يوثّق خالد ع. رحلتَي نايومي وآريا مع العبور، واضطرارهما إلى طلب اللجوء في دول أوروبية. تختلف الظروف التي دفعَت كلًا منهما لمغادرة السعودية إلى الأبد، لكن تربط ما بينهما قصصُ النساء اللواتي هاجَرن من قبل، وتمنح الأمل لمَن سيأتين بعدهنّ.
النبذ المجتمعي
شعرَت آريا بالذعر عندما اعترفَت لنفسها للمرّة الأولى بأنها عابرة. كانت حينها في سنّ العشرين، وقد أكملَت للتّو سنتَها الجامعية الأولى عن بُعْد بسبب جائحة كورونا. لم ينسَب هذا الإدراك من شفتَيها على حين غرّة، بل أتى بعد سنواتٍ من التساؤلات عن جسدها وهويّتها. عرفَت أنها فتاة منذ بلوغها، لكنّها في البداية لم تسمح لهذا الإدراك بأن يتطوّر إلى أكثر من مجرّد تساؤلٍ أو احتمال، قبل أن تتصالح مع الفكرة وتعترف بها. وهذا ما غيّر كلّ حياتها وجعلها تدرك أن لا مكان لها في السعودية، ولا دعمًا ستناله فيها. إذا كانت محظوظةً بالحصول على مستقبل، فسيكون بالتأكيد خارج الظهران1 ، المدينة التي عرفَتها طوال حياتها.
تتشابه مخاوف آريا مع ما عاشَته نايومي يوميًا لأكثر من ثلاث سنوات. لطالما حنّت نايومي إلى حالةٍ لم تستطع وصفها أو تسميتها، لكنّها رأَتها مرّةً في إحدى حلقات مسلسل "طاش ما طاش" الوعظيّة بعنوