التخلّي عن رومانسية المشي في الإسكندرية: لم أمشِ كما يبدو أنني مشيت

ذات يوم في خلال رمضان، تحمّستُ للمشي قبل الغروب فيما كان الجميع في المنزل يستعدّ للإفطار. أحضرتُ حقيبتي، خرجتُ من المنزل، وانطلقتُ ماشيةً لحوالي عشر دقائق حتّى الكورنيش. وصلتُ إلى الصخور المرصوصة، وجلستُ على إحداها. حاولتُ تأمّل الموج كما في الأفلام لكن انتابني شعورٌ بالارتياب والخوف حال دون ذلك. نظرتُ خلفي، فرأيتُ رجلًا ينظر إلى "قفايا" لا إلى البحر، وآخر بعيدًا يصطاد السمك في حاله. وقفتُ على الصخرة، ورحتُ أفكّر بطريق العودة إلى المنزل، كما فعل الشاعر الويلزي ويليام هنري ديفيز (William Henry Davies) حينما سأل نفسه:

الآن سأمشي، أم سأركب؟

قالت المتعة "اركب".

أجابت السعادة: "امشِ".

رسمتُ خريطةً سريعةً في دماغي: من محطّة الرمل، ثمّ التخريم من شارع البورصة التجارية، حتّى تمثال محمد علي، ومشيت. فهذا ما نزلتُ من أجله وما أحاول فعله طيلة سنين.

أعرف أن المشي يفصلنا عن الصخب، ويُدخلنا في مساحة تأمّلٍ متلاعبةٍ تمكّننا من محاورة ذواتنا بشكلٍ مختلف. أيضًا أعرف أنّ مع كلّ خطوةٍ نمشيها يقع شيءٌ ثقيلٌ من داخلنا على الأرض، فندهسه ونمضي. لكنّ مشاكلي تبدأ كلّما مشيت، إذ لا مساحة للسيّدات اللواتي يُردن المشي في المدينة. 

في طريق العودة، مرّ شابٌ على موتوسيكل، وقرّر تغذية شعوري بالارتياب، إذ زعق فيَّ قائلًا: "عيب شعرك ده يا مدام في رمضان". لم أحتمل. شتمتُه. اختفى قليلًا، ثمّ عاد على درّاجته واقترب نحوي. لم يعد هناك سوى الرصيف يفصل بيننا. قال إنه يريد أن يفتعل بي أمورًا - لم أسمع ما قاله بسبب صوت المحرّك - لكنّه سوف يحترم رمضان.

مشاكلي تبدأ كلّما مشيت، إذ لا مساحة للسيّدات اللواتي يُردن المشي في المدينة

رددتُ متحدّيةً بأن يفعل ما يشاء لكي يسهِّل عليّ سجنه بتهمة التحرّش والتعدّي. اختفى مجدّدًا، ليطلّ بعد دقيقتَين أمامي على الرصيف المقابل وهو يحاول تتبّعي. كان يقود درّاجته وعيناه تراقبانني. مشيتُ بسرعة. شعرتُ بأصابع قدميّ على وشك أن تخترق الكوتشي.1 اندسَستُ بين المارّة هربًا من ملاحقاته لي. 

هذه اللحظة باتت مُعتادة. أختبرُها بأشكالٍ متنوّعةٍ في كلّ مرّةٍ أقرّر فيها المشي.

الجلوس قريبًا من البحر هو الأقرب إلى الأمان، فهو يسرّب إحساسًا بالاندماج مع الصخر والناس، ويسمح بالتمتّع بجمال المشهد الطبيعي. مع ذلك، يبقى الهدف الشائع هو الشعور بالتيه وقلّة الحيلة. الجلوس جنب البحر بسكونٍ هو محاولتنا الأوّلية لفكّ شفرات أزماتنا النفسية، لكن الجلوس الخامل يخلط العام بالخاص، ويجعل الفرد يشتبك مع ما يبدو متزنًا مثل الحجر أو الناس من حوله، فيسرّب له إحساسًا وهميًا بأن كلّ شيءٍ على ما يرام. لا يخلط المشي الأمورَ ببعضها، بل يضعها في نصابها. إنه انفصالٌ عمّا حولنا واتحادٌ مع ما في داخلنا. أعتقد أنّ معظم الرجال لا يريدون للنساء اختبار ذلك الشعور. فحتى لو لم يعرفوا كيفية تحليل هذه الحالة، إلّا أنهم يرفضونها، بحيث يصبح المشي بالنسبة إليهم مُحفّزًا لمعادلة التحرّش.

تشغلني كلّ هذه الأفكار ولكنّها لا تشتّتني. أراقب الموتوسيكل وهو يتبعني حتّى بيتي بدلًا من الانهيار تحت نوبة الهلع التي تملّكتني. لطالما رأيتُ الموتوسيكل بمثابة وضعٍ جنسي، عبارة عن امرأةٍ مستلقيةٍ رافعة يديها، يقود بها رجلٌ إلى أماكن يريدها هو. الموتوسيكل يعطي قدرةً وهميّةً لراكبه بأنه يستطيع أن يفعل أيّ شيءٍ.. ويطير.

لا يخلط المشي الأمورَ ببعضها، بل يضعها في نصابها. إنه انفصالٌ عمّا حولنا واتحادٌ مع ما في داخلنا. أعتقد أنّ معظم الرجال لا يريدون للنساء اختبار ذلك الشعور

لستُ وحدي من اختبرَت هذه المشاعر والأفكار أو مرَّت بهذه التجربة. معظم مَن أعرفهنّ في الإسكندرية تخلّين عن فكرة المشي. وفي استبيانٍ نشرتُه بتاريخ 14 أبريل/نيسان 2023 على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "بتعرفي تمشي في الإسكندرية لوحدك؟"، شاركَت فيه أربع وأربعون سيّدة، كانت لدى حوالي ثماني سيّداتٍ فقط تجربة مشيٍ ناجحةً خاليةً من التحرّش لمسافةٍ تتراوح بين كيلومترٍ واحدٍ وثلاثة كيلومترات، بينما اختبرَت الأخريات تجارب مختلفة.

تروي إحدى النساء المشاركات في الاستطلاع تجربتها الصادمة التي تعكس الخوف وشعور انعدام الأمان الذي تعيشه النساء في خلال المشي في الإسكندرية: "وأنا ماشية، شويّة عيال قبل كدة رفعوا أيديهم من تحت فجأة… يعني تلميح بتحرّشٍ أو لمسٍ". وتتكرّر حالات التحرّش وتتنوّع أشكالها إنّما بسياقاتٍ مختلفة. تشاركنا إحدى السيدات تجربتها المثيرة للخوف والقلق: "كنت ماشية بعيَّط في الشارع عَ البحر، التقيت بسائق ميكروباص ماشي ورايا، وبيقولي كلام مش حلو، وإنه عايز ياخدني معاه، ما مِشاش غير لما اضطرّيت أزعق وأشتمه". إلى ذلك، شاركَت سيّدةٌ أخرى تعرّضها للتحرّش المباشر مرّاتٍ عدّة في خلال المشي: "تلات أربع مّرات واحد يحطّ إيده على صدري، كأنّه خبط بيّا من غير قصده".

مع تكرار تجربة التحرّش، لجأَت النساء إلى حماية أنفسهنّ بطرقٍ عدّة. تقول إحدى السيّدات: "لما بتمشّى دايمًا بمسك في إيدي مفاتيح استعدادًا لأيّ حاجة ممكن تحصل"، فيما تقول أخرى: "بتعب من كتر ما بكَرمش وشّي وأنا ماشية لوحدي، نَفَسي بيِتعبني من كتر ما بمشي بسرعة".

على الرغم من الشهادات التي حصلتُ عليها والتي توثّق حالات التحرّش المُمنهَجة التي تتعرّض لها النساء، إلّا أن المقيمين خارج الإسكندرية لا يصدّقون حين أخبرهم أنني لا أمشي على الكورنيش يوميًا، أو أنني لا أمشي أصلًا. يخبرونني أنّ أحدنا لا يستطيع المشي في أيّ مكانٍ، وأن الإسكندرية أفضل الأماكن وأكثرها أمانًا للسيّدات. وكلّما حاولتُ شرح حقيقة الوضع في المدينة، نظروا إليّ وكأنّني أهشّم أحلامهم. 

الإسكندرية بالنسبة لكثيرين هي المكان المعادِل لـ"اللاوعي" الإنساني الذي يمكن التصرّف بحرّيةٍ في داخله. فهي مُحاطةٌ بالكليشيهات الرومانسية التي تصِفها بـ"قطعة من أوروبا"، وبأنّها تتّسم بملامح كوزموبوليتانيةٍ حيث يمكن للفرد المقيم أن يخرج عن حدود مجتمعه المحلّي نحو عالمٍ أكبر خالٍ من التعصّب، يستوعب الاختلافات ويحترم الحرّيات، ولاسيّما حرّية النساء.

تشارك إحدى السيّدات بعض التصوّرات المتداولة عن نساء الإسكندرية، فتقول: "دائمًا بيتقال قدامي إن ستّات الإسكندرية مش محترمات"، فيما تضيف أخرى: "بيبقوا فاكرين إنّنا بنمشي بالمايوه في الشارع"، بينما عبّرَت إحداهنّ عن سخطها على هذه التصوّرات، قائلة: "فاكرين إنّنا عايشين براحتنا من حيث الاستمتاع بالبحر، بينما فعليًا ما بنقدرش نمشي من شارع خالد ابن الوليد للمنشيّة، كلّ ده مش بيتكِتب على النّت".

الإسكندرية بالنسبة لكثيرين هي المكان المعادِل لـ"اللاوعي" الإنساني الذي يمكن التصرّف بحرّيةٍ في داخله. فهي مُحاطةٌ بالكليشيهات الرومانسية التي تصِفها بـ"قطعة من أوروبا"

أدّى هذا التصوّر الممتدّ عبر أجيالٍ إلى رسم صورةٍ مُزيّفةٍ عن المجتمع السّكندري تتوقّف عند لحظةٍ زمنيّةٍ معيّنة، جعلَته أشبَه بمجتمعٍ مُتخيّلٍ في الوَعي الجَمعي، فبات من الصعب تفسير التغيّرات التي طرأَت على ذلك المجتمع وتحليلها، وبالتالي الاعتراف بالمشاكل التي تواجهها سيّداته، بل وتمنعهنّ بشكلٍ ما من التمرّد على الوضع غير المُعترف به أساسًا داخل مدينتهنّ. 

وربّما هذا ما يفسّر امتناعي عن التعبير عن إحساسي بالتهديد كلّما قرّرتُ المشي وحدي.

دائمًا ما يكون الحلّ الأول لتجنّب التحرش هو المشي مع رجلٍ أو بالقرب منه. في أثناء ورشةٍ للكتابة أُقيمَت في أسواق مدينة الإسكندرية، استفدتُ من فرصة المشي مع شخصٍ متمرّسٍ في المشي. في إعلان الورشة، لم أهتمّ بأيّ تفاصيل سوى أنني سوف أمشي مع شخصٍ في قدمَيه خريطةٌ إلى أماكن يصعب عليّ أن أمشي فيها وحدي. لم أستغرب أنّنا كنّا حوالي ستّ فتياتٍ في الورشة، جميعنا دُهش من إمكانية المشي في مساراتٍ مماثلةٍ بتلك البساطة.

بعد إتمام اليوم الأول من الورشة وشعوري بالأمان، أحسَستُ بساقيّ تنطلقان، وبعيونٍ تتفتّح في قدميّ لتشاركَني هذه التجربة. في اليوم التالي، كنّا في شارعٍ بين سوق الحيوانات النادرة وسوق الجمعة. كان الشارع هادئًا وخاليًا من الناس، ما عدانا نحن، ولم يكن يحتوي سوى على مخازن قديمةٍ للقطن وشجرٍ متناثرٍ وتراب. كانت لحظةٌ مُشجّعةٌ على الانفصال عن المجموعة. بدأتُ أتواصل مع نفسي وأفتح مواضيع معها، فيما كنتُ أسمع انسحاق التراب تحت قدمَيْ. لكنني دُهِشت حينما وجدتُ نفسي في زاويةٍ بعيدةٍ ومظلمة، فحاولتُ الانسحاب، لكن سرعان ما سمعتُ صوتًا "يشخر"2 لي. ظهر شابٌ من العدم وهو يستشيط غضبًا لأنّي دفعتُه ومنعتُه من أن يمسك بفَرجي. 

في خلال المشي علينا أن نكون لا أحد، مجرّد جسدٍ لا يملك تاريخًا ولا ذاكرة. هذا ما يقوله الفيلسوف الفرنسي فردريك غرو (Frédéric Gros) في كتابه "المشي فلسفة".3 لكن من الصعب لامرأةٍ أن تكون مُجرّد جسدٍ في الشارع، لأن ذلك يتطلّب حرّيةً قصوى: أن يكون المتجوّل بلا هويةٍ تحدّده، وأن يمتلك في الوقت نفسه هويةً متطابقةً مع كلّ الأماكن.

من الصعب لامرأةٍ أن تكون مُجرّد جسدٍ في الشارع، لأن ذلك يتطلّب حرّيةً قصوى: أن يكون المتجوّل بلا هويةٍ تحدّده، وأن يمتلك في الوقت نفسه هويةً متطابقةً مع كلّ الأماكن

فكرة أن تكون لا أحد تنعكس أيضًا على فعل الكتابة. أن تكون لا أحد يُمَكّنك من التقاط أفكارٍ طائرةٍ بشكلٍ عشوائي في دماغ الآخر، وأن ترى الأشياء كما هي من دون تدخّلٍ من تاريخك الشخصي. هذه الأفكار والأطروحات بعيدةٌ جدًا منّي ومن وضعي الحالي. ليس ذلك لأنّني لا أستطيع ممارسة المشي فحسب، بل لأنّني بدأتُ بالتخلّي عن فكرة المشي كما أعرفه، وابتدعتُ طرقًا ملتويةً للمشي. لم أكن وحدي من ابتكرَت طرقًا بديلةً للمشي، فهناك من قرّرَت التخلّي عن المشي بموازاة البحر واستبدلَته بركوب الترام، أو الذهاب إلى الجيم، أو المَشي برفقة رجل، أو الجلوس في كافيه أو حتّى ملازمة البيت.

أُسمّي طريقتي هذه "المشي داخل الانتظار"، مثلما يحدث في البنك لدى إنجاز معاملةٍ أو سحب المال، أو في مركز الاتصالات عند انتظار تقديم شكوًى عن سلكٍ مقطوع. أنتظر دوري، أسخّن قدمَيْ عبر هزّهما، وأتحمّس لتلك الخطوات التي سوف أمشيها من الكرسيّ حتى شبّاك خدمة العملاء. هذا الطريق الملتوي يُبيّن أنّي بدأتُ أتكيّف على نحوٍ بائسٍ مع هذا البلاء، ولكنّه بشكلٍ ما ينقذني من رؤية الحياة من خلف إطار، مثل شبّاك غرفتي أو شبّاك السيّارة، باعتبارها أكثر الأماكن أمانًا للتجوّل والاشتباك مع الحياة.

مرّ يومان أو ربّما أكثر على "واقعة الموتوسيكل"، لكنّي ما زلت أرتعد خوفًا كلّما سمعتُ صوت محرّك الموتوسيكل، حتى وإن كنتُ في سريري. أقول في سرّي، ربّما يكون الشاب نفسه الذي تحرّش بي في الشارع قرّر أن يكسر باب شقّتي، وأن يدخل إليها، وألا يفعل شيئًا سوى المشي أمامي بكلّ حرّية.

 

 

  • 1. حذاء الرياضة باللهجة المصرية العامية.
  • 2. الشّخر: لفظٌ بالعامّية المصريّة يعني الصوت الذي يصدر من الأنف ويشبه صوت الخنزير، ويُستخدم للاعتراض على أمرٍ أو حدثٍ ما.
  • 3. فريدريك غرو، "المشي فلسفة"، ترجمة سعيد بوكرامي، السعودية، دار معنى للنشر والتوزيع، 2021.