يدعو ليل إلى فتح النقاش بشأن الصحة النفسية للأشخاص الكوير من أجل المساعدة في الانتقال من العزلة والعزوف إلى الظهور، وتشارك تجربة التّصالح مع الذّات في كل حالاتها النفسية.
عندما أستحضر بعض المواقف المتعلّقة بالصّحة النفسية وكيفية الاعتناء بالذات، أتذكّر إحساسي بعدم الانتماء إلى دوائر النشاط الكويري التي كنتُ جزءًا منها. فأعراض الاكتئاب وقلق ما بعد الصّدمة كانت وما زالت تعيق إنتاجيّتي وتفاعلي أحيانًا، كما كان الخوف من الوصم يقوّض قدرتي على مشاركة الآخرين ما يجول في ذهني من أفكارٍ سوداوية في أوقاتٍ عصيبة. بالتالي، كنت أجد نفسي في عزلةٍ تامةٍ وأحسّ بالذنب لعجزي عن المساهمة في الإنتاج المعرفي والفكري و/أو الإنتاج بشكل عام.
أتذكّر أيضًا نوبات الاكتئاب والقلق الشديد التي كانت تُغرقني في سيلٍ من الهموم، فتتسارع أنفاسي ويخذلني عقلي ليتخيّل أسوأ السيناريوهات، كأن أشعر بأنّي عالقٌ في تلك اللّحظة كأنّ الوقت توقّف إلى الأبد، أو أني لن أستطيع المضيّ قدمًا في حياتي، أو أنّني إنسانٌ فاشلٌ كُتب له ألّا يفلح في أيّ شيء. تنهار ثقتي وأتأقلم مع فكرة أنّي غير صالح/ةٍ لشيءٍ وأنّي لست بناشط/ةٍ حقيقيّ/ةٍ وما من أحدٍ يحبّني أو يكثرت لأمري.
لكن في الآونة الأخيرة، قضيتُ أغلب الوقت أحاول استكشاف ذاتي ودراسة الموضوع من منظورٍ تحليلي لا عاطفي بحت، بصرف النظر عن حالتي النفسية. ابتعدتُ قليلًا عن الساحة النضالية وبدأتُ أراقب تأثيرات المحيط وسرد الناشطات والناشطين قصصًا عن الإرهاق الشّديد والحاجة الماسّة للاعتناء بالذّات1 والمرونة في التعامل، والبحث عن التواصل المثمر والصّحي، وسيطرة التوتّر والقساوة في فضاءات الشغل في دوائرنا. وبدأتُ أفكّر بصلاحيّة الأجساد والعقول وكيف أنها قد تساهم في العزوف عن المشاركة الصّحية في النشاطات.
لا تزال الصحة النفسية تُعَدّ من التابوهات حتى بين الناشطات/ين الكوير واليساريات/ين، فليس من السّهل فتح نقاشٍ بشأن سلبيات فرض ثقافة صلاحية العقول والأبدان
"الصلاحية" أو Le validisme بالفرنسية: لا أتحدث هنا عن صلاحية المواد الاستهلاكية، إنما عن التوجّه إلى فرض شعورٍ بالإيجابية والحيوية على الأفراد الكوير إلى حدٍّ يتضارب مع حدود صحّتنا الجسدية والنفسية. نحن مطالباتٌ ومطالَبون بأن نكون بكامل صحّتنا، فلا مجال للشعور بالاكتئاب أو القلق، ومن غير المقبول أن نمتنع عن المشاركة في المحافل الكويرية حتى ولو كان ذلك لأسبابٍ تتعلق بصحّتنا النفسية وحاجتنا للاعتناء بأنفسنا. لكن غالبًا ما أتذكر في هذا السياق كلمات الكاتبة النسوية الأميركية أودري لورد (Audre Lorde) في كتابها عن بناء مجتمعاتٍ تعتني بمكوّناتها بعنوان "A Burst of Light"؛ وفيه تقول: "الرّعاية بذاتي ليست انغماسًا في الذّات بل هي حفاظٌ على الذّات، وهذا فعلٌ في الحرب السياسية".
