللواء المسماري تحذيراتٍ للناس من تداول تلك الكلمة أو الصفة.
بالتأكيد، تشبيه رجلٍ عسكري بالحجّالة - وهي امرأةٌ تُعتبر "عاهرةً" في كعب الهرمية الاجتماعية - يشكّل ورقة ضغطٍ وعنفٍ معنوي قائمٍ على أساسٍ أبوي. فبحسب الفكر الذكوري، الخطابُ التأنيثي هو إهانةٌ بالغةٌ في سياق الحرب والنزاع الذي يقتضي إثبات الرجولة التقليدية المُبالغ بها.
هنّ بيننا لكن مختبئات
حتى إن كانت الحجّالات جزءًا من الفلكلور والتراث، لا يعني ذلك بأنهنّ يتمتعنَ بمكانةٍ اجتماعيةٍ عالية، فالرجال يصنّفونها في أدنى المراتب. وما تغطية وجهها إلا جزءٌ من رغبتها في عدم كشف هويتها للجميع على الرغم من وجود أشخاصٍ يعرفونها، وذلك كي لا تتسع رقعة اضطهادها.
حتى إن كانت الحجّالات جزءًا من الفلكلور والتراث، لا يعني ذلك بأنهنّ يتمتعنَ بمكانةٍ اجتماعيةٍ عالية، فالرجال يصنّفونها في أدنى المراتب
بعد بحثٍ مضنٍ للوصول إلى إحدى الراقصات، نجحتُ أخيرًا في الحصول على رقم هاتف إحدى التشاركيات في الشرق الليبي، وهي شركةٌ تعمل وسيطًا لجلب الحجّالات. اتصلتُ برقم الهاتف لتجيبني امرأةٌ يوحي صوتها أنها في الأربعينات. أخبرتُها أني باحثٌ مهتمٌ بالكتابة عن الثقافة الليبية وأودّ طرح بعض الأسئلة البسيطة، فأجابتني بنبرةٍ حادة:
ولدى سؤالي أشخاصًا على الإنترنت بشكلٍ عشوائي عمّا يعرفونه عن السيدة، أجابني أحدهم بنبرة وَصم: "هي امرأةٌ مطلقةٌ تحبّ الرقص بين الرجال"، بينما قالت أخرى: "هي قحبة تهزّ جسمها أمام الرجال". إذًا، الوصمة الاجتماعية قاسية، ما يفسّر نبرتها الحادة عبر الهاتف.
نزوح الليبيات من التحجيل
أجمعَ معظم الأشخاص الذين حضروا حفلاتٍ أحيَتها الحجّالة في العقدَين الأخيرَين على أنها امرأةٌ غير ليبية، وغالبًا ما تكون من الجنسية المصرية أو المغربية أو من العائدات إلى البلاد. لكن يبدو أنّ حضور الليبيات في المجال بات خافتًا وتطغى عليه سرّية العمل.
يُفسّر نزوح الليبيات عن التحجيل تغيّر تركيبة فضاء الرقص الشعبي، وأوامر رجال العائلة والقبيلة بعدم تحجيل بناتهنّ، وظهور الفئة التي بدأَت بممارسة التحجيل بمقابلٍ مادي نتيجة غياب الليبيات عن الساحة، ما أتاح الفرصة لغير الليبيات لممارسة هذه المهنة، فتحوّل التحجيل من فنٍ شعبي إلى مهنةٍ تجارية.
يُفسّر نزوح الليبيات عن التحجيل تغيّر تركيبة فضاء الرقص الشعبي، وأوامر رجال العائلة والقبيلة بعدم تحجيل بناتهنّ، وظهور الفئة التي بدأَت بممارسة التحجيل بمقابلٍ مادي نتيجة غياب الليبيات عن الساحة
ولعلّ هامش الحرية البسيط لدى النساء غير الليبيات بعيدًا عن مجتمعاتهنّ الأصلية يمنحهنّ الفرصة لممارسة تلك المهنة، لكن يبقى التمييز موجّهًا ضدّهن لكونهنّ "أجنبيات" أو "صاد شين"3 كما يُشير إليهنّ البعض. كذلك لا بد من ذكر الوصمة التي تلاحق أبناء النساء غير الليبيات، لاسيما المصريّات المتزوجات من رجالٍ ليبيين، كتلقيبهم بـ"أبناء الحجّالات".
تفكيك كل الأجزاء المتعلقة بتاريخ النساء ودورهنّ في الثقافة الليبية أمرٌ لا زال يُعالج على نحوٍ سطحي وتقليدي، وتهيمن عليه السّرديات الأبوية الرافضة للتفكيك من منظورٍ جندري أو الغوص في تاريخ الفلكلور الليبي المليء بسراديب منسيّةٍ عمدًا، تبدو أحيانًا تابوهاتٍ مختومةً بالشمع الأحمر. ولعلّ الحجّالة ليست سوى المفتاح الذي يفتح أبواب تلك السراديب ليقودنا نحو فهم التاريخ الشعبي الليبي من منظورنا التفكيكي والتقاطعي.
- 1محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، قاموس مختار الصحّاح، مكتبة لبنان، 1989، ص 53.
- 2 للمزيد من المعلومات، يمكن الاطلاع على هذه الصفحة.
- 3تشير عبارة "صاد شين" أو "ص. ش." إلى الصحراء الشرقية. ففي بداية حكمه مطلع السبعينات، أنشأ معمّر القذافي مكتبَ الصحراء الشرقية لمنح الجنسية الليبية للقبائل القاطنة في شرق ليبيا والأراضي الممتدة داخل الحدود المصرية. ومنذ ذلك الحين، يُطلق الليبيّون على أبناء تلك القبائل لقب "صاد شين" باعتبارهم غير ليبيّين، أي مصريّين. وبمرور الزمن، اتسع استخدام العبارة لتشمل أبناء وبنات الأمهات المصريّات، أو أيّ شخصٍ من أصولٍ مصرية.
إضافة تعليق جديد