يندُرُ البكاء بعد الثلاثين، وإن حدث أن تدافعت بعضُ طفلات الدموع، وحاولت أن تخرج من ذلك السرداب الضيّق المخيف الذي يدعونه مجرى الدمع، كلّما انبسط فجأة، بين الغيب والعين، وجب علينا أن نهرع لنفتح لها الباب. بعد الثلاثين لا يتورّعنّ أحدٌ عن البكاء. على المرء أن يدمع، ويتهنّف، وينتحب، وينشج، وينوح، ويستعبِر، ويرقى سريعًا إلى ما تيسّر من مراتب البكاء.
ولكنّ الثلاثين أيضًا، هي السنّ التي يندُرُ فيها أن تُطبّقَ الواحدةُ منّا مساحيق التجميل على وجهها أكثرَ من مرّةٍ في اليوم، ولذا أجدني أتمنّع أحيانًا عن البكاء إذا ما كان في اليوم رمقٌ لأيّ شيءٍ يجعلك تظنّ أنّ وقت إزالة المكياج لم يئِن بعد. مرّة واحدة في اليوم، كلّ يوم، أغمِسُ رأس الفرشاة العريض، حول ما تبقّى من ظلال العيون، التي تطوّق البؤرةَ الصغيرة الفارغة في منتصف اللون المطلوب، ثمّ أغمسُها حول ما تبقّى من العيون، التي تطوّق بدورها البؤرة الصغيرة الفارغة في منتصفِ المحجرِ المطلوب. يثور غبار الآي شادو (Eye Shadow) ويعلقُ على الأهداب، فيصبح لونها فاتحًا. لا أحد يريد أن تبدو رموشه فاتحةً بعد الثلاثين، أدمّسها بالماسكرا، حتّى ينطق الأسود فيها بكلام العيون.
لطالما لوّثتُ الآي شادو بآثار الماسكرا التي تتركها نهايات أهدابي الطويلة على الجفون، حتّى علّمتني أختي في أيّامها الأخيرة تقنيةً لوضع الماسكرا من دون أن تلامس الأجفان. سأصفها لكُنّ هنا، عسى أن تعمّ الفائدة على الأحياء، والرحمة على الأموات. يكمن السرّ في تثبيت فرشاة الماسكرا وتحريك الرموش، عادةً ما نجد أنفسنا نفعل العكس بحركةٍ تلقائيّة. بعد الثلاثين، على الواحدة منّا أن تتجنّب التلقائيّة، وتضع الفرشاة بين جفنيها، على مماس الرموش، وتطرِف فوقها مرّاتٍ عدّة. تخيّلي أنّ الرموش لسانٌ يلعقُ الفرشاة، من أعلى إلى أسفل، ببطء، ويروقه مذاق السّواد الحالك، فيلعقُ بمزيدٍ من البطء، والأسى، في لحظةٍ بائدةٍ تحلمُ بالأبد، المسيّج بأكسيد الحديد والكربون.
لأنّ الدّمع يستهدفُ الجفنَ السّفليّ أولًا، أفردُ تحته أحيانًا بعضَ الظلال الورديّة الحمراء، ليكون التراجع، بعد اللحظات الأولى من البكاء، ممكنًا، إن امتنعتُ عن الومض حتى أنتهي من مسح تلك القطرات
تطرِفين، بزهوِ من أتقنت لتوّها فنّ إغماض العيون، وتقرئين الفاتحة على روح أختي التي علّمتنا قبل أن تموت، أنّ الرموش إذا كانت طويلةً بما يكفي لملامسة الأجفان، فلا داعيَ للقلق من الماسكرا إذا استطعتِ أن تغُطّي عصاها عميقًا في قعر الأنبوب، ثمّ تنتشليها، وتثبّتي الفرشاة جيّدًا أمام العين، بعد أن تتأكّدي من سماع صوتها وهي تلجُ بعُسرٍ في الفوّهة الضيّقة لذلك الأنبوب وتخلّص نفسها أيضًا بعُسر: بُقْ، بُقْ، وأنتِ تردّدين: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرحيم، مَٰلِكِ يوم الدين، إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ٱهدنا ٱلصِّرَٰطَ المستقيم، صِرَٰطَ الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالّين"، آمين.
تمامًا مثل مكوث حرف الياء في إيّاك، ومكوث حرف اللّام في الضالّين، يمكثُ حرفُ العَين في حلكةِ الفرشاة، لبرهةٍ حاسمةٍ من الزمن، تلعقين بصفّ رموشكِ العلويِ رأسَ الماسكرا المغطّسِ بالسّواد كما تنطقينَ حرفًا مُشدّدًا، مؤمنةً بأنّ اللغة العربية تستطيعُ بشَدّةٍ وسكون، أن تؤسِّسِ الفرقَ بين الومضِ الحرّ والومضِ المقيّد بالجمال، أمّا رموشكِ السفليّة فجنّبيها الظلمات، لتبدو العيون أكثر اتّساعًا وانغماسًا في الحلم، والنظرةُ ساهمةً وموزّعةً قليلًا في الأرجاء. ولأنّ الدّمع يستهدفُ الجفنَ السّفليّ أولًا، أفردُ تحته أحيانًا بعضَ الظلال الورديّة الحمراء، ليكون التراجع، بعد اللحظات الأولى من البكاء، ممكنًا، إن امتنعتُ عن الومض حتى أنتهي من مسح تلك القطرات، نقرًا بأطراف البنان، كما فعلت ليلى العامريّة، على سفح رامةٍ، حيث لا فرق يا قيسُ، على الرغم من سذاجة العشّاق، بين الدم والخضاب وظلال العيون الحمراء، حين يبكي الإنسان، ويمتزج الألم حقًّا بالحزن والجمال.
*************
لا تنفدُ الألوان سريعًا من علبة المكياج، لا سيّما إذا كنّا نستخدمها مرّةً واحدةً فقط في اليوم، كما نفعل بعد الثلاثين، ولذا، فإننّي لا أجد سببًا مُقنِعًا للتخلّص من مكياجي القديم، وأغلب الظنّ أنّني أستخدم علبةً منتهية الصلاحيّة منذ أعوام، إذ ابتعتُها في أواخر العشرين، حين كان البكاء أمرًا شائعًا، شيوعَ التحرّج منه، والرّغبة بمقاومته، فالعشرينيات هي سنّ البطولة الفرديّة، وقابليّة التبرّج لأكثر من مرّةٍ في اليوم، قبل قيلولة الظهيرة وبعدها. في الثلاثين، لا توجد قيلولةٌ في الظهيرة، وأحيانًا لا توجد ظهيرة، بل فيضٌ متواصلٌ من اللحظات التي تصبّ توًّا في الموت.
كما أنّ مكياجي من النّوع الرخيص، الذي لا تسمعين مطلقًا بعلامته التجاريّة، ولا تحصلين عليه هديّةَ عيد ميلادٍ باذخةٍ من صديقةٍ ثريّةٍ أو من شوغَر دادي (Sugar daddy)، ولا تعرفين عنه من توصيات الفاشونيستات، وإنّما تشترينه بهذه الطريقة: تدخلين أيّ دكّان مستحضرات تجميلٍ تجدينه في طريقك إلى البيت، وقد أسرفتِ معظم الحصّة المخصّصة لمصروف اليوم، (تجنّبي المحلّات التي تكون في المولات، وركّزي على تلك القريبة من وسط البلد، يوجد منها واحدٌ في رام الله عند دوّار المنارة، تنزلين له من درجٍ عن اليمين أو اليسار، وآخر عند دوّار الساعة، يعلّق على بابه قبعاتٍ وجراباتٍ وأحزمةً وكولونات نايلون وجزادين ويعلم الله ماذا أيضًا)، وتقفين بضع دقائق أمام رفّ ألواح الآي شادو، آمِلةً في أن تنتهي من العمليّة قبل أن يقتنصك الموظف المناوب سائلًا ما إذا كان "بدّك مساعدة"، تلقينَ نظرةً جوّالةً متفحّصةً المواضع المحدّدة التي يسجّلون عليها السعر متظاهرةً