أخاف من جيبي المثقوب على قلبي

البُعد المفروض واللّقاء الممنوع: ضريبة الاختلاف

مَن يرتدي وجهَين سرعان ما ينسى أيّهما وجهه الحقيقي، لذلك رفضتُ الأقنعة خوفًا من أن تمحيني. وكيف أكتب بسلاسةٍ عن أمورٍ بغاية الصعوبة؟ فهذه مثلًا محاولتي الثالثة لإنهاء هذا المقال.

سوف أبدأ بالحديث عن الحبّ، الذي لم تعُد الكتابة عنه مُستساغة. فمَن يهتمّ؟ ومَن يريد معرفة ما في قلبك؟ الناس تركض وراء الرغيف، والمنظّمات تهتمّ بالدراسات.

عندما طلبَت مني دائرة الهجرة في السويد إثباتًا على صدق علاقتنا، أرسلتُ لها صورةً لوجهكِ الذي رسمتُه وأنتِ نائمةً خلف شاشة اللابتوب على بعد قارّتَين مني.

أردتُ أن أخبرهم كيف توقّفتُ عن التنفّس وأنا أخطّ جفون عينيكِ المغمضَتَين كي لا تستيقظي! كيف مسحتُ بقلم الرصاص فوق كفّكِ الأيمن وهو يسند رأسك، فأضاءت في قلبي ألفُ نجمة. وضعتُ إحداها في قلب أمي، فاطمأنّت أنني لا زلتُ ولدها. وثانية علّقتُها فوق سريري فابتعد الخوفُ عن وسادتي. الثالثة أذبتُها مع ألواني، فوجدتُ الأحمر! والرابعة زرعتُها في اسمي فصار على الهوية. والخامسة، والسادسة، والبقيّة نثرتها كلّها في السماء فصارَت ثقوبًا توحي بالدفء لكلّ من يقرأ شِعري في العتمة.

أنا رجلٌ عابرٌ جندريًا، عَبَرَ قلبي حدود عشر دولٍ في العالم الافتراضي ليقع في حبّ فتاةٍ لا تسمح لها هويّتها بالحصول على فيزا لزيارتي

كتبتُ هذا النص بعد أن رفضَت دائرة الهجرة الطلب الذي تقدمتُ به للمّ الشمل مع شريكتي. وكان للرفض سببان؛ الأوّل مادي يتعلّق بعدم امتلاكي عقد عملٍ دائمٍ في بلادٍ معظم عقود العمل فيها مؤقّتة، والثاني عدم اقتناعهم بصدق العلاقة.

أنا رجلٌ عابرٌ جندريًا، عَبَرَ قلبي حدود عشر دولٍ في العالم الافتراضي ليقع في حبّ فتاةٍ لا تسمح لها هويّتها بالحصول على فيزا لزيارتي. ولم تسمح أوراقي الثبوتية المُتباينة مع شكلي آنذاك من الالتقاء بها حيث تقيم. للاختلاف ضريبةٌ لا بدّ من تسديدها.

استغلال مُضاعفٌ بعيدًا من الأنظار

العبور قد يتخذ شكلَ الانتقال من أقصى إلى أقصى، ولا أقصد الروح هنا بل الجسد وما يشغله من دورٍ اجتماعي ومن حيّز في الأسرة، والطريق، والعمل، والمرآة أيضًا. أنت تقاتل على كلّ الجبهات فيما تحمل هويّتك بين يديك كزهر لوزٍ بهيٍّ سهل العطب. وهذا ما يجب أخذه على محمل الجدّ.

يُعدُّ توفير العمل في بيئةٍ آمنةٍ شرطًا يصعب تحقيقه لمَن هم في مرحلة العبور، فتغيّر المظهر الخارجيّ يحدث تدرّجيًا. قد يبدأ الرجل العابر بتناول جُرعات التستوستيرون قبل أن يُجري عملية إزالة الثدي مثلًا، وقد تتغيّر ملامح جسد المرأة العابرة فيما صوتها لا يزال عميقًا. هذه السّمات في أماكن مثل بلادنا العربية وغيرها، ترفض الحرّيات الفردية والهويات المختلفة عمّا هو معياري وتقليدي، تشكّل خطرًا شديدًا على حياة وسلامة صاحبها أو صاحبتها. لذلك يلجأ معظم العابرين والعابرات إلى العمل الحرّ على قلّته.

تسنُّ السلطةُ القوانين التي تعيق حياة كلّ من يخرج عن الدور الجندريّ النمطيّ المُتعارف عليه لكلٍّ من الرجل والمرأة

صديقتي ريم (اسم مستعار) في دمشق، هي امرأةٌ عابرةٌ وطالبةٌ جامعية، دفعَتها الحاجة المادية بسبب عدم توفّر فرص عملٍ آمنٍ لها إلى ترجمة حلقاتٍ من مسلسلٍ تلفزيونيّ، لكنّ هذه الترجمة نُشرَت باسم مترجمٍ آخر علِمَ بحالها واستغلّ ظرفها وحاجتها. تتقاضى ريم ما يعادل 10 في المئة فقط من الأجر الذي يتقاضاه هو. لكنّها مُلزمةٌ نوعًا ما على القبول بالأمر، لاسيّما أنها تعيش متخفّيةً خوفًا من جرّها إلى الخدمة العسكرية. بالنسبة إلى بعض العابرين، حتّى عبور الطريق لبلوغ البيت سالمين هو معركةٌ يوميةٌ وسببٌ لقلقٍ دائم.

قد يتساءل البعض ما شأن هذا كلّه والحبّ؟ له الشأن كلّه، فمَن ينبض قلبه بسرعةٍ بفعل الأدرينالين الناتج عن الخوف، لن يتسع لنبض الحبّ. الخوف أقوى من الشغف.

جلد الذات بدلًا من مقارعة النظام

العوَز المادي يضع الشخصَ العابرَ في حالةٍ من القلق المستمرّ، ويدفعه لإلقاء اللوم على نفسه ظنًّا منه أنّه السبب في عدم حصوله على عمل. وقد يقع ضحيّة جلد الذات أو نوبات الخوف والاكتئاب. لكن في الواقع، يقع اللّوم برمّته على المنظومة الاجتماعية التي تقصي العابرين/ات عن النسيج المجتمعيّ، وتتعامل معهم/ن على أنهم/ن دخلاء أو مصدر خطرٍ يُهدِّد تقاليد المكان.

فمِن الحماقة بمكانٍ إلقاء اللوم على الأفراد والناس من دون تحليل المُسبِّبات الأساسية للعقليّة الجَمعية السائدة في معظم المجتمعات العربيّة. يتحمّل النظام السياسي-الاجتماعي المسؤولية وينتج هذه المُسبِّبات؛ ذاك النظام الذي تقوده سلطةٌ حاكمةٌ منبثقةٌ بشكلٍ أو بآخر عن هذه المجتمعات، وتحميه مؤسّسات الدولة. تسنُّ السلطةُ القوانين التي تعيق حياة كلّ من يخرج عن الدور الجندريّ النمطيّ المُتعارف عليه لكلٍّ من الرجل والمرأة. ومشكلة التمكين المادي وآثارها التي يعاني منها العابر/ة تجعله/ا عرضةً للاستغلال الجسديّ والنفسيّ في مكانٍ حيث لا حقوق له/ا ولا قانون يحميه/ا.

يقع اللّوم برمّته على المنظومة الاجتماعية التي تقصي العابرين/ات عن النسيج المجتمعيّ، وتتعامل معهم/ن على أنهم/ن دخلاء أو مصدر خطرٍ يُهدِّد تقاليد المكان

من تجربتي في رحلة عبوري والصعوبات التي اجتزتُها في سبيل الحصول على العمل، ومن محاولاتي الكثيرة تأمين الحدّ الأدنى من الأمان الاقتصادي، أعرف أنني لستُ السبب في معاناتي، بل هو النظام بشكلٍ أو آخر. هذا النظام الجائر الذي لا يُنتج قوانين وظروف عملٍ تمكِّن العابرين ماديًا، حتّى في الدول التي تعترف بوجودهم، لا سيّما العابرين والعابرات أولاد التقاطعات، الواقفين على ساقٍ واحدةٍ بين أسلاك الهويّات الجندرية والسياسية. 

أنا هنا أكتب لكلِّ عابرٍ وعابرة. هل نستطيع الحبّ بجيوبٍ مثقوبة؟ هل يكفي دفء كفّي لصدّ بساطير العسكر، وسبحات الشيوخ، وجشع الرأسمالية عن قلبَينا؟ أحاول وتحاولون.

القلب مهمّ بأهمّية الرغيف. لا أريد أن أُشبِع معدتي فيما قلبي جائع.

**********

هل سأغيِّر شيئًا من هذا الركام؟ الجثث تملأ المكان، والكتب، والأغنيات، وواجهات الأسواق، والحدائق، والبضائع، والجامعات، والجيوب، والرؤوس، والوسائد. لا سعة للحياة.

يأكل قلبي القادمون إلى سريركِ ليلًا، أيّتها الحرية!

إني أراكِ، لكن بيننا كلّ أسمائي وكلّ أحبّتي.

اطرقوا بقوّةٍ على جدران قلبي،

لعلّ طين الخوف يسقط، فأبصرُ لونه الأصلي.

مَن أنا من دون وحل الهوية؟

مَن أنتم من دون كلّ الديون؟

ومَن أصبحنا بعد هذه المسافة؟

في مرايانا غرفٌ كثيرةٌ بلا أبواب!

لكنّنا لا نخرج...




ـــــ ملاحظة

ننشر هذه المادة في إطار زاوية "عبورٌ في المدينة" المُخصّصةٌ للكاتبات والكتّاب والفنّانين/ات والناشطين/ات العابرين والعابرات (الترانس) من المنطقة الناطقة باللغة العربية، من مختلف البلدان، والخلفيّات، والتخصّصات، والهويّات، من مقيمين/ات ومهاجرين/ات. هي مساحةٌ دوريةٌ مفتوحةٌ للأفراد العابرين/ات للبوح والتعبير عمّا يعنيهنّ/م، لاسيّما المواد الآتية:

  • حكايات الحياة اليومية التي تُبرِز التجارب والمشاعر والتأمّلات الإنسانية الحميمة.
  • المساهَمات المُسيّسة والمُشتبِكة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا مع وقائع العابرات والعابرين في مختلف سياقات المنطقة وبلدان المهجر والشتات.
  • التأمّلات الفنّية والفكرية والفلسفيّة في آداب ونظريّات التجسّد والعبور الجندري والهويّاتي، والمعاني الكامنة في تجاربه.

للمساهمة في الزاوية، يمكن إرسال المقترحات إلى البريد الإلكتروني: contact@jeem.me

سياسة المساهمة في جيم متوفّرة على موقعنا.