من مكانٍ ما، صَدَحَ صوت محمد منير:
"في بلدي البنات
كلّ البنات، ماشية وظابطة، في إيدها الساعات
وقبل ما تقفل بِيْبان البيوت
وقبل ما ينزل ظلام الحارات
في بلدي البنات، بتجري تروَّح
في بلدي البنات
بِتحلم تضوي زيّْ النجوم
بِتحلم ترفرف زيّْ الرايات
بتقدر تعاند، وتقدر تثور
لكن ساعات…".
فجأة، تختفي الكلمات من عقلي وأتوه في حيرتي. الغريب أنّ تلك الأغنية كتبَتها كوثر مصطفى في عام 2003، أي منذ عشرين عامًا. مع ذلك، لا تزال "كلّ البنات" - وأنا إحداهنّ - "بتجري تروَّح" مع إحساسٍ بعدم الأمان في "بلدها/ي". ولكنّي لم أفهم ماذا كانت كوثر تقصد بـ "الساعات"؟
قبل أن تُتاح لي فرصة التعمّق بالتفكير، أشارَت لي السكرتيرة بأن أدخل. لقد حان موعد جلستي النفسية المُعتادة. صحوتُ من شرودي، وفتحتُ ذلك الباب لأبوح بما أخفيه في داخلي.
تواجهني طبيبتي النفسية بسؤالها: "ها قوليلي، بتحسِّي بإيه وقتها؟"
فأجيبها سريعًا: "مش قادرة أعمل حاجة، طاقتي صفر، الموضوع ده بيتكرَّر من سنتين - أو ده اللي لاحظته لما بدأت أراقب حياتي – في شهر 6 و7 و8، بنفصل عن العالم، بحسّ بخنقة جوايا".
تردّ عليّ: "دي شهور الصيف، فاكرة حاجة حصلِت في الصيف؟ أي موقف ولو بسيط؟"
أصمت قليلًا ثم أقول: "لا، مش فاكرة".
لكني أذكر جيّدًا…
************
الصيف بحرارته المرتفعة التي لا تقتل الحشرات
وقتها كنتُ مراهقةً في سنّ الخامسة عشر. وقفتُ خارج المدرسة أنتظر - لا أذكر ما الذي كنتُ أنتظره تحديدًا - كلّ ما هناك أنّني كنت أواجه طقسًا حارًّا، فأمسح عن جبيني قطرات العرق، وأضع يدي فوق عينيّ هربًا من أشعة الشمس. عندها اكتشفتُ أنّني نسيتُ كلّ ما تعلّمتُه في كتب المدرسة، ومنها أنّ فصل الصيف يجلبُ معه حشراتٍ كثيرة. ربّما لذلك لم أنتبه له؟
أخذ يقترب مني رويدًا رويدًا، لكنّي لم أنتبه له، ولم أعِره اهتمامًا، فانتهز الفرصة ومدّ يده إلى جسدي ثمّ فرَّ هاربًا.
علا صوتي بصرخةٍ لم يلاحظها أحد، شعرتُ بأنّني لا أقوى على الحركة، ولا يمكنني اللّحاق به، حتى اختفى تمامًا عن ناظري. التفتُّ حولي بحثًا عن مخرجٍ، فلم أجد إلّا باب المدرسة المفتوح، دفعتُ بساقيّ وعدتُ إلى الداخل واختبأت!
لا تزال "كلّ البنات" - وأنا إحداهنّ - "بتجري تروَّح" مع إحساسٍ بعدم الأمان في "بلدها/ي"
طوال اليوم انتابني صهدٌ، وشعرتُ بألمٍ في جسدي مكان موضع يده، ثمّ فقدتُ قدرتي على تحمّل ذلك الضغط. كدتُ أقطع شرايين يدي لكني تراجعت.
قالت لي نفسي كاذبة "لن يعرف أحد، هذا سرّنا، وبإمكانكِ نسيانه".
ومن يومها، كتمتُ ذلك الجرح في داخلي ظنًّا مني بأنّني انتصرت.
************
مجتمعٌ قاسي كبرد الشتاء
مرّت السنون سريعًا وحلّ فصل الشتاء. بلغتُ أواخر العشرينات.
أقف في ميدان رمسيس أواجه طقسًا شديدَ البرودة. تصفعني الرياح في وجهي، فأُحكِمُ لفّ الكوفية حول رقبتي جيّدًا، ثمّ أبتاع زجاجة مياهٍ من أحد الأكشاك. أمّا هو، فكان يقف إلى جانبي. دفعني بذراعي، فابتعدتُ عنه، ثمّ شعرتُ بأنّ دفعته لم تكن "عادية". أكان يتحرّش بي؟ استدرتُ، فإذ بظنوني تتأكّد. فبعدما ابتعد عن الكشك، وقف ووجهه تعلوه ابتسامةُ نصر، كأنّه يقول لي: "علّمت عليكِ!".
فجأة، تبدَّل الطقس، شعرتُ بحرارةٍ في أنحاء جسدي وأخذ الدمّ يغلي في عروقي. ها هو الموقف يتكرّر ثانية، ولَم أقوَ على الثبات. اقتربتُ منه ودفعتُه بكلّ قوتي على ظهره، فأدرك الأمر وفرَّ هاربًا. انطلقَت ساقاي تهرولان خلفه من غير أن أعبأ بسرعة السيّارات أو الناس أو العالم بأسره.
ماذا أكون؟ إن قالوا لي "خلاص عدّيها!"، فماذا أكون بالضبط؟ ولماذا يمكنهم رؤية الأشياء الجامدة مثل هاتفي وحقيبتي، ولا يمكنهم رؤيتي؟
حقًا، لحظتها، ما عدتُ أرى غيره. أردتُ اللحاق به فحسب. أو ربّما نفسي ذات الخمسة عشر ربيعًا أرادت ذلك، ونجحَت! أمسكتُ به وضربتُه مرّاتٍ عدّة، لكنّه ادّعى الخَرَس.
تجمّع حوله بعض المارّة مردِّدين كلامهم المُكرَّر: "سرق منك حاجة؟ تليفونك؟ شنطتك؟". أجبتهم: "لأ، ده اتحرّش بيّا".
فأتتني الإجابات كصفعات: "ما يمكن ما يقصدش!". ثمّ تقدّم أحدهم وحال بيني وببنه ليحميَه مني، وأخذ يدافع عنه بغضبٍ زائدٍ كأنّه يأخذ بثأره، وبدا متيقنًا من براءته وظلمي له. وقالها: "ما خلاص يا ستّ، الراجل أخرس، وبيشاور لك أهوه إنه ما يقصدش، سيبيه في حاله بقى". رددتُ عليه بغضب: "أخرس إيه؟ ده وسخ وبيكذب! وما فيش متحرّش ما يقصدش". فكان الجواب الذي توقّف به الزمن عندي: "خلاص عدّيها".
شعرتُ بالشمس عموديةً فوق رأسي تحرقني. رأيتُ خطًّا فاصلًا بيني وبينهم. هم في فصلٍ وأنا في فصلٍ آخر! تتساقط قطرات العرق عن جبيني، وينتابني ضغطٌ ثقيلٌ، وتتلاحق أنفاسي الساخنة. عاد لي الألم الجسدي من الماضي، حينها تذكّرتُ حشرات الصيف، فأدركتُ أنّ هذا أيضًا مجرّد بعوضة.
بعوضةٌ لم أشعر بها في البداية، وظلّت تمتصّ دمائي طوال هذه السنوات، حتّى شعرتُ بقرصتها في اللحظة الأخيرة بعد أن ترَكَت علامةً غليظةً على جسدي. لكن في تلك اللحظة، كانوا جميعًا يطنّون كبعوضةٍ ضخمة، ويشاركونه مصّ دمي.
انتهى المشهد، وانتهى معه الفصلان.
خرجتُ من ميدان رمسيس وأنا أسأل نفسي ماذا أكون؟ إن قالوا لي "خلاص عدّيها!"، فماذا أكون بالضبط؟ ولماذا يمكنهم رؤية الأشياء الجامدة مثل هاتفي وحقيبتي، ولا يمكنهم رؤيتي؟
ببساطة، لأن حقيبتي وهاتفي ملكيّةٌ خاصّة، وبالنسبة إليهم قيمتهما أغلى من قيمتي. أمّا أنا وجسدي فمشاعٌ، ملكيّةٌ عامّةٌ مثل الحائط. إذا ما مرّ أحدهم واستند إليه، ثمّ فعلها غيره، وغيرهما، وغيرهم، هل سيسأل أحدٌ ما عن حقوق الحائط؟ هل سيُعيره أحدٌ أيّ اهتمام؟ بالطبع لا، إنّه مجرّد حائطٍ مشاع للجميع.
"لكن لا، ملعون أبوهم. أنا بني آدم!" قلتُها وجسدي يرتعش من البرد، فشعرتُ بأنّني أقبع في طقسٍ مجنونٍ كما هذا المجتمع.
************
البعض يهوى السقوط مثل أوراق الخريف
عدتُ من شرودي لتواجهني طبيبتي بسؤالٍ جديد: "يعني المشكلة في فصل الصيف بس؟"
أجبتُها: "طبعًا لأ".
كان بعضُ النساء يقفن في صفّه، وهنّ يشبهن الكثير من النساء اللواتي قابلتهنّ في حياتي. التفننَ حولي مثل دائرةٍ لا تنفرج، طقسهنّ يشبه فصل الخريف، متقلّب المزاج مثل أفكارهن.
تبدأ الدائرة بأمّي. تقول لي: "ما تقعديش في الشوارع لوقت متأخّر! عشان ما حدّش يمد إيده عليكِ أو يسرقك. هتعملي إيه ساعتها؟"
أجيبها: "هدافع عن نفسي!"
فتردّ: "إزاي؟ ده يمكن يعوَّرك أو يخطفك، ما تقدريش تعمليله حاجة!"
أجادلها قائلة: "وكلّ الرِّجالة اللي بتتأخّر في الشوارع، بتعمل ايه؟"
فتأتيني إجابتها التالية: "أديكِ قولتِ، رجّالة".
لا تعني كلمات أمّي سوى أنّني مُستباحة، وأنّ عودتي في وقتٍ متأخّرٍ خطأ يستوجب العقاب. وتؤكّد طبعًا على عدم قدرتي على الدفاع عن نفسي أمام الرجل، ولذا يجب أن أسرع الخطى وأختفي من أمامه حتّى أتّقي شرّه. هذا هو المطلوب والمتوقّع مني!
التفتُّ إليهنّ فرأيتُ وجوههنّ تختبئ خلف الدخان. أدركتُ لحظتها لِما كنتُ أشمّ رائحة الخريف. يُشعِرنني بأنّني لا أستطيع فعل شيء، كأنني في خريف العمر
تدخل خالتي الدائرة نفسها في تعليقها على سفري قائلة: "سفر إيه اللي بتفكري فيه. إبقي سافري مع جوزك".
فأردّ عليها: "ما إنتِ ابنك بيسافر لوحده يا خالتو!"
تصرّ على كلامها: "أنا إبني راجل بيعرف يتصرّف، إنّما إنتِ بنت ما تعرفيش تعملي حاجة لوحدك".
مرّة جديدة، تؤكّدان لي عدم قدرتي على إيجاد حلولٍ لمشاكلي وحدي، بعكس الرجل. ثمّ تنضمّ عمّتي إليهما، وتضيق الدائرة أكثر. تقول لي: "هتفضلي قعدالنا كده؟ سنّك بيكبر".
جوابي جاهزٌ: "وهيحصل إيه لما سنّي يكبر!"
تردّ: "هيفوت وقتك يا خايبة، إحنا كده الستات، لما وقتنا يعدّي ما حدّش يقرّب مننا".
هذا يعني أنّني خُلقت لأوضع في قالبٍ مُعيّن: الزواج. وإن لم أحقّق هذا الهدف، وبسرعة، سوف تنتهي صلاحيّتي، تمامًا مثل معلّبات السوبر ماركت.
أخيرًا تكتمل الدائرة. كنّا في منزل صديقتي في حفلةٍ للسيّدات فقط، وكنّ يدخنّ السجائر والشيشة. قرّرتُ أن أجرّب السيجارة للمرّة الأولى. فتحتُ النافذة لأنفث الدخان خارجًا، فجذبَتني والدة صديقتي بسرعةٍ وقالت: "أدخلي جوّه، إحنا في حارة شعبيّة الجيران تشوفك".
أردّ عليها: "يشوفوني. في إيه!؟ كلّهم بيدخنوا. هي السجاير حاجة جديدة؟"
تجيب بما هو متوقّع: "همّا رجّالة، يدخنوا عادي".
فأقول لها: "طب ما إنتِ بتدخني يا طنط".
تردّ: "أنا بدخّن جوّه مش برّه. التدخين برّه فيها بجاحة! السيجارة بين شفايف البنت كده توصّل رسالة مش حلوة".
التفتُّ إليهنّ فرأيتُ وجوههنّ تختبئ خلف الدخان. أدركتُ لحظتها لِما كنتُ أشمّ رائحة الخريف. يُشعِرنني بأنّني لا أستطيع فعل شيء، كأنني في خريف العمر؛ ورقة شجرٍ سقطَت عن غصنها، ولم تعُد تملك الآن غير أن تذبل وتموت.
************
ألوان الربيع الباهتة
أرفع وجهي وأقاطع طبيبتي سريعًا: "ما تسألينيش عن الربيع!"
فتقول: "ليه؟ ده فصل كلّه حرية".
أجيب بتهكّم وإحباط: "حرية
في الربيع، طلب مني حبيبي أن أضع ألوانًا مختلفةً من المكياج حتّى أبدو مثل الفنانات. وأيضًا في الربيع، قال لي مخرجٌ عملتُ معه مساعدة، بعد أن نظر إليّ وحدّق في صدري: "إنتِ لو تشيلي الشال ده هتبقي كويسة. خلّيكِ حرّة".
تكمن حرّية المرأة في خلع ملابسها والتشبّه بالفنّانات. أمّا حريتها في الفكر والمشاعر وبصمتها الخاصّة، فلا قيمة لها. تلك حريةٌ زائفة، تمامًا كهجرة الطيور في الربيع
إذًا، تكمن حرّية المرأة في خلع ملابسها والتشبّه بالفنّانات. أمّا حريتها في الفكر والمشاعر وبصمتها الخاصّة، فلا قيمة لها.
تلك حريةٌ زائفة، تمامًا كهجرة الطيور في الربيع، تفعلين مثلها وتهاجرين من أرضك. تفردين جناحَيك وترتفعين، تجذبك الخدعة وتحلّقين معها أكثر فأكثر. لكن حينما تبلغين أرضًا جديدة، تنكشف حقيقة سفرك. لم تنالي سوى إرهاق الطريق. هاجَرتِ من نفسكِ لتحلّي في أرضٍ جرداء!
************
انتهَت الجلسة وحصلتُ أخيرًا على إجابةٍ عن سؤالي.
ماذا قصدَت كاتبة الأغنية بتعبير "الساعات"؟ لم يُقصَد بها الوقت المتأخّر فقط، بل أنني وكلّ البنات نُضبط على قواعد محدّدة. إذا انحرفنا عنها نصبح شاذّاتٍ نستأهل العقاب، وغير صالحاتٍ لأن نكون نساءً "جيّدات".
يعود صوت محمد منير صادحًا من جديد:
"لكن ساعات، دقّ الساعات
بيجرح حاجات، ويخنق حاجات
في بلد البنات".
إضافة تعليق جديد