بأنّك تتفحّصين الألوان والجودة والعلامة التجارية أو غير ذلك من الأمور التي لا تفقهين منها إلّا ما يلزمك لتمويه تصرّفات الفقر والوضاعة، وتتأكّدين أنّك لم تغفلي لوحة مكياجٍ أخرى بسعرٍ أرخص من سعر اللوحة التي تحملينها بين يديك الآن. احرصي ألّا تكون ألوانها مملّة، ألا يكفي أنّ ثمنها بخس، وجودتها رديئة، وستسبّب لك تهيّجًا في الجلد، وستمّحي عن البشرة سريعًا ما إن تلامسها تلك الطبقة الدهنية التي تغلّفُ الدمّوع؟
في الثلاثين، تزيد أسباب البكاء، لا سيّما لدى مثيلاتي من النساء، خرّيجات الطبقات الاجتماعية الدنيا، ذوات القدرات الذهنية المتواضعة والكبرياء الشديد، اللواتي مهما كدحن سبيلهنّ في هذه الحياة، يغتالهنّ فقرٌ مُخجِلٌ لا يجوز الإفصاح عنه. تزيدُ أسباب البكاء، ولا يزيد البكاء! فالجسد بعد ثلاثين عامًا من التمرّغ في مختلف أنواع الوحول، يطوّر آليّات كبتٍ وإحباطٍ كيميائيّة، تحوّل العواطف من الحالة السائلة إلى الصلبة أو الغازيّة، فبدلًا من انهمار الدموع، ينتفخ الجسد بغازاتٍ سامّةٍ تتكدّس بين أضلاع القفص الصدري، أو تتوزّع بين أعضائه أطنانًا هائلةً من الخرسانة المسلّحة، فلا يعودُ يقوى على إطباق شفتيه حول الثغرة التي تنسربُ منها الأنفاس نحو الداخل وتجفّف الحلق مثقلةً بألق الفلورسنت.
في الثلاثين، تزيد أسباب البكاء، لا سيّما لدى مثيلاتي من النساء، خرّيجات الطبقات الاجتماعية الدنيا، ذوات القدرات الذهنية المتواضعة والكبرياء الشديد، اللواتي مهما كدحن سبيلهنّ في هذه الحياة، يغتالهنّ فقرٌ مُخجِلٌ لا يجوز الإفصاح عنه
في بعض المرّات، ألقاني محظوظةً لدرجةٍ لا يمكن تخيّلها، فيصادفُ أن تغصّ عينايَ بالدموع، بالتزامن مع موعد النّوم، فأبكي بإسهاب، وأمسح المكياج أيضًا بالدموع، ويكون كلّ شيءٍ للحظاتٍ في مكانه الصحيح، وأشعر أنّني وُفّقتُ كمَن ضرب عصفورَين بحجرٍ واحد، ولا أعرف أيّ نوعٍ من المعاتيه يرغب حقًّا بضرب العصافير بالحجارة، ويفكّر بطريقةٍ ينجِزُ فيها ذلك بقدرٍ ضئيلٍ من الجهد، يقارب الجهد الذي يجعلني أقول الآن إنّني أريدُ أن أبكي مثل عصفورةٍ ضُربِت بحجرَين، أو ربّما بثلاثة. على أيّ حال؛ لكي تتحقّق صدفةٌ كهذه، على المرء أن يطليَ عينَيه بمساحيق التجميل يوميًّا، ليستغلّ كلّ لحظةٍ من الممكن أن يسيل فيها بالوقت الصحيح 9% من ملح العاطفة. في المرّات التي يحدث فيها ذلك، أتمنى حقًّا لو أنّني تكحّلتُ أيضًا، وشحّمتُ أهداب جفنيَ السفليّ بالماسكرا، لكي تمحو الدموع قدرًا أكبر من المكياج، فيكون الرضا طيّةَ منديلٍ ذي بطانتَين، يبقّع بياضَه الدمعُ الملوّث بمزيجٍ غير مفهومٍ من الألوان الآخذة بالتداخل والتفشّي في نسيج المنديل المتآكل من شدّة البلل والحزن.
يبدو المرء مثل مهرّجٍ، حين يغطّ رموشه السفليّة بالماسكرا، إلّا إذا كان المكياج داخِنًا، أو سموكي كما تشيع تسميته، وهو فنٌّ لا يجيده سوى الميك آب آرتيستس (Make-up Artists)، الذين يمضون نهاراتهم مثل شخصيات الكرتون، يتقافزون في غمامةٍ ملوّنةٍ من أغبرة المساحيق. أنا لست فنّانة، ولا أستخدم من المكياج سوى ما ذكرته حتّى الآن، بالإضافة إلى الآي لاينر (محدّد العيون) في المناسبات الخاصّة. بالطّبع، أعرف أسماء الكثير من المستحضرات الأخرى، فلدَيك البلاشر (Blusher) مثلًا، والفاونديشن (Foundation)، والهايلايتر (Highlighter)، والكونسيلر (Concealer)، والكنتور (Contour)، وقد لطّختُ وجهي مرّةً بكلّ هذه الأشياء، وبعد أن أمضيتُ ساعةً كاملةً في الترطيب، والدهن، والتخطيط، والفرش، والخلط، والتّحديد، والرسم، والرّشّ، وزمّ الشّفاه، وفتح العينَين وإغماضهما، والنّظر بثباتٍ إلى أعلى، وإلى اليمين، ثمّ اليسار، والرَّمش، والمسح، والإضافة، والتعديل، والمعك، لم أفلح بأن أبدو مثل أولئك الفاتنات اللواتي يتزلّجُ الضوء على منحنيات وجناتهن الملساء، ويلتمع بشكلٍ خاصٍّ في مواضع الهايلايتر، فلا أبرأ، مهما أشحتُ النّظر، من سحر نقطة الهايلايتر، في مدمع العينَين.
*************
عادةً ما أكتفي بمكياج العيون، ولكنّني في تلك المّرة، شعرتُ بضرورةٍ خاصّةٍ لإتقان باقي أنواع المكياج، استجابةً لاسم فاتن، الذي أطلقه عليّ خليليَ الذي لا يعرف من أكون، بعد أن طلب منّي تعيين مقدار جمالي على مقياسٍ من 1 إلى 10، فقلتُ له إنّ مقياسًا من 10 درجاتٍ لا يكفي لوصف جمالي، وإنّ عليه أن يتعلّم الحساب على عدّاد اللانهاية ليستوعب الطريقة التي تتكشّف فيها لديّ مكامن أخرى من الجمال كلّما ظنّ المرء أنّه انتهى من الافتتان بي. وكنتُ بالطّبع أكذب، فأنا أبذل أمام المرآة، جهدًا يوميًّا يقارب عشر دقائق، أمارس فيها تمارين الهيت (HIIT) في المكياج، لأستطيع المنافسة في سباقات الدرجات الخمس المخصّصة للمبتدئات.
أعتقد أنّني مع ما أبذله من جهد، أتراوح بين الدرجتَين الرابعة والخامسة، لأتفوّق بذلك ضمن فئتي. ولو أنّني أتقنتُ تثبيت لآلئ الهايلايتر على المدمعَين، لانتقلتُ إلى فئةٍ أسمى من فئات الجمال. أمّا حين أترك شعري على سجيّته، ولا أُمكيج جفنيّ، فإنني أنحدر بسهولةٍ إلى الدرجة الثالثة، ولا سيّما إذا ما ضحكتُ من دون انتباهٍ إلى مقدار ما تعرّيه شفتي العليا من اللّثة، وهي تشمّرُ عن نفسها وترتفع بلا حسبان. حدثان أكّدا لي كم أصير قبيحةً عندما أضحك من القلب، أحدهما حين تطوّع طبيبُ تجميلٍ زرته برفقة صديقتي، فاقترحَ عليّ أن أحقن زوايا الشفة العلويّة بالبوتوكس لكي تثبت مكانها ولا ترتطم بأنفي حين أضحك، والآخر حين تبرّع طبيب أسنانٍ سلّمتُ عليه صدفةً بأن يجري لي جراحةً لقصّ جزءٍ من اللّثة التي لديّ منها ما يفيض عن الحاجة. والآن أصبحَ يلزمني فريقَ أطباءٍ من مختلف التخصّصات لكي أضحك بما يرضي الله، فهو جميلٌ يحبّ الجمال.
فشلتُ مرارًا في وضع هايلايتر العينَين، على الرغم من أنني بارعةٌ جدًّا في استخدام هايلايتر الجُمل والكلمات، حتّى أن لديّ مقلمةٌ مخصّصةٌ لأصابع الهايلاتير الزرقاء والفوشية والفسفورية والصفراء
لكنّ خليليَ السّرّي، الذي يصدّق بالجملة كلّ ما أراسله به من حقائق وترّهات، ويناقش معي تحليلاتي الحاذقة لكتبٍ قرأتها وأخرى لم أقرأها، ويسدي إليّ ما أطلبه من نصحٍ حول التصرّف إزاء مواقف اجتماعيةٍ معقّدةٍ لم يواجهني شيءٌ منها في الحياة، ظنّ أنّ فتاةً مثلي يجبُ أن يكون اسمها فاتن، فأردتُ أن أكون له منذ ذلك اليوم فاتن، هكذا، على الطريقة التقليدية، أن أضع مكياجًا كاملًا، أختتمهُ بنقطتَي هايلايتر، على مدمع العينَين، تتلألآن، مثل بقايا الثلج الذي يلتمع على قمم السرو تحت شمس الشتاء القريبة، وتورّطان من ينظر إليهما بفتنة الضوء، مثلما تورّطتُ أنا حين نظرتُ في عينيّ صبيّةٍ ساحرةٍ، تحدّثَت إليّ من خلف نقطتَي هايلايتر زرقاوَين في مدمع العين، فلم أقوَ إلّا على الهذيان.
فشلتُ مرارًا في وضع هايلايتر العينَين، على الرغم من أنني بارعةٌ جدًّا في استخدام هايلايتر الجُمل والكلمات، حتّى أن لديّ مقلمةٌ مخصّصةٌ لأصابع الهايلاتير الزرقاء والفوشية والفسفورية والصفراء. طوّرتُ لها شيفرة استخدامٍ خاصّة، حيثُ يلعب اختيار اللون، وترتيبه بين بقيّة الخطوط، ودرجة الخطّ، وسماكته، وموقعه على السّطر، دورًا خاصًّا في تحديد أهمّية المعنى. وهكذا أستطيع، من خلال الدأب على استخدام هذه الشيفرة، أن أبحِرَ سريعًا بين صفحات الكتب التي أقرؤها، لأستخرج ما أرغب به من الجمل المفتاحية، والأمثلة، والقصص، والأفكار الساحرة، والصياغات التي أريد أن أنسبها لنفسي، وتلك التي أنوي التأثّر بها فقط، وما أريد أن أرصّع به كلامي اليوميّ، لأبدو بين أصدقائي أكثر ذكاءً وتفوّقًا ممّا أنا عليه في حقيقة الموضوع من حماقةٍ وجهل، وغير ذلك من الأسباب التي تجعلنا نستخدم الهايلايتر، لإبراز المواضع التي نعتقد أنّها أكثر أهمّيّةً في النّص، تلك التي يحتشد فيها الزمن، ومنها يتدفّق المعنى. تمامًا كما هو الحال في مدمع العينَين. هناك، نضع قطرات الهايلايتر اللّمّاعة، حيثُ تتجمّد الأنظار، وتكرجُ العَبَرات طريّةً وساخنة، نحو الأنف والذقن والصدور.
أحبّ من اللغة المدامع والمباسم والمُقل، وأحبُّ حرف الميم في وسط الدموع ومطلعِ الأسماء وفي نهايات الكلام.
*************
تمنيّتُ لو ينهمر الدمعُ مرّةً من خلف طاقات الهايلايتر، فينسربُ خيطا بكاءٍ محمّلان بالبريق، وتكتمل الفتنة، ولكنّ البكاء مرتبةٌ مُقصاةٌ عن مقاييس الجمال، بما يشمل مقياس خليليَ السّرّي، الذي يخصّصه لتقييم ملامح الوجه، والقوام، والصوت، وطريقة الإمساك بالسيجارة وإشعالها وتدخينها، والخفّة، والطرافة، واختيارات القراءة، والاعتداد بالنفس، ومقدار المجون، وشبكة العلاقات الاجتماعية، والمنصب الوظيفي، والإنجازات الفكريّة، والأنشطة الرياضيّة، والتقشّف في إظهار الاهتمام بالآخرين، والاهتمام حقيقةً بالآخرين، والذكاء، والشّهرة، وحبّ اللغة العربيّة، وانبهار المُلحدين البرجوازي باللاهوت.
البكاء علنًا يوتّر الآخرين، يدفعهم لمهاجمتك بسيلٍ من المناديل وعبارات التعاطف، لإيقافك سريعًا عن البكاء. ولكنّ الدموع تعزُّ بعد الثلاثين
حينَ أراسله، أركّز على اختلاق قصصٍ تعزّز صورةً قريبةً من الشخصيّة التي تتكامل فيها معظم هذه المعايير. أذكرُ له مثلًا الكثير من المواقف التي تحصل معي في تدريبات رياضتَي الكيك بوكسنغ والجيجوتسو اللّتين لا أعرفُ عنهما شيئًا. ههههههههههه. أسمع بعض هذه القصص من صديقاتي، المقاتلات الحقيقيّات، اللواتي يلتحمن في نزالاتٍ جسديّةٍ مع رجالٍ يرفضون خارج الحلبة أن يسلّموا عليهنّ باليدّ، وأستوحي بعضها من الحلم الطويل المتواصل الذي يدعى الإنترنت. أخبره عن شعوري بالذّنب في حالاتٍ اضطررتُ فيها لاستخدام نفوذ معارفي الوهمييّن لتحطيم أشخاصٍ حاولوا الاحتيال عليّ مثلًا، أو التحرّش بي. نقلتُ له مرّةً مشهدًا كاملًا من فيلم، عن حادثةٍ وقعت لي في مصر، حيثُ ذهبتُ لقضاء أسبوعٍ في الصّعيد، ووجدتني في الساعة الثانيةِ ليلًا، أرتدي فوق ثيابي الداخليّة جلّابيّة سوداء، وأركب على ظهر شاحنةٍ مفتوحة، مع معزاةٍ مربوطةٍ من رجلها بحزام رقصٍ تخشخش فيه القطع المعدنيّة فوق المطبّات، وسبعة أشخاص آخرين لا أعرف منهم أحدًا، متّجهين جميعًا لقضاء الليلة في غُرزةٍ1 خاصّةٍ بالأجانب، مقابل 500 جنيه!
بالطّبع لا يوجد فيلمٌ كهذا، ولكنّني أكذب على الدّوام، وأتمكيج، لأثيرَ إعجابَ الجميع.
أمّا البكاء، ذلك الذي أنتظره وأتجهّز له كلّ يوم، من دون أن يأتي، فهو شأني السّرّي، الذي أدلّلُ وأجمّلُ به نفسي وفقًا لمعاييرها الخاصّة، وهي من الحالات النادرة التي يكون لي فيها نفس، ويكون لها معايير. البكاء علنًا يوتّر الآخرين، يدفعهم لمهاجمتك بسيلٍ من المناديل وعبارات التعاطف، لإيقافك سريعًا عن البكاء. ولكنّ الدموع تعزُّ بعد الثلاثين، وإن حدث أن جادكَ الغيثُ إذا الغيثُ همى، فعلى الآخرين ألّا يقطعوا عليه الطريق، إلّا إذا كان مزيّنًا بمساحيق التجميل التي لم يحِن وقت امّحائها بعد.
لم أحسن وضع لؤلؤتَي هايلايتر على مدمع العينَين، ولكنّني أنِزُّ هناك أحيانًا دمعتَين، أعني لؤلؤتَين حقيقيّتَين، من النّوع الذي يشحُّ بعد الثلاثين.
- 1إشارة إلى الغُرزة المصرية، حيث يجتمع الناس في مكان صغير لتدخين الحشيش.
إضافة تعليق جديد