"صلاحية" العقول والأبدان هي حالةٌ جديدةٌ مفروضةٌ علينا تَخلُق فجوةً عميقةً بين مختلف فئات المجتمع الكويري، من شأنها أن تُبعد وتُقصي كلّ من لا يتمتّع بصِحّةٍ وسلامةٍ نفسيةٍ وفقًا للمعايير النمطيّة. بالتالي، تُصبح التفرقة هي السّائدة بدلًا من الوحدة والتضامن داخل المجتمع الكويري. وفي حين يُفضِّل معظم الأفراد الكوير المشاركة في التظاهرات الكبرى أو الحفلات التي تَفرِض بالضّرورة تفاعلًا اجتماعيًا نشيطًا، ومبادراتٍ للتقرّب والاستلطاف، وتناول الكحول كنوعٍ من التكيّف الاجتماعي، يَظَلّ البعض الآخر متردّدًا بين المشاركة والعزوف، وبين الإحساس بالرّاحة والإحساس بالذّنب لعدم القدرة على المشاركة الفاعلة.
الحالة النفسية التي يعيشها الأشخاص الكوير والمتأرجحة غالبًا بين الاكتئاب والقلق بشتّى درجاته، تستدعي التوقّف والتمعّن فيها. فالضّغط الذي نختبره مُضاعفٌ بالمقارنة مع الأشخاص الغيريّين/ات عمومًا، وتَعَرُّضُنا لمواقف متكرّرةٍ شبيهةٍ بتلك التجارب في ماضينا من هوموفوبيا، وترانسفوبيا، وانعدام الأمان العاطفي، والوحدة والخوف من الإهمال والهجران ربّما نتيجةً للرّفض العائلي وحتى المجتمعي، كلّها أمورٌ توقظ صدماتنا. معظمنا يعاني بصمتٍ ولا نجد الأمان الكافي للبوح بكلّ ما يجول في خواطرنا، وكثيرًا ما توصف أحاسيسنا وأفكارنا بالسلبيّة. لا تزال الصحة النفسية تُعَدّ من التابوهات حتى بين الناشطات/ين الكوير واليساريات/ين، فليس من السّهل فتح نقاشٍ بشأن سلبيات فرض ثقافة صلاحية العقول والأبدان. لذا، ما زال غائبًا عن النقاش موضوعُ الاكتئاب مثلًا، وكيفيّة خَلق مساحاتٍ تُعنى بالصّحة والسلامة النفسية للناشطات/ين والكوير بشكلٍ عام، واستكشاف أدوات الرّعاية الذاتية والمجموعاتيّة وآليات الاشتغال وفق هذه المعايير.
إنّ استدامة السلامة والصّحة النفسية والبدنية من دون أيّ تحدّياتٍ هي وهم
التكتّم على المعاناة النفسية، والانعزال التّام عن الدوائر الصديقة والأسرة الكويرية المختارة والإحساس بانعدام الثقة حتى داخل مجتمعنا الكويري، كفيلٌ بأن يقود الكثير منّا إلى أفكارٍ سوداويةٍ قد يصعب كَبحُها، فيُقدم البعض منّا على محاولة الانتحار. كم من مرّةٍ استقبَلنا نبأ رحيل صديق/ة أو رفيق/ة تشاركنا معه/ا مشوارنا النضالي وكفاحنا وأفراحنا وأحزاننا، بألمٍ وحسرةٍ وانكسارٍ وصدمة؟ انعدام الإحساس بالأمان، والشعور بعدم فهم الآخرين لنا، وانعدام المساواة أو اتهامنا بأننا نبالغ في ردّات فعلنا، كلّها عوامل تثير حفيظة مَن يعانون بصمت. عندها، لا ندري كيف نعبّر عمّا بداخلنا أو لِمَن نلجأ، فنضطرّ إلى مناجاة الغرباء، أو نلجأ إلى ممارساتٍ خطيرةٍ كالتطبيب الذاتي من خلال معاقرة الكحول أو تعاطي المخدّرات التي قد تودي بنا إلى دوّامة الإدمان أحيانًا.
