متى تعرّفتِ إلى بظركِ؟

عمري أكثر من عقدَين. أما جسدي، فيبلغ من العمر أربع أو خمس سنينٍ على الأكثر، ولكلٍّ منَّا عيد ميلادٍ خاصٍّ به.

يومُ عيد جسدي هو يوم قرَّرتُ تأمُّله أمام مرآةٍ في غرفةٍ مُغلقة، وتفحّص أجزائه، وتسمية أدقّ زواياها بأسمائها.

من خلال ذلك التمرين التأمّلي أمام المرآة، كنت أسعى إلى دمج معلوماتي الطبِّية المحدودة بجسدٍ حقيقي. أدركتُ حينها عمقَ الشرخِ بين ما أعلمه وما يجب أن أعلمه. وشكَّل ذلك "انفجارًا عظيمًا" انبثقَت عنه ولادةُ مجرّة جسدي والثقب الأسود الذي يسكنها.

هربتُ إلى معجمي الطبِّي في علمِ التشريح كي أتعرَّف إلى كلّ تلك الانحناءات والمنعطفات الصامتة أمامي، واحتجتُ إلى الاستعانة بالرسوم البيانية على الإنترنت لإنارة ذلك الثقب الأسود الذي لطالما فُرِضَ عَليْنا كنساءٍ التكتُّم عليه والتظاهر بعدم وجوده. نستبطن أفكارًا منذ صغرنا بفعل ثقافةٍ جنسيّةٍ مغلوطةٍ تُعزّزها البيئة التي نكبرُ فيها، واللغة التي نستعملها، وما تُوجِّههُ إلينا من رسائل مباشرةٍ أو مُستترة.

في كلّية الطبّ، مررنا على جنسانيّة النساء مثل البرق، كأنَّ التعامل في المستقبل مع مريضاتٍ قد يواجهن صعوباتٍ مماثلةً هو أمرٌ شبهُ مستحيل

تكتبُ الدكتورة نوال السعداوي1 في كتابها "المرأة والجنس": "لا شكّ أنّ البِظْرَ هو أكثر أعضاء المرأة حظًّا من الجهل والتجاهل والإهمال، وفي بعض الأحيان يَنظر له المجتمع نظرةَ عداءٍ ويستأصله بالمِشرَط".2

فكيف ينخرط عالم الطبّ في إعادة كتابة ما ترسَّب فينا من نظرةٍ ذكوريةٍ موجَّهةٍ إلى أجسادنا؟ وهل يساهم في تحرير هذه الأجساد من التمثُّلات الضيِّقة لجنسانيّاتنا التي تبقى حبيسةَ إلزاميّة الإرضاء والتفسّخ أمام رغبات الآخر؟

من مقاعد الدراسة إلى العيادة 

في الحقيقة، لا أظنُ ذلك. لم أجدني مُتمكِّنةً يومها من فهم هذه الكائنات الهلامية التي تُدعى فرج (Vulva) وبظر (Clitoris).

لا يبدو الأمر بديهيًا بأيّ شكلٍ من الأشكال، بل يبدو مُخجلًا، لاسيما بالنسبة إلى طالبةٍ في كلّية الطبّ. لكنّها الحقيقة. 

في صفوف الكلّية، لم نَمُرّ على رسومٍ بيانيةٍ مماثلةٍ إلّا عرضًا. وفي الدروس المُتعلّقة بالمشكلات الجنسية، وتحديدًا الأنثوية، تشغلُ تلك الرسوم بِضع صفحاتٍ خجِلةٍ في أواخر أحد الكتب العديدة التي ندرسها.

وإن حظي الطلّاب والطالبات بفرصٍ لاستكمال تكوينهمن في علم الجنس عبر محاضراتٍ مُتخصِّصةٍ غير مُدرجةٍ في المناهج الأساسية مثلًا، فإنّها تظلّ محصورةً بعددٍ محدودٍ منهمن، ربطًا بقدراتهمن المادّية نظرًا لتكاليفها الباهظة.

في كلّية الطبّ، مررنا على جنسانيّة النساء مثل البرق، كأنَّ التعامل في المستقبل مع مريضاتٍ قد يواجهن صعوباتٍ مماثلةً هو أمرٌ شبهُ مستحيل. يبدو أنّ الاستعداد لمثل تلك الوضعيّات كطبيباتِ وأطبّاءِ الغد أمرٌ عقيمٌ في نظر "اللاوعي الأكاديمي" على الرغم من اكتساء مهنة الطبّ بُعدًا تربويًّا هامًّا.

فكيف نتولَّى مهمّة التوعية الجنسيّة فيما معلوماتنا منقوصةٌ وتشوب معارفَنا مغالطاتٌ قد لا تكون بريئة؟

بالفعل، لم تعترضني في مسيرتي المتواضعة مريضةٌ واحدةٌ كشفَت لي عن معاناتها من اضطرابٍ في الرغبة الجنسيّة، أو طرحَت سؤالًا يتعلّق بأجزائها التناسلية أو بالانتشاء. وقد يعود ذلك إلى عوامل مختلفةٍ من ضمنها انعدام التربية الجنسية في البرامج التربويّة، فضلًا عن إطباق الأقفال الاجتماعية والثقافية على الحقوق الإنجابية والجنسية وخوف النساء من الخوض في "مُحَرَّمات" مماثلة.

وكأنّ جنسانية النساء المُختصرة في إيلاج العضو الذكري داخل المهبل أمرٌ محكومٌ بقانونِ صمتٍ ينصاعُ له الكُلّ داخل المستشفى

ومن جهةٍ أخرى، لم يعترضني تَدخُّلٌ طبّي يُعنى بالحياة الجنسية لمريضةٍ أو ساعدها على كسر الحواجز للتعبير عن تساؤلاتها أو مشاكلها، على الرغم من وجود وسائل تشخيص وعلاج ناجعة قد تُشَكِّل تحوّلًا جذريًّا في حياة المريضات.

وكأنّ جنسانية النساء المُختصرة في إيلاج العضو الذكري داخل المهبل أمرٌ محكومٌ بقانونِ صمتٍ ينصاعُ له الكُلّ داخل المستشفى، ولا تتجرّأ بعض النساء على اختراقه إلّا للحديث عن التشنُّج المهبلي الذي قد يُعيق إتمام العلاقة الجنسية المُتمحورة حول الذكَر ومتعته. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ إحدى أهمّ الطرق الناجعة لتجاوز التشنُّج المهبلي تكمُن في العلاج النفسي الجنسي (Psychosexual therapy) الذي يُركِّز على تخصيص الوقت الكافي مع الشريك/ة أو من دونه/ا للتعرّف إلى الأعضاء التناسلية بدقَّة، واكتشاف طُرُقِ تحقيق المتعة لكلّ شخصٍ على نحوٍ أفضل، والتي يؤدي فيها البظر بالنسبة للإناث دورًا مركزيًّا.

اكتشافٌ متأخّرٌ… طبّيًا

فلنسافر أوّلًا إلى أجسادنا، وإن قُطعت إليها الدروب عمدًا، ولنتعرّف معًا إلى  هاجس البطريركية: "البظر". 

لطالما أجّج مجرد الاعتراف بالبظر جدلًا أزليًا في الأوساط العلمية إما في شأن وجوده أو عدمه، أو في شأن مكوِّناته وتشريحه وظيفته. 

البظر، أو الكليتوريس باللاتينية (clitoris)، هي كلمةٌ مُشتقّةٌ من الإغريقية القديمة، إما من الجذر كليتوريس ويعني الهضبة الصغيرة، أو من الجذر كليدوس، أي المفتاح. أما تشريحيًا، فهو عضو جنسي أنثوي يقع في مقدمة الفرج، وله أجزاءٌ خارجيةٌ مؤلّفةٌ من حشفةٍ وغطاءٍ وأطرافٍ تمتدّ داخل الجسم عبر أعمدة البظر والجسم الكهفي التابع له. يحتوي البظر على آلاف النهايات العصبية الحسّية، ما يخوِّله تأدية دور رئيسي في الإثارة الجنسية والمتعة عند الإناث.

لطالما أجّج مجرد الاعتراف بالبظر جدلًا أزليًا في الأوساط العلمية إما في شأن وجوده أو عدمه، أو في شأن مكوِّناته وتشريحه وظيفته

يُعدّ هذا التعريف والتوصيف المورفولوجي للبظر حديثًا جدًّا، فهو لم يرَ النور إلّا في العام 1998 على يد جَرّاحة المسالك البولية الأسترالية هيلين أوكونيل (Helen O'Connell)، التي أدّت أبحاثها إلى رسم خريطةٍ للتشريح الكامل والمسارات العصبية للبظر للمرّة الأولى، في مساءلةٍ للتمثُّلات الطبّية المُتحجّرة لهذا العضو، ونقدٍ لإنتاج المعرفة التشريحية المُنحازة إلى الذكور.

ولسائلةٍ أن تسأل: لماذا يعاني البظر كلّ هذا التجاهل والتحامل والتناسي في عالم الطبّ، والحال أنه يُعَدّ علميًا نظير القضيب، ويتطوَّر من التركيب الجَنينيّ نفسه ويتركّب من أنسجة الانتصاب ذاتها؟ 

جذور التجاهل الطبي للبظر

يُعدّ هذا التعتيم على الأجزاء الأنثوية الحميمة والتناسلية نتيجة تراكماتٍ تاريخيةٍ لطبقات ضبابٍ غليظةٍ يُكوِّنها المجتمع والدين والعادات، ويزيدها الطبّ حِلكةً عِوَضَ أن يُنيرها. 

لقرونٍ طويلةٍ في ظلّ أنظمةٍ بطريركيةٍ سادَت معظم المجتمعات الإنسانية، جرَت شيطنَة جسد المرأة ورغباتها الجنسية، ورُفضَت متعتها وقُدّمَت على أنها تهديدٌ لتوازن المجتمع واستقراره، بينما نُظِر إلى النشاط الجنسي للرجال ومتعتهم على أنهما محور العلاقة الجنسية وأساس التكاثر. مثلًا، تبنّت الآراء الرسمية والمهيمِنة مجتمعيًا إزاء الجنسانية في العهد الفيكتوري في بريطانيا فكرة انعدام أيّ رغبةٍ جنسيةٍ لدى النساء بحكم "طبيعتهنّ"، ونبذَت وحاكمَت اللواتي تجرّأن على الإعلان عن رغباتهنّ. 

لذلك فإنّ اكتشاف النساء لأجسادهن، والبظر تحديدًا، كان بمثابة إعادة توجيهٍ للمتعة الجنسية نحو أنفسهنّ بأنفسهن، لا من أجل تلبية حاجات الرجل والخضوع لرغباته. وفي ذلك اعترافٌ بأنّ للنساء حاجاتٌ أيضًا. في الواقع، إنّ تحقيق نوعٍ من "الاكتفاء الذاتي" الجنسي يُحرّر أجساد النساء من سطوة الذكورية، ويهدّد امتيازات الرجال باعتباره يُزيح القضيب عن "عرش" الجنس وينتزع من الذكور دورَ البطولة الذي عيّنه لهم المجتمع. ويسمح ذلك للمرأة بالخروج من مكانتها الدنيا، أي "الخادمة المطيعة"،  لتكتسبَ مكانة الإنسانة المكتمِلة المساوِية للرجل في الاختيار بين النشاط الجنسي الترفيهي والإنجابي. لكل هذه الأسباب، تصبح متعة النساء أمرًا خطيرًا يهدّد النظام السائد، فنراه يحاول جاهدًا التصدّي لها. ويتفق هذا مع ما كتبَته آن كويدت3 (Anne Koedt) في مقالها "أسطورة النشوة المهبلية" (The Myth of the Vaginal Orgasm): "يبدو واضحًا لي أن الرجال في الواقع يخافون من البظر كتهديدٍ للذكورة".

إنّ اكتشاف النساء لأجسادهن، والبظر تحديدًا، كان بمثابة إعادة توجيهٍ للمتعة الجنسية نحو أنفسهنّ بأنفسهن، لا من أجل تلبية حاجات الرجل

ونَجد صدًى لسياسة الكيل بمكيالَين وشَيطنة جنسانية النساء في قانون الأمراض المُعدية أيضًا (1864-Contagious Disease Act)، الذي تخضع بموجبه عاملات الجنس دون سواهنّ إلى فحصٍ طبّي إجباري بحجّة الحدّ من الالتهابات المنقولة جنسيًا. على هذا النحو، استُخدمت أجساد النساء ضِدّهن من خلال وصمها وتحميلها أعباء كلّ ما هو "متّسخ" و"مريض" و"شيطاني". فهي، في نهاية المطاف، التي تحمل في حمضها النووي ذنب الخطيئة الأصلية منذ بداية الخلق بحسب السرديات الدينية.

وليس الطبّ بمنأًى عن كلّ هذه التأثيرات، لاسيما أنّ طُرق إنتاج المعرفة ومحتواها لا تنفصل عن نهج السلطة السائدة. فكانت المساهمة الطبّية في هذا التّحامُل مُروّعةً في القرن التاسع عشر، وهي فترةٌ حاول الأكاديميّون - وجميعهم من الذكور - أن يثبتوا فيها المكانة الفكرية المتدنّية للمرأة. لذلك، ابتكر أطباء أمراض النساء وأطباء النفس عملياتٍ جراحيةً جديدةً كان أبرزها استئصال البظر (clitoridectomy) لعلاج ما اعتبروه "اضطرابات خطيرة"عند النساء، مثل "العادة السرّية" التي كانوا يربطونها بالكآبة والشلل والعمى وحتى الموت. أيضًا، على سبيل المثال، كانت آراء عالِم النفس الشهير سيغموند فرويد (Sigmund Freud) في شأن جنسانية النساء مُتجذّرةً في ثقافةٍ تشكّك في قدرات النساء وتقيّدهن في "دورهنّ البيولوجي" الإنجابي، فتضمّنَت نظريّته "الثورية" أفكارًا عن كون التطوّر الجنسي للمرأة منقوص، يشوبه "حسد القضيب" لعدم امتلاكهنّ العضو الذكري الذي هو رمز القوة والسلطة. كما اعتبر أنّ النضوج الجنسي للمرأة يتمثّل في النشوة المهبليّة، بينما رأى في النشوة البظرية نشوةً طفوليةً غير مكتملة. 

تضافر الطبّ والذكورية

من الطبيعي إذًا أن تؤدّي كلّ تلك المغالطات إلى إهمال البظر في البحث العلمي والممارسة الطبّية، بما أنه انصهر على مرّ السنين في الوظيفة الإنجابية حصرًا. تكتب المؤرّخة آن كارول4 (Anne Carol): "نحن نرى في الأجساد ما نسعى إلى رؤيته فيها، ونتمثّل ما نعتقد أنه مهمٌّ أو ذو معنى". بذلك، يصبح للبظر تشريحٌ سياسيٌ إلى جانب التشريح الطبّي.      

لطالما خضع الطبّ إلى الهيمنة الذكورية وكان ميدانًا تُصنع فيه المعرفة الطبّية على أيدي الرجال. منذ العصور القديمة، مَثّل جسدُ الذكر في الطبّ معيار ما هو "سليم" و"طبيعي" و"مُعترف به"، والعدسة الوحيدة التي يُنظر من خلالها إلى أجساد النساء. مثلًا، وصف الفيلسوف اليوناني أرسطو الأنثى بأنها "ذكرٌ مشوّه"، واستمر هذا الاعتقاد في الثقافة الطبّية الغربية حتى زمنٍ ليس ببعيد. ويتجلّى ذلك اليوم في استثناء النساء من التجارب السريرية لكثيرٍ من الأدوية مثلًا، أو تجاهل عوارضهنّ بحجّة أنّ عتبة الألم لديهنّ منخفضةٌ مقارنةً بالذكور، حتّى عندما يتعلّق الأمر بالمشاكل التواصلية التي تعترض النساء عند الحديث عن الأجزاء التناسلية الأنثوية.

عمليًا، لا تعترف اللغة التي يستخدمها مختصّو الصحّة والخدمات الطبّية بالبظر، مقابل هوسٍ واضحٍ بالقضيب والأعضاء التناسلية الأنثوية ذات الوظيفة الإنجابية، ما يساهم في تحويل البظر في عالم الطبّ إلى شبحٍ مسكوتٍ عنه، يُمأسَس تجاهله ويترسّخ مع مرور الزمن. 

تشير الدكتورة جينيفر غانتر (Jennifer Gunter) في عملها "كتاب المهبل المقدّس" (The Vagina Bible) إلى التماثيل اليونانية القديمة، حيث يُنحت القضيب بدقّةٍ ويُعرَض بفخر، في حين يُخبّأ الفرْج وراء سيقان النساء المتشابكة. ولعلّ لوحة الفنان غوستاف كوربيه (Gustave Courbet) بعنوان "أصل العالم" (L'Origine du Monde)، تُترجِم مدى التصاق الأعضاء التناسلية الأنثوية في المخيال العام بفكرة "تعمير العالم" أي الإنجاب، كأنّما حُكم على أرجل النساء ألا تُفتح إلّا لغرض التكاثر.

عمليًا، لا تعترف اللغة التي يستخدمها مختصّو الصحّة والخدمات الطبّية بالبظر، مقابل هوسٍ واضحٍ بالقضيب والأعضاء التناسلية الأنثوية ذات الوظيفة الإنجابية

يتراوح تاريخ البظر بين الجهل به والتجهيل المُمنهج. وبحسب الفيلسوفة النسوية نانسي توانا (Nancy Tuana)، من الضروري أيضًا معالجة "إنتاج الجهل" من أجل بناء المعرفة بشكلٍ كامل، إذ "غالبًا ما تتشابك ممارسات الجهل مع ممارسات القمع والإقصاء"، وهو ما تحاول توانا تفسيره في مقالها "النشوة الجنسية وابستمولوجيا الجهل" (Coming to Understand: Orgasm and the Epistemology of Ignorance)، فتذكر "نقصًا تاريخيًا في علم البظر" جعل الدراسات الطبّية تتجاهله، ما "يكشف عن ممارساتٍ تقمع أو تمحو كامل المعرفة المتعلّقة بالمتعة الجنسية للمرأة باعتبارها لا تؤدّي دورًا إنجابيًا".

وقد يؤدّي تجاهل البظر في عالم الطبّ إلى عدم أخذ العوارض التي تعبّر عنها النساء على محمل الجدّ، ما يتسبّب بتأخّر تشخيص المشاكل الصحية المتعلّقة به. في هذا الصدد، ينقل مقالٌ مهمٌّ في صحيفة "نيويورك تايمز" تجارب بعض النساء وانعكاساتها على حيواتهنّ، إذ يؤدّي هذا القمع المُبطّن إلى تأخّرهنّ في طلب العلاج، وغياب الوقاية من الالتهابات المنقولة جنسيًا مثلًا، ما يُفوِّت فرص التشافي، ويُفاقم تكبيل أجسادهنّ في قوالب المجتمع الجاهزة وسحقها تحت عبء الإنجاب والأمومة.

مقاومةٌ طبّية

يُقاوم العديد من مكوّنات المجتمع المدني في معظم البلدان الناطقة باللغة العربية من أجل إرساء ثقافةٍ إيجابيةٍ تجاه جنسانية النساء، ومحاولة سدّ الفجوة المعرفية المتعلّقة بالصحّة الجنسية، سواء من خلال استهداف المجتمع عمومًا أو مختصّي الصحّة والطبّ خصوصًا.

هذا ما تقوم به مؤسسة "منتدى الجنسانية" في فلسطين مثلًا، طامحةً إلى "نشر الوعي الجنساني في المجتمع الفلسطيني بأسلوبٍ تربوي إبداعي وبنّاء، يعتمد أسُس الشراكة والمساواة بين الجنسَين". وعلى نحوٍ مماثل، أطلق "مشروع الألف" (The A project) في لبنان خطًا ساخنًا من أجل توفير خدماتٍ ومعلوماتٍ عن مختلف القضايا المتعلقة بالصّحة الجنسية والإنجابية. ويؤمّن مركز الصحة الجنسية "مرسى" (Marsa Sexual Health Center) في لبنان أيضًا جميع خدمات  الصحّة الجنسية والإنجابية بسرّيةٍ وفي بيئةٍ خاليةٍ من الوصم والتمييز على أساس الجندر أو التوجّه الجنسي.

كذلك في تونس، تناضل شبكة "واي بير" (YPEER) التي تنشط أساسًا عبر تثقيف الأقران، بالتعاون مع منظماتٍ أخرى من أجل نشر برنامج التربية الجنسية الشاملة الذي لا يزال مسار إنشائه يُكابد الكثير من التعثّرات منذ سنوات. ويقول هشام السماعلي، طبيبٌ وناشطٌ في مجال الحقوق الجنسية والإنجابية ضمن شبكة "واي بير" إنّ "التطبيع مع تسمية الأجزاء التناسلية الأنثوية بمسمّياتها، وتعميم المعرفة على مهنيّي الصحّة حول البظر والمتعة الجنسية للنساء، هو وسيلةٌ حقيقيةٌ لتحرير أجسادهنّ".

يُقاوم العديد من مكوّنات المجتمع المدني في معظم البلدان الناطقة باللغة العربية من أجل إرساء ثقافةٍ إيجابيةٍ تجاه جنسانية النساء

في مصر، يهدف مشروع "الحب ثقافة" (Love Matters) إلى مناقشة مسائل الصحّة الجنسية والإنجابية. واستوقفَتني الحملة الالكترونية المهمّة التي أطلقها المشروع لمواجهة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث (الختان)، وخصوصًا ضد "تطبيب" هذه الجريمة، ما يطبّعها ويضفي عليها شرعيةً ما. فهذه الجريمة تبقى انتهاكًا صارخًا للكرامة الإنسانية وللحقّ في الصحّة والحياة، لاسيّما إذا ما اقترفَتها أيدي طبيب/ة. 

في العالم أيضًا، تنشط منظّماتٌ مثل الاتحاد الدولي لجمعيّات طلبة الطبّ (IFMSA) من خلال لجنته الدائمة المعنية بالصحة والحقوق الجنسية والإنجابية، بما في ذلك فيروس نقص المناعة البشرية والإيدز، لمحاربة الوصم داخل الأنظمة الصحّية. ومن أبرز مهام هذه المنظّمة: توفير أدواتٍ لبناء قدرات مهنيّي ومختصّي الرعاية الصحّية مستقبلًا في ما يتعلق بالصّحة والحقوق الجنسية والإنجابية، وتعزيز الجنسانية الإيجابية والحياة الجنسية الصحية. لكن تبقى مسألة التربية الجنسية الشاملة في جميع المستويات الأساسية منها وحتى الجامعية، مسألةً هيكليةً ينبغي معالجتها في استراتيجياتٍ وبرامج وطنية. 

نلمس حاليًا نزعةً نحو التغيير تقودها الطبيبات والأطباء في بداية مسارهمن المهني. ثمّة إدراكٌ متنامٍ لأهمّية الحياة الجنسية كمكوِّنٍ أساسي لرعايةٍ صحّيةٍ شاملة، بفضل تسليط الضوء على التابوهات المعيقة لتحقيق مستوى حياةٍ جنسيةٍ أفضل للمريضات. ويتجلّى هذا التغيير الطفيف في تزايد الإقبال على دروس معالجة إشكاليات الصحة الجنسية، وازدياد الوعي والالتزام الأخلاقي بدعم الكرامة الإنسانية والمساواة، مع ما يُحَتِّمُه ذلك من ضرورة مقاومة جميع أنواع الوصم والتمييز في ممارسة الطبّ.

إن كان ثمّة مونولوجٌ آخر غير مونولوجات المهبل وجب أن يرى النور في عالمنا اليوم، فهو "مونولوج البظر". ويجدر بمختصّي الصحّة من شابّاتٍ وشبّانٍ أن يكونوا أوّل من يمنحه المصدح، حتى لا يبقى البظر في أذهاننا ثقبًا أسودا بلا ملامح، وكي لا يكون الطبّ فلكًا يحتكره الرجال من أجل الرجال إلى الأبد.

 

 

  • 1. نوال السعداوي، طبيبةٌ وكاتبةٌ نسويةٌ مصرية، من أشهر المدافعات عن حقوق الإنسان والنساء، لاسيّما في مجالَي الحقوق الجنسية والسياسية في المنطقة الناطقة بالعربية. اشتهرَت كتاباتها الغزيرة بالجرأة وتحدّي التابوهات الاجتماعية السّالبة لحرّيات النساء، ومن أبرزها "المرأة والجنس" (1974)، و"مذكّراتي في سجن النساء" (1982).
  • 2. نوال السعداوي، المرأة والجنس، مؤسسة هنداوي، 2022.
  • 3. آن كويدت، ناشطة نسوية راديكالية أميركية، ومؤلفة "أسطورة النشوة المهبلية"، وهو عملٌ نسوي كلاسيكي نُشِر في عام 1970 ويتمحور حول النشاط الجنسي للمرأة.
  • 4. آن كارول، أستاذةٌ في التاريخ المعاصر في جامعة إيكس مرسيليا، وعضوةٌ أولى في المعهد الجامعي الفرنسي، و باحثةٌ في تاريخ الجسد والتاريخ الاجتماعي والثقافي للطب والأطباء في القرن التاسع عشر.