أتذكّر المرّة الأولى التي أدركتُ فيها أهمّية الكذب للنجاة. كنتُ في بداية دراستي في الكلّية عندما ذهبتُ مع أصدقائي خارج الحرم الجامعي. اتصلَت بي والدتي لتخبرني بوجوب عودتي إلى المنزل بسبب تأخّر الوقت، ثمّ باغتَتني بسؤال: "أسمع أصوات شبّان. هل معكم أولاد؟"، أجبتُ بعفوية: "نعم". لم أكمل جملتي إلّا وانهال عليّ سيلٌ من السباب والتهديد والوعيد بأنني سوف أنال أشدّ عقابٍ على فعلتي. أُصبتُ بعدها بحيرةٍ شديدة، فقد كان إخوتي يخرجون مع صديقاتهم طوال الوقت، ولم تكن أسرتي تمانع الأمر، ربّما لأنني أغفلتُ المعلومة الأهمّ وهي أنّهم، على عكسي، ذكور.
يومها خضعتُ لأقسى عقابٍ في حياتي، كما تعرّضتُ للتهديد بالضرب للمرّة الأولى بعد دخولي سنّ المراهقة. بعدها قضيتُ فترةً طويلةً ممنوعةً من الخروج وتحت المراقبة. حينها أدركتُ أمرًا ضروريًا هو أنّه عليّ أن أكذب لأعيش، لأنّ صراحتي وبراءتي عرّضتاني للمحاسبة، والحدّ من حرّيتي والتحكّم بخياراتي.
حاليًا، يكاد لا يخلو أيّ مشوارٍ مع صديقاتي من الكذب، حتّى بات سمةً روتينيّةً لأيّ تجمّعٍ بيننا أيًا كان نوع الأنشطة التي نقوم بها. يتلخّص ذلك، عادةً، بجملةٍ واحدةٍ كثيرًا ما يُستهل بها التخطيط للتجمّعات: "قلتي لي ناس بيتكم شنو؟". بمعنى، ما هي الحجّة التي قلتِها لأهلكِ كي تتمكّني من الخروج؟ وهنا أتحدّث عن فتياتٍ مستقلّاتٍ ماديًا، معظمهنّ تجاوز سنّ الخامسة والعشرين بالحدّ الأدنى، والبعض منهنّ بموقع المعيل الرئيس لأسرهنّ.
سنواتٌ من محاولات كسر القيود
هذا التجلّي ليس استنتاجًا فرديًا، لكنّه في حالتي أتى متأخّرًا. ففي السودان، نُدركُ كنساء، ومِن سنٍّ مُبكرة، ألّا سبيل لنا للمواجهة وقول الصدق من دون عواقب، ما يدفعنا إلى ابتكار أدوات مقاومة، توفّر لنا متنفّسًا للحركة، تختلف درجته من فتاةٍ إلى أخرى تبعًا للقيود التي تفرضها الأسرة في المقام الأوّل.
على الرغم من انطلاق الحراك النسائي في السودان منذ أربعينات القرن الماضي عبر المناداة بالحقّ في التصويت والعمل، إلّا أنّه لم يتطرّق إلى النطاق الخاصّ. كما أنّ هيمنة الإسلام السياسي على السلطة والثقافة العامة لنحو أربعة عقودٍ شكّل عائقًا إضافيًا، وقمَع النساء بصورةٍ مُمنهجةٍ من خلال القوانين المُقيّدة للحرّيات، بما فيها قانون النظام العام الذي فرض قيودًا وعقوباتٍ على لباسهنّ.
لم تنل الحياة الشخصيّة لمعظم السودانيّات حظّها من التغيير، وهو ما توثّقه شهادات نساءٍ تعرّضن للضرب والاحتجاز بسبب خروجهنّ إلى الشارع، أو لمجرّد محاولتهنّ المشاركة في الاحتجاجات
بات تناول النطاق الخاصّ من حيوات النساء ضرورةً حتميّةً في خلال السنوات التي سبقَت سقوط النظام في السودان. وتزامن ذلك مع تصاعد دور النساء السودانيّات في الثورة الأخيرة، وظهورهنّ في الصفوف الأماميّة لمقاومة النظام القمعي، وتصدّرهنّ عناوين وسائل الإعلام العربي والغربي. ويعود ذلك لأسبابٍ عدّة، منها نمو حالة تململٍ عامّةٍ من النظام السياسي، وتفاقم الضائقة الاقتصاديّة التي وضعَت الكثير من النساء في موقع المعيل الأساسي للأسرة، وحمّلتهنّ المسؤوليّة الماديّة لإعالة جميع أفرادها، حتّى الذكور منهم (الآباء والأخوة).
مع ذلك، لم تنل الحياة الشخصيّة لمعظم السودانيّات حظّها من التغيير، وهو ما توثّقه شهادات نساءٍ تعرّضن للضرب والاحتجاز بسبب خروجهنّ إلى الشارع، أو لمجرّد محاولتهنّ المشاركة في الاحتجاجات. ويضاف إلى هذا محاولات النسويّات الشابّات نقل النشاط النسوي إلى المجال الخاصّ عبر تسليط الضوء على العنف الأسري، والمطالبة بهامشٍ أوسع من الحرّيات الشخصيّة، مع ما يترتّب عن ذلك من محاربةٍ وشيطنةٍ لهنّ حتّى في أوساط الثوّار أنفسهم. من هنا، برزَت أساليب عدّة تستخدمها النساء في السودان للنجاة من القيود المفروضة عليهنّ من قبَل أسرهنّ ومجتمعهنّ المصغّر.
كتم الصدمات
تقول صديقتي سونيا (اسم مستعار - 35 عامًا) إنّها كثيرًا ما تخفي أمورًا عن أهلها، حتّى إن لم ترتكب أي خطأ، خوفًا من عواقب قد تؤثّر في قدرتها على العمل بحرّيةٍ وتفرض عليها مزيدًا من الرقابة. ودلّلَت على ذلك بسرد تجربةٍ مرّت بها منذ فترةٍ غير بعيدة، عندما كانت تعمل على مشروعٍ ما مع أحد معارف أسرتها، وهو أبٌ لديه بناتٌ في مثل سنّها، لم يردعه ذلك عن التحرّش بها ومحاولة الاعتداء عليها.
تعيش بعض الفتيات والنساء حياةً مزدوجةً ليس خوفًا من خسارة امتيازاتهنّ فحسب، بل من خسارة حقوقهنّ المشروعة أيضًا
ففي إحدى المرّات، قصدَت مكتبه بغرض تسليم بعض المستندات، فبدأ في التحدّث بطريقةٍ إيحائيّة، وعندما حاولَت الخروج من المكتب، أغلق الباب وجرّها ناحيته. وعندما نجحَت في الإفلات منه، بعث إليها برسالةٍ يهدّد فيها بتشويه صورتها و"فضحها" لدى عائلتها. تقول سونيا إنّها على الرغم من قسوة التجربة، لم تشارك أسرتها تفاصيل ما حدث خوفًا من العواقب التي يمكن أنّ تطالها بحجّة حمايتها. وتشرح: "خفتُ أن يقولوا أنّ الشخص الثقة بدَرَ منه هذا التصرّف، فما بالك من الغرباء؟ وذلك سيجعلهم يبادرون إلى تقييد حركتي بحجّة الخوف".
حيواتٌ مزدوجة
تختلف الأساليب المُستخدمة لنيل الحرّيات بحسب الموقف. تعيش بعض الفتيات والنساء حياةً مزدوجةً ليس خوفًا من خسارة امتيازاتهنّ فحسب، بل من خسارة حقوقهنّ المشروعة أيضًا، مثل الحقّ في التعليم والعمل والتنقّل. أخبرَتني نور (اسم مستعار - 20 عامًا) أنّها توسّلَت النفاق مع أسرتها لوقتٍ طويلٍ كي تستطيع السفر للدراسة في الخارج، وذلك عبر ادّعاء إيمانها بقيمٍ بعيدةٍ عن معتقداتها الحقيقية، والمبالغة في إظهار الخضوع، إلى جانب ارتداء ملابس معيّنةٍ للخروج من المنزل ثم تبديلها لاحقًا. تقول نور: "أشعر بأنّني مجبورةٌ على النفاق حتّى أصل إلى ما أريد، وهي أشياء بسيطةٌ مرفوضةٌ من أسرتي على الرغم من أنّها مقبولةٌ مجتمعيًا، مثل الخروج مع صديقاتي لتناول الآيسكريم (البوظة)". وتضيف: "لا يمكن لأحدٍ أنّ يكون مثاليًا، ولكن يُطلبُ منّا أن نكون مثاليّات بلا أخطاء، فأصغر خطأ قد تنتج عنه عواقب تفوق طاقتنا في بعض الأحيان. أحسّ أنّني أعيش في عزلةٍ عن العالم، فالمجتمع يتطوّر وينفتح، وأنا أنافق حتّى لا أخسر أهلي وحماستي للحياة، ولمجرّد أنّي أريد أن أتطوّر مثل المجتمع من حولي".
التماهي كصكّ براءة
على الجانب الآخر، يُستخدم النفاق أحيانًا وسيلةً لنفي الشبهات وإن على حساب نساءٍ أخريات. على سبيل المثال، انتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، في نيسان/أبريل 2022، لسيّدةٍ مصريّةٍ تعتدي بالشتم والضرب على فتاتَين في مترو في القاهرة اعتراضًا على ملابسهما. انتشر الفيديو بسرعةٍ ولاقى اعتراضًا واسعًا أدّى لاحقًا إلى اعتقال السيّدة، وتبيّن أنّها صاحبة سوابق ولديها ملفٌّ لدى شرطة الآداب.
لوقي الخبر بالتشفّي، ونشره عددٌ كبيرٌ من الصفحات النسويّة. استُقبِل الخبر بمعزلٍ عن الدوافع التي تجعل النساء يتطرّفن في إظهار العفّة والتديّن بغية نيل القبول ودفن أيّ شكوكٍ قد تحوم حول ماضيهنّ أو حياتهنّ الشخصيّة. نُشِر ملفّ السيّدة كوسيلةٍ لمهاجمتها، عبر استعمال الأدوات الذكوريّة المُتعلّقة بالسمعة والشرف كأداةٍ لابتزاز النساء.
التحايل
من الوسائل التي تستخدمها النساء أيضًا التحايل للعثور على بعض الخصوصيّة والعيش وفقًا لقناعاتهنّ الخاصّة من دون الحاجة إلى التبربر والشرح المستمرّ. ثمّة صراعٌ مستمرّ داخل الأسر يتعلّق بالتعامل مع نموذج النساء العاملات المُستقلّات اللواتي تجاوزن الثلاثين ولا يرغبن في الزواج، لكن تمنعهنّ التقاليد من تحقيق الاستقلال الكامل. "أدركتُ في وقتٍ متأخّرٍ أنّه لا يجب عليّ مشاركة أهلي كلّ ما يخصّ حياتي"، هكذا استهلّت إيلاف (اسم مستعار - 34 عامًا) حديثها معي. وتابعَت: "أيقنتُ أنّ هناك عواقب سوف تترتّب على مشاركة التفاصيل. على سبيل المثال، هناك صديقتان لي اضطرّتهما ظروفٌ معيّنةٌ للعيش بعيدًا من أسرتهما. لم أخبر أهلي بالأمر لمعرفتي أنّهم لن يوافقوا على أسلوب حياتهما. ووصل بي الأمر إلى ترك سائق أسرتي يقلّني إلى بيت أسرة صديقتيّ الذي يعرفه أهلي، والانتظار في ممرّ العمارة حتّى يغادر، ومن ثمّ طلب سيّارة أجرة لإيصالي إلى منزل صديقتيّ الجديد".
ثمّة صراعٌ مستمرّ داخل الأسر يتعلّق بالتعامل مع نموذج النساء العاملات المُستقلّات اللواتي تجاوزن الثلاثين ولا يرغبن في الزواج، لكن تمنعهنّ التقاليد من تحقيق الاستقلال الكامل
تواصل إيلاف: "أشارك التفاصيل بالقدر الذي يُبعد عني الشكوك، كأن أسمح لوالدي أو خالي بأخذي إلى الكوافير أو أحد الأماكن المعروفة لهم قبل ذهابي إلى وجهتي الحقيقيّة من هناك، على الرغم من إدراكي بأنّني لا أرتكب أمرًا خارج حدود المقبول". تشارك إيلاف بشكلٍ مستمرّ الاحتكاكات التي تتعرّض لها مع سائقي الأجرة عبر الفايسبوك، ما اضطرها إلى تقديم شكاوى ضدّهم في مرّاتٍ عدّة. ومع ذلك، تفضّل استخدام سيارات الأجرة عوضًا عن سائق الأسرة الخاص رغم ما يصاحب ذلك من خطورةٍ على سلامتها لمجرّد الحفاظ على خصوصيّتها.
الوجود الرقمي
تحكي رنين (اسم مستعار - 22 عامًا) أنّها ذهبت للمرّة الأولى إلى حفلٍ موسيقيّ منذ بضعة أشهر، برفقة إحدى أخواتها، التي أخبرَت والدَيهما بأنّها مريضةٌ وتحتاج إلى مقابلة الطبيب، حتى تتمكّنا من الخروج. وتضيف: "أتعرّض لعنفٍ نفسي وجسدي بسبب مسألة الخروج من المنزل، ولا أستطيع الخروج إلّا للذهاب إلى الجامعة فقط، وهو الوقت الوحيد المُتاح لي للقيام بأيّ شيءٍ خارج المنزل. وعلى الرغم من ذلك، يستمرّ والدي بتهديدي بمنعي من الدراسة عندما يغضب مني. أحاول الآن تنفيذ أوامره للمحافظة على ما تبقى من سلامي النفسي". تقول رنين إنّها تقاوم هذه القيود من خلال وجودها على مواقع التواصل، ولاسيّما فايسبوك، حيث تستطيع التعبير عن آرائها مهما كانت خارجةً عن المألوف، ونشر صورها، وتكوين صداقاتٍ جديدة من الجنسَين. ولكن الأهمّ أنّها تمارس من خلاله نشاطها النسوي للتعبير عن رفضها للذكوريّة والعنف الممارس ضدّ النساء.
في أيّ مجتمعٍ تختلّ فيه علاقات القوى، يجد المستضعفون طرقًا تساعدهم على النجاة حتّى وإنّ لم تكن مقبولةً وفق المفهوم الأخلاقيّ المبسّط. لن تتوقّف النساء عن اختراع سبلٍ للمراوغة والنجاة من الذكوريّة، طالما لا تتوفر لهنّ مساحاتٌ آمنةٌ لممارسة حياتهنّ بصورةٍ طبيعيّة، والحصول على أبسط الحرّيات. ولن تتوقّف النساء عن النفاق طالما يُجبَرن على عيش حيواتٍ مزدوجةٍ في ظل طغيان الشعور بالمكافأة نتيجة ادّعاء الفضيلة، وما لم تتوفّر إمكانيّةُ لخلق تضامنٍ نسوي بلا وصمة.
إضافة تعليق جديد