لا أقول هذا من باب استدرار الشّفقة أو تصوير الأفراد الكوير ممّن يواجهون تحدّياتٍ نفسيةً كعوارض القلق أو الاكتئاب أو غيره على أنهنّ/م ضحايا، بل أقوله بهدف تعزيز الثّقة والصّدق في تقاسم المعاناة والبحث الحثيث لإيجاد الحلول. وكما ذكرتُ سالفًا، إنّ استدامة السلامة والصّحة النفسية والبدنية من دون أيّ تحدّياتٍ هي وهم. فمِن غير المنطقي أن نتوقع من أنفسنا أن نكون بصحّةٍ نفسيةٍ وجسديةٍ مثاليةٍ طيلة الوقت، إلى حدّ إلغاء من تمرّ أو يمرّ بوعكةٍ نفسيةٍ أو عاطفية. كلنا نعي أنّنا لسنا خبيراتٍ وخبراء في الطب النفسي، ولا يمكننا أداء دور المحلّل/ة أو الطبيب/ة النفسي/ة، لكن بوسعنا خلق مساحاتٍ آمنةٍ للتحدث عن الأمر. توفير الدعم وتشارك التجارب لن يخفّفا من قسوة ما نعانيه فقط، بل يفتحان آفاقًا لِتَعَلُّمِ طرقٍ جديدةٍ من أجل التعافي والرّعاية الذاتية.
إذا فتحنا النقاش بشأن هذه المسألة، يمكننا أن ننتقل من العزلة والعزوف إلى الظهور والمشاركة، ما يجعلنا فخورات/ين بقوّتنا وحبّنا لذواتنا، ويوقفنا عن جلد الذّات ومعاقبتها وتوبيخها. ومن شأن هذا النقاش أيضًا أن يدفعنا لنتشارك تجربة التّصالح مع الذّات في كل حالاتها النفسية. فنحن لا نريد إعادة إنتاج موازين قوى شبيهةٍ بتلك التي نحاربها في ميادين نضالاتنا التقاطعية، والتي ترتكز على الإقصاء والتّهميش والقمع من خلال تراتبيّات التّموقع الاجتماعي أو السياسي أو العسكري أو الاقتصادي. من المعروف عن كل الثورات والحركات التحرّرية أنها مشوبةٌ بالنقص داخل تنظيماتها، ولا عيب في ذلك. ليس الكمال ما نبحث عنه، إنّما الهفوات والأخطاء كي نتعلّم منها كيفية بناء مجتمعٍ كويري متحرّرٍ وشاملٍ للجميع.
من خلال الاعتناء بذاتنا ومجموعاتنا، ننجز فعلًا سياسيًا راديكاليًا لا يقل أهميّةً عن النشاطات الأخرى
الاعتناء بالصّحة والسلامة النفسية للأفراد الكوير هي مسألةٌ مهمةٌ لمواصلة كفاحنا. وقد لا تُفضي إلى تغييرٍ جذري في واقعنا، لكنها قد تقلّل من المخاطر التي نتعرّض لها وتساهم في تحسين ظروف وجودة حياتنا كأشخاصٍ كوير، مثليّات/ين، خارج الثنائية الجندرية، عابرات/ين وملوّني/ات البشرة. تحريرنا لن يكتمل إلا بإشراك كافة الأشخاص الكوير بجميع فئاتهنّ/م، لاسيما مَن يواجه تحدّياتٍ نفسيةً أو جسدية.
من خلال الاعتناء بذاتنا ومجموعاتنا، ننجز فعلًا سياسيًا راديكاليًا لا يقل أهميّةً عن النشاطات الأخرى. فعندما نتبادل المساعدة، ونوفّر الدعم النفسي والعاطفي والمادي ونخلق مساحاتٍ مناسبةً للجميع للاحتفاء والمشاركة، يمكننا أن نبني شريحةً مجتمعيةً عريضةً تتسع لمختلف المطالب. كما أنّ توحيد الجهود والقوى في ما بيننا كمجموعاتٍ نسويةٍ كويريةٍ يُمْكنه ردّ الضّرر النفسي والعاطفي الناتج عن مشروع "فرّق تَسُدْ" الرأسمالي الذي يُشجّع مذهبَ الفردانيّة عوضًا عن الروح الجماعية، ويَحُول بيننا وبين التضامن والحبّ كقِيَمٍ نستحقّ التمتّع بها.
- 1إشارتي إلى العناية بالذّات هنا ليست من واقع سوسيو/اقتصادي ينتمي إلى دول الشّمال، حيث غالبًا ما يقترن هذا المفهوم بالمكافآت المادية. العناية بالذات من منطلقي كنازح من دول الجنوب هي تلك الأشياء القيّمة البسيطة كالخروج في نزهة، أو معاملة نفسي برفق وليونة عندما أعدّ طبق يذكّرني بوصفات أمّي، أو تبادل الحب مع الصديقات والأصدقاء وقراءة أوراق التارو.
إضافة تعليق جديد