من غزّة وسوريا إلى العراق واليمن: صحافيّاتُ الحروب يروينَ لنا

تواجه الصحفيات اللواتي تغطين الحروب مصاعب إضافية لكونهن فاعلات تكسِرن هيمنة الرجال على الشوارع والمساحات العامة، وتمتهنّ شغلاً كان حصرياً للرجال لعقود مضت. ورغم الموت اليومي والمخاطر التي تواجهنها في العمل، لا تُعفى الصحفيات حتى في ذورة الحرب من الالتزام بالضوابط الإجتماعية والقيود الأبوية الصارمة التي تترصد تحركاتهن ولباسهن وتُراقب ما تنتجنه بعين المُحاسب والرقيب. وبعد كل هذا، لا تؤخذ إنتاجات الصحفيات -في كثير من الأحيان- بالجديّة ذاتها التي يتم فيها التعامل مع إنتاجات زملائهن في العمل.

بين محاولات النجاة من الصواريخ التي لا تُفرّق بين جندر وآخر، وبين الأدوار الرعائية والقمع الأبوي المُخصص للنساء، تقاتل كل صحفية على جبهات متعددة. من غزّة في فلسطين والعراق وسوريا واليمن، تشاركنا صحفيات شهاداتهن عن هذه المعارك.


أطفالي أم أرضي؟ 

نور السويركي - صحافية من فلسطين

أنا صحافيةٌ فلسطينيةٌ أقيم في غزّة، وأنا أيضًا أمٌّ. وأن أكون صحافية في هذا المكان والزمان ليس بالأمر السهل، فالعمل دائمًا ما يكون تحت النار، وفي كل يومٍ تفصل بينك وبين الموت ثوانٍ معدودة. لستُ الوحيدة المحاطة بالمخاطر، فكلّ الناس معرّضون للأخطار، بمَن فيهم عائلتي وأصدقائي. 

وهذا الواقع يحمّلني أعباءً كثيرة؛ هموم المهنة والناس، وهمّ أطفالي وعائلتي، والاعتناء بهم وحمايتهم وتأمين طعامهم. زوجي صحافي أيضًا، ونحن نعمل معًا في الميدان، لكنّ معظم مسؤوليّات الأطفال تقع عليّ. 

أعيش طوال الوقت صراعًا بين أمومتي ومهنتي، ويشتدّ هذا الصراع مع اشتداد القصف واقترابه منّا أكثر  وارتفاع أعداد الضحايا؛ فهل أخرج من المنزل لأنقل حقيقةً قد لا يقدر كثيرون على نقلها أم أبقى مع أطفالي لأحميهم؟ هل أخرج وأنا أدرك أنها قد تكون المرّة الأخيرة التي أرى فيها أطفالي؟ لكني أعلم أن الأمان هو فكرةٌ منزوعةٌ من سياق حياتنا الحالية في غزّة. 

أنا الصحافية الوحيدة في فريقٍ يتألّف كلّه من الرجال. يحاول الفريق مساعدتي قدر الإمكان لتأمين كلّ احتياجاتي، ولكنها تبقى أكثر من قدرتهم على تلبيتها؛ بدءًا من أمورٍ قد نعتبرها "سخيفة" مثل التمدّد أثناء تغطية الأحداث في الميدان أو الذهاب إلى الحمام. يستطيع زملائي الرجال تلبية حاجاتهم بسهولةٍ وأريحيةٍ أكبر، إذ يمكنهم أن يضعوا فرشةً ووسادةً في أيّ مكان، أو أن يستلقوا في باصٍ ويأخذوا قسطًا من الراحة، لكنّها أمورٌ تصعب عليّ وعلى أيّ صحافيةٍ أخرى، مهما أكل التعب من أجسادنا. 

ويمكن أن تكون الأمور أسوأ بعد، مثل أن تأتي الدورة الشهرية في خلال العمل والحرب فيما المتاح هو بعض المسكّنات والمثابرة على العمل. وهذا ما حدث معي منذ أيام. أتت الدورة الشهرية، ولكن كانت لديّ واجباتي المهنية والوطنية. تناولتُ المسكّنات وأكملتُ عملي. تارةً أقف تحضيرًا للبثّ المباشر، وتارةً أخرى أنزل إلى معبر رفح. أقف طوال اليوم في الشمس والغبار وأعود إلى المنزل حيث لا توجد نقطة ماءٍ لأغتسل بها. نزحتُ ومعي بنطالَين وثلاثة قمصانٍ فقط. أغسل الأول وألبس الثاني عندما تُتاح لي المياه. أنا لستُ في بيتي لأتحكّم بمواردي ولباسي وأتعايش مع الواقع. لا شيء طبيعي. وأكثر من ذلك، أنا الآن نازحة. أنا نازحة للمرّة الأولى.

لا تكفي كلّ هذه المصاعب، هناك أيضًا صوت الصواريخ والقصف المتواصل. لكنّي أمسك نفسي في خلال البث المباشر. أجمّد نفسي لأقول ما لديّ من أخبارٍ ولأكتب، فأنا الآن أغطّي الأحداث بشكلٍ مرئي ومكتوبٍ أيضًا، والمكتوب له تحدّياته بسبب انقطاع الكهرباء وعدم القدرة على استخدام الحواسيب، وفوق ذلك انقطاع الاتصالات. أرسل ملاحظاتي في رسائل صوتيةٍ ويكتب زملائي المواد بدلًا مني، ثم يرسلون لي المادة بشكلها النهائي، كما فعل فريق «جيم». 

ولا تتوقف الصعاب هنا. تبرز حالات الفقد أيضًا. في هذه الحرب، فقدتُ ابن عمي وابنة خالي وأطفالها، وأقارب وأصدقاء وصديقاتٍ كثر، ما عدا المفقودين والمفقودات. لا أعرف متى ستخرج هذه المشاعر الإنسانية التي تغلي في داخلي إلى العلن. تصيبني أحيانًا حالات انهيارٍ وأنا أعمل بين الأنقاض وفي المستشفيات، فيما الشهداء والجرحى والثكالى في كل مكانٍ حولي. في خضم هذه المشاهد، أتذكّر كم من الوقت قد يستغرقني الوصول إلى أطفالي في حال تعرّض مبنانا للقصف. هل ألحق بهم وهم سالِمين أم مصابين…؟

 

الذكورية والأبوية كرصاص الحرب

آية منصور - صحافية من العراق

كانت الحرب العراقية اليد التي تسحبني إلى عالم الصحافة. هل أملك الجرأة لأنسى يومًا واحدًا من أيام القصف والمعارك ومداهمات قوّات الاحتلال ومحاولاتهم سرقة حتى حياتنا؟ كلّ تلك المشاهد راسخة في عقلي، أردتُ حفظها لكي أوثّق - في ما بعد - معاناةً قد لا يفهمها كثيرون إلّا حين نرويها بألسنتنا، نحن من عايشناها. 

لم تكن الصحافة سوى حلمًا بدأتُ العمل عليه مع بروز تنظيم «داعش». قبل ذلك بعامٍ واحد، أنهيتُ تخصّصي في كتابة التحقيقات والمشاكل المجتمعية، وبدأتُ التفكير جدّيًا بالانتقال الى المحافظات التي تواجه هذا التنظيم المتطرّف رفقة أيٍّ من الزملاء الذين كانوا يذهبون بشكلٍ دوري للتغطية. 

كنتُ متردّدةً قليلًا، لاسيّما أنّ محاولات بحثي عن صحافيةٍ عراقيةٍ واحدةٍ تمنحني الدعم النفسي على الجبهة لم تأتِ بأيّ نتيجة. للأمانة، لم أجد سوى مراسلتَين اثنتَين تعملان لقنواتٍ إخبارية. 

في البداية، طلبتُ الذهاب إلى الميدان، فأتاني الجواب الآتي: هناك عددٌ لا بأس به من الصحافيّين، فماذا ستضيفين هناك؟ للتخلّص من إجابةٍ مماثلةٍ في محاولاتي التالية، طرحتُ العمل على جوانب محدّدة. أخبرتُ المسؤول عني أنّني أفكّر بالكتابة عن النساء الحوامل في المناطق التي تتعرّض للقصف، وكذلك النساء اللواتي يحاولن الهرب من الموصل إلى محافظاتٍ أخرى تعيش الصراعات. أحبّ الفكرتَين، وسألني أن أطلب موافقة الجهة الإعلامية العليا. كان الرفض أول الحاضرين مرفقًا بجملة «استري علينا، وين عدنا وحدة تسوّي تغطية حرب». كانت عبارة «أين لدينا امرأةً تقوم بتغطية حرب» مزعجة للغاية. حاولتُ التغلّب عليها فعادَت المحاولات عليّ وحدي. 

كنتُ أراقب زملائي وهم يتوجّهون إلى الحرب وكأنهم متوجّهين إلى السوق، فيزيد حنقي. وكنتُ أستشيط غضبًا عندما يردّد أحدهم على مسمعي: «أتريدين المنافسة حتى في الجبهة؟ أتريدين البحث عن الدراما حتى وسط الخراب؟ اكتبي تقارير عن الشاي الأخضر». 

كان جلّ ما أردته أن أنقل القصص الخاصة بالنساء، وأن أروي الحرب من منظورهنّ.

اعتقدتُ في البداية أن الوصول إلى إحدى المدن التي تقاتل «داعش» سيكون أمرًا سهلًا. تمثّل العائق الأول بمبلغ 750 ألف دينارٍ (500 دولار أميركي) طلبه السائق لإيصالي. أما العائق الثاني، فكان رفض بعض الجهات التعاون معي لتيسير وصولي إلى العوائل والنساء الحوامل. هذه العوائق لم يختبرها زملائي الذكور، إذ كانوا يُنقَلون إلى أماكن التغطية مجّانًا، وتتعاون معهم الجهاتُ الرسمية بسلاسة. وكأنّ الحرب والميدان خُلقا لهم دوننا نحن النساء! 

استمرّ الوضع على حاله، واستمرّ إصراري على كسره إلى أن أبدى صديقٌ استعداده لمساعدتي. بدأتُ حينها رحلتي من أجل البحث عن نسائي. وبالفعل، وصلتُ إلى سيّدتَين هربتا من الموصل إلى مدنٍ أخرى، فوجدَتا نفسَيهما محاصرتَين فيها. إحداهما كانت حاملًا، وهربَت لحماية طفلتها من القصف ولتأمين حياةٍ أفضل لها. 

مع ذلك، لم تُنشر القصّتان. فقد اتُّهمت بالكذب وتلفيق القصص. لم يصدّق أحدٌ أنني وصلتُ إلى هناك وقابلتُ النساء اللواتي كنت أبحث عنهن. لم يصدّق أحدٌ على الرغم من اتصالي بالسيدتَين أمام «المديرين» لإثبات صدقي. استمرّ الأمر حتى عام 2017، حين تمكّنتُ من نشر إحدى القصّتَين في أحد المواقع الإلكترونية. أما القصّة الأخرى، فلا تزال غير مرويةٍ للعالم. 

 

مشاهِد متفرّقة خالية من أيّ انتصار

مايا أبيض - صحافية من سوريا

لم تكن مراوغة رصاصات القنّاصين، والقنابل، والحواجز، ونقاط التفتيش، أو الخشية من الاعتقال ومخاطر التعذيب أصعبَ ما عشتُه لكوني صحافيةً شابةً في سوريا، ولا حتى اضطراري للعيش متخفّيةً تحت أسماء مستعارة، والتشرّد من مكانٍ إلى آخر من دون أن أملك سريرًا ثابتًا، فيما تحوّل صندوق سيارتي إلى خزانةٍ متنقلة.

كانت هذه التحديات مُتعِبةً جسديًا، وعاطفيًا، ونفسيًا، واجتماعيًا، وقانونيًا وماليًا، لكنها لم تكن أحجيةً تعجيزية. في الواقع، المهمّة الأكثر تحديًا على الصعيد الذهني كانت محاولة حلّ معادلةٍ شبه مستحيلةٍ للحصول على تقييمٍ وتقديرٍ موضوعيّ وعادلٍ لعملي.

إليك لمحةً عن المشهد:

هناك أولئك الذين يريدون اختزالي في أن أكون ناشطةً أو مصوّرة فيديو رغبةً منهم/ن في الحصول على المواد والشهادات وجهات الاتصال التي أستطيع الوصول إليها، من دون منحي الاعتراف اللازم بما قدّمتُه، ولا الحقّ بالمساهمة التحريرية كصحافية. وهل هناك أسهل من استصغار صحافيةٍ محلّيةٍ شابة؟

ثم هناك أولئك الذين يشعرون بالتهديد بسبب مهاراتي أو خبرتي أو شبكة علاقاتي، ويجِدون في جندري «كعب أخيل» مثالي (حجة مُثلى) للانتقاص من مهنيّتي، ومن ثمّ إقصائي وتهميش عملي، بغضّ النظر عن حقيقة أننا حرفيًا في الخنادق نفسها، ونواجه على الجبهات ذاتها لنُسمع الأصوات نفسها للعالم.

على الضفة الأخرى أيضًا، هناك مَن يحاولون مغازلتي أو يسعون لإقناع أنفسهم أو الآخرين بأنهم «نسويّون» ويريدون دعمي لمجرّد كوني امرأة، من دون النظر إلى عملي أو تقييمه بموضوعية.

وأخيرًا، هناك من قدّم لي نصيحةً مهنيةً عمليةً قائلًا: «لن يمنح الرجالُ المرأةَ فرصةً عادلةً عندما تبحث عن عمل، لكنهم سيعملون لديها إذا ما كانت هي صاحبة العمل. استخدمي امتيازاتكِ الطبقية وتعليمكِ في الجامعات الأجنبية وعلاقاتكِ لمواجهة كراهيتهم للنساء».

لم يكن مفيدًا أن أشرح لهم أنني لا أريد اللعب بالأدوات الأبوية ذاتها. بالنسبة لكثيرٍ ممّن عرفني في ذلك الوقت، كنتُ أقاتل على جبهاتٍ عدّةٍ في الوقت نفسه، وكان عليّ أن أختار معاركي.

حينذاك، لم أحاول أن أشرح لهم أنني ببساطةٍ لم أكُن أسعى لتحقيق أيّ انتصار فحسب.

 

الحرب تقتلني كلّ يوم

هاجر محمد - صحافية من اليمن 

الحربُ تدمّر البلدان وتقتل الشعوب، ولكنها تمحي الأحلام أيضًا وتترك آثارًا قد تكون وطأتها أشدّ. الحربُ تقتل المرء يوميًا، وذلك أصعب ممّا لو قتَلته مرّةً واحدة. هكذا أختصر تجربتي المريرة مع الحرب التي عصفَت باليمن وما زالَت. 

عشتُ تجربةً مخيفة. كان منزلنا يقع في منطقة المواجهات المسلّحة. لزمنا المنزل في خلال إحدى المعارك لأكثر من ثلاثة أيامٍ لم نكن نسمع فيها إلّا دويّ القذائف والرصاص، وخرَجنا من هناك بمغامرة. هذا الأمر ترك أثرًا نفسيًّا حفر عميقًا في داخلي، وانعكس طوال السنوات الثلاث الماضية بقلّة إنتاجي الإعلامي، وخفوت شغفي بالعمل نتيجة الخوف والشعور القاسي بعدم الأمان. وقلّة إنتاجيتي تعني عمليًا تراجع مدخولي كصانعة محتوًى إعلامي أُنتج بالقطعة لأكثر من منصّة.

لم تتوقّف تداعيات الحرب على آثارها المباشرة تلك، إذ منعَتني أيضًا من تطوير نفسي مهنيًا ومن تحسين فرصي في الحياة. في الواقع، يُعدّ التنقّل في اليمن مقطّع الأوصال خطيرًا للغاية، لكَون المناطق مقسّمةً بين أطراف الصراع. وبالتالي، معرفة أيّ جهةٍ من الجهات المتحارِبة بأنّ الشخص المسافر/ة بين المقاطعات هو/هي صحافي/ة، قد يقوده/ا إلى الاستجواب، وقد يصل الأمر به/ا إلى الاحتجاز مثلما حدث مع بعض  الزميلات. ولهذا، كان تنقّلي للعمل في محافظاتٍ أخرى صعبًا للغاية، كما حُرمتُ من إمكانية حضور ورشٍ تأهيليةٍ وتدريبيةٍ في الخارج لأنّ الوصول إلى مطار عدن يتطلّب المرور بمحافظاتٍ عدّة.

لكنّ آثار الحرب على مهنتي وطموحي لم تنحصرِ بتلك الجوانب فحسب، فقد أثّر انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت بشكلٍ مباشرٍ على سير عملي، فأصبح إنجازي المواد الصحافية يتطلّب وقتًا وجهدًا مضاعفَين. وسبّب ذلك لي ضغطًا إضافيًا بفعل احتمال خسارتي عملي، وهو همٌّ مستمرٌّ يطال كلّ الإعلاميّات والإعلاميّين هنا. 

بالإضافة إلى كلّ ما سلَف، نواجه - نحن صحافيّات اليمن - صعوباتٍ جمّة. فقد زادت الحرب من التطرّف حولنا، وبات العمل الميداني يشكّل خطرًا علينا بسبب الرفض المجتمعي لوجودنا كنساءٍ في هذا المجال، وحصرِنا في أدوارٍ تقليدية. وغذّت المجموعات المتطرّفة هذا التوجّه، ممّا يصعّب أيضًا إمكانية وصولنا إلى المعلومات، ويعرقل بالتالي قدرتنا على إنتاج وتقديم تقارير موثوقةٍ وشاملة.