عندما كنتُ في سنّ الثالثة، أضرمتُ النار بنفسي عن غير قصد. أتذكّر الحادثة لكن لا أتذكّر ما أدّى إليها. بحسب الرواية، أو كيف وصلَتني، كنتُ أريد الاستحمام، وكانت والدتي في المستشفى مع أختي الكبرى، ليلى، التي كانت تخضع لعملية إزالة اللوزتَيْن. كان والدي المُنسحب من حياتنا إجمالًا - إلّا في لحظات غضبه التي كانت تترك آثارها على أجسادنا - نائمًا. دخلتُ الحمام وفتحتُ حنفية الماء المغلي. أتذكّر أختي سهى التي كانت في الخامسة من عمرها تحاول سحبي من تحت الماء … ثمّ، أُغميَ عليّ، واستيقظتُ في المستشفى في اليوم التالي، وكلّ يومٍ بعده تقريبًا، بشكلٍ متقطّع، لمدّة عام. نصح الأطبّاء الذين كانوا يعالجونني ببتر ساقي اليسرى التي كانت عرضةً للالتهاب حين بلغ التشوّه أوجّه، بعد أن ذاب الجِلد حتى بان العظم.
لكنّ والدتي، التي ما زلتُ أبجّل ذكراها، إذ توفّيت بعد بضعة أعوام، رفضَت ذلك النهج العلاجي. فكانت تحملني إلى الحمّام وأينما ذهبنا طوال العام الذي لم أقوَ خلاله على السير. لم أكُن أعرف ذلك حينها، لكنّني الآن أدرك أنّها، وببادرةٍ لطيفة، كانت تحاول بلسَمة ألمي بالنفخ بشفتَيها على حروقي. كلّ ليلة، وبابتسامةٍ متأسّفة، كانت تنظّف الملاءات التي أبلّلها، وكانت تحرص على القيام بذلك بسرعةٍ خوفًا من ردّ فعل والدي. كانت تعلم أنّه لو اكتشف ذلك، لكان أبرح بي ضربًا. أتذكّر والدي الذي لم أتحدّث إليه منذ ثمانية أعوام، بفكّه المشدود الجاهز للمعركة وقبضته المحكمة المصوّبة باتجاه وجهي.
كان الحرق شديدًا لدرجة أنّ الأطبّاء أجمَعوا على أنّني قد لا أمشي مجدّدًا. أخفَت والدتي ذلك عنّي. وكانت كلّ يوم تصبّ الماء المثلج على ساقي لإخماد اللهيب الذي كان لا يزال يتصاعد من بشرتي. كانت تُشبع ساقي بالفازلين وتدرّبني على الوقوف، غير آبهةٍ بصراخي. كلّ ما أتذكّره عن الألم هو ذاك الشعور الواخز الذي كان يعتريني عندما كنتُ أضع قدمي على الأرض، ولذعة اللحم المحترق، والتقرّحات غير المتجانسة عند أسفل قدَمَيْ لدى محاولتي السير. لكنّ ما أتذكّره أكثر من الألم هو عاري المتجذّر – خجلي من ندوبي، ومن عرَجي ومن مظهري المشوّه. طوال عقدَيْن، لم أنظر مرّةً إلى قدمَيْ. واليوم، تمتدّ ندوبي من ظهري، وتتقطّع عند فخذَي، وصولًا إلى ربلة ساقي اليسرى، متشابكةً عند إصبع الخنصر.
ما أتذكّره أكثر من الألم هو عاري المتجذّر – خجلي من ندوبي، ومن عرَجي ومن مظهري المشوّه. طوال عقدَيْن، لم أنظر مرّةً إلى قدمَيْ
لُمتُ نفسي على الحادث وعلى ندوبي التي خبّأتها منذ حصوله. وغرقتُ في هذا اللوم حين توفّيَت والدتي التي كانت تصرّ على أن أُظهر ندوبي وأفتخر بها، فأخفَيتُها عن النساء اللواتي أحببتهنّ، وعن الغرباء. لكن أكثر مَن أخفيتُها عنها هي نفسي.
نفرتُ من ندوبي، ولم ألمسها أو أهتمّ بها إلى أن التهبَت عظمة قدَمي من جرّاء الاحتكاك بالنسيج المحروق، فاضطُررت إلى الخضوع لعمليةٍ أخرى. كانت تلك المرّة الأولى التي كان عليّ التحدّث فيها عمّا عشته، فوجدتُني أفتّش عن القصّة التي سأرويها لأصدقائي وصديقاتي وزملائي وزميلاتي وأي شخصٍ يصرّ على معرفة سبب وجودي في كرسي متحرّكٍ فجأة.
خلال الأشهر الثلاثة الأولى من وجودي في كرسي متحرّك، أصرّيتُ على القيام بجميع الأمور بنفسي. كنتُ أنزلق في الحمّام، وأصطدم بالأبواب، وأصرخ في وجه أيّ شخصٍ يقترب من جسمي. انتظرتُ، بغضبٍ عارم، اللحظة التي سأصبح قادرةً فيها على المشي مجدّدًا. لم أتقبّل جمود جسمي، ولم أكترث لما قد أتعلّمه من عجزي عن الحراك. شعرتُ بأنّني أستحقّ العقاب لأنّي تسبّبتُ بهذه الجروح لنفسي عندما كنتُ طفلة. منعتُ عن نفسي الطعام، وغرقتُ في حالةٍ من العار، ورفضتُ الحلول للعراقيل التي اعترضَت طريقي.
**********
مرّت تلك التجربة، لكنّ العار الذي غمرَني بسبب تشوّهي لازَمَني.
في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، غادرتُ بيروت ووصلتُ إلى برلين. كان هذا قرارًا صائبًا، إنّما لم يخلُ من العواقب. كانت بيروت مليئةً بالمآسي وبالأحبّة. أمّا برلين، وسط شتائها اليائس وحالة الإقفال العام فيها، فكانت مجرّدةً من الحيوية، موحشةً وغارقةً في الصمت.
في بيروت، كنتُ أعمل بوتيرةٍ مربِكةٍ استعدادًا للأزمة المقبلة، وللخوف الذي ستخلّفه والقوّة التي ستنبثق من الغضب حيال القسوة المشتركة والبائسة التي أُخضعنا لها: انهيارٌ اقتصادي متواصلٌ هندسه رجال السلطة، وشعبٌ متروكٌ ليواجه التداعيات الطاحنة. في خضمّ مسيرة الصراع للبقاء تلك، كنتُ هادئةً ومتيقظةً وجاهزةً للتحرّك. لكن، في برلين، كان الفراغ ينخر الأسنان، والذعر سيّد الموقف.
في 10 أيار/مايو 2021، شخّص طبيبٌ عامٌ في برلين حالتي بتضيّق الصمام الأبهري، وهو مرضٌ قلبي يميّزه صوتٌ غير طبيعي للقلب (نفخة قلبية)، مصحوبٌ بألمٍ في الصدر وضيقٍ في التنفّس وسرعةٍ في نبضاتٍ القلب وإرهاق. إثر هذا الخبر، انكببتُ على إجراء أبحاثي عن الحالة. بعد 12 ساعةٍ من مشاهدة مقاطع فيديو على يوتيوب عن "صوت نبض القلب الطبيعي"، لم أعُد أقوى على التنفّس.
كان عملي مألوفًا لي، وكان مصدر الاستقرار الوحيد الذي يلهيني عن شدائدي. كما كان مثمرًا، إذ كان يتيح لي أن أتعامل بجديةٍ مع نفسي وأهرب من جسدي الذي أصبح عدوّي
خلال جلسات العلاج النفسي، التي بدأتُها عام 2019، وجدتُ نفسي أبكي من دون سببٍ محدّدٍ طوال أشهر، لكنّني أصرّيتُ أنّي بخيرٍ لأنّه لم يكُن لديّ أي حجّةٍ لأكون عكس ذلك. غادرتُ لبنان، وكانت لديّ وظيفة، وكان حريًا بي أن أعيش حياةً متوقّعة المسار. لكنّ جسمي كان محمومًا، وغاضبًا ومتألّمًا.
لم يكُن يسعني إلّا أن أعمل، فتلك كانت طريقتي للتكيّف كلّما احتاج عقلي إلى إثباتٍ بأنه يسيطر على الأمور. كان عملي مألوفًا لي، وكان مصدر الاستقرار الوحيد الذي يلهيني عن شدائدي. كما كان مثمرًا، إذ كان يتيح لي أن أتعامل بجديةٍ مع نفسي وأهرب من جسدي الذي أصبح عدوّي. في ساعات فراغي، كنتُ أجلس على الأريكة في الشقق التي كنتُ أستأجرها بالتتالي لفتراتٍ وجيزةٍ في برلين، وكانت فكرة عدم قدرتي على تخطّي عِلَلي تحبطني حتى أصبح عاجزةً عن الحراك أو الأكل أو النوم.
وسرعان ما امتلأ الجوّ بذلك العار الذي عهدته، وتوقّف جسمي عن التجاوب. فأنا لم أتعلّم في خلال نشأتي كيف أنتقل من الشعور بالحقد إلى التعاطف عندما أتألّم.
ذات مرّة، تذكرّتُ حين كنتُ طفلةً وارتديتُ جواربَ على البحر، وغرزتُ قدمَيَّ في الرمال، ورحتُ أحدّق بالماء وأنا أرتعش من قلّة الثقة بسبب حالتي، وأشعر بالمرارة بسبب اكتراثي لنظرة الناس إلى تشوّهي.
***********
في 10 حزيران/يونيو 2021، عندما استطعتُ أخيرًا أن أحدّد موعدًا مع طبيبة قلبٍ في برلين، قالت لي، بلغةٍ إنجليزيةٍ منقولةٍ حرفيًا من مترجم جوجل (Google Translate)، إنّ نبضات قلبي الانقباضية ناجمةٌ عن اضطراب شديد، ولا تعبّر عن مرضٍ قلبيّ يهدّد الحياة. شعرتُ بالارتياح لدى سماع ذلك. لكن خاب أملي عندما اكتشفتُ أنّني، وعلى الرغم من غياب سببٍ يدفعني إلى الشعور بالذعر والقلق، لم أكُن أستطيع أن أعيش حياةً عمليّة. كنتُ أستيقظ وأنا أتصبّب عرقًا في الليالي، وألهث للتنفّس معظم الأيام. وزادت الطين بلّة مقاومتي لحالتي المكبِّلة، فشعرتُ بأنّني أختنق.
في بيروت كنتُ أشاهد مدينتنا تنهار، وأشعر بعقدةٍ في حلقي، تمامًا كالجميع. لكنّ تلك العقدة كانت مشتركة، وكانت الوتيرة المتزامنة لانقطاع أنفاسنا تترافق مع الحزن المدوي في الشوارع
صحيحٌ أنّني في بيروت كنتُ أشاهد مدينتنا تنهار، وأشعر بعقدةٍ في حلقي، تمامًا كالجميع. لكنّ تلك العقدة كانت مشتركة، وكانت الوتيرة المتزامنة لانقطاع أنفاسنا تترافق مع الحزن المدوي في الشوارع. أمّا هنا، فأجدُني أتعذّب عذابًا يبدو من دون سبب، وأعيشه لوحدي، مع غياب الأسى الجماعي. لكنّ الراحة "الرِواقية" الرزينة التي أغنَتني عن التفكير بتلك السكينة انقلبَت عنفًا – فتوقّفتُ عن تناول الطعام، واعتكفتُ في عزلةٍ قاتمة، ولم أقوَ على إسكات الأصوات في رأسي التي كانت تردّد لي أنّني لا أستحقّ السكينة.
***********
العيش في سبيل النجاة – هذا جلّ ما فعلتُه منذ أن أدركت واقعي عندما كنتُ طفلة. نجَوتُ من حادث، نجَوتُ من عنف والدي، ومن وفاة والدتي، ومن الحرمان الاقتصادي، ومن عنف الرجال، ومن عقلي وأفكاري. عندما قرّر جسمي التوقف عن الاستجابة، بعد أن كان لسنين طويلةٍ شهيدي الثابت العزم، جمعتُ كلّ ما كنتُ قد تعلّمتُه عن النجاة لحماية نفسي من انهياراته. مع ذلك، انهار جسمي، وفي كلّ مرّة، كان الانهيار أقوى.
كنساءٍ خصوصًا، علّمَتنا مجتمعاتُنا أنّ أجسادنا يجب أن تكون مرنةً، ومُرحّبةً ووسيلةً لغايات الآخرين. التوقف ليس خيارًا. الآن، وقد أصبحتُ في برلين وبات بإمكان جسمي أن يستريح، تجسّدَت الصدمة التي عشتُها: فها أنا في سنّ الثالثة من جديد، مذعورةً من الإنسانة التي أصبحتُها.
طوال التجارب الصادمة التي عشتُها، كان الذعر حيًا فقط في رأسي. كنتُ أقلق، وأكتب لوائح بالمهام التي عليّ إتمامها وأخطّط لخطوتي التالية. في برلين، اختبرتُ الأعراض الجسدية لقلقي للمرّة الأولى، فظهرَت كتيارٍ كهربائي يخضّ ويهلِك أعضائي، بعد مرور عقودٍ اعتقدتُ خلالها أنّني تخطّيتُ صدمتي. تراجعَت قدرة عقلي على الاهتمام بجسدي الذي بات وحدة تخزين ذكرياتٍ قائمةٍ بحدّ ذاتها. كلّما كان الهدوء يحلّ، كان مسلسل الصدمات يمتدّ ويعود ليطفوَ إلى السطح. وبدلًا من استعادة ذكرياتٍ متجزّئةٍ تأتي لتقطع حبل أفكاري، كان جسمي يرتجّ بألمٍ قديم. لفظ جسمي قدرتي على التفكير المنطقي بمشاعري - أنا التي كنتُ قد اعتمدتُ هذا السبيل لتقبّل هشاشتي. ووجدتُني من جديدٍ في سرير المستشفى، ثمّ في الرواق الضيّق لمنزل الطفولة، عالقةً بين غضب والدي وجثة أمّي.
كنساءٍ خصوصًا، علّمَتنا مجتمعاتُنا أنّ أجسادنا يجب أن تكون مرنةً، ومُرحّبةً ووسيلةً لغايات الآخرين. التوقف ليس خيارًا. الآن، وقد أصبحتُ في برلين وبات بإمكان جسمي أن يستريح، تجسّدَت الصدمة التي عشتُها
كي أمضي قدمًا، كان عليّ - بالإضافة إلى الحبّة الزرقاء التي أبتلعُها لتهدئة هوَسي والحبّة البيضاء التي آخذها لبلسَمة قلقي – أن أسمح للذعر بأن يأخذ مساره، وعندما ينضب، أن أتركه وشأنه. ما زلتُ لا أعرف كيف أتحكّم بالقلق عندما يعتريني، لكن ثمّة أشخاصٌ في حياتي يمكنني التحدّث إليهم، وأحيانًا، أدعهم يرون ندوبي. ما زلتُ أتخبّط في دوّامة العار وأعاقب نفسي بالامتناع عن الأكل. لكن لم أتنبّه للمشكلة إلّا عندما هربتُ من العنف اليومي في بيروت، واكتشفتُ أنّ التنقّل في أرجاء العالم يجب ألّا يكون بهذه الصعوبة.
عندما أنجح في مسامحة نفسي أكثر، عندها سأعرف أنّني أتحسّن. والآن، عندما ينظر إليّ العار عبر المرآة ويصدّعها، وحين يُفرغ جسمي كلّ مكنوناته القاتمة، أستطيع - في بعض الأيام فقط - أن أتوقّف عن محاولة إيصاد ذلك الباب ومواجهة نفسي. الآن، أحيانًا فقط، يمكنني أن أنظر إلى قدَمَيّ.
إضافة تعليق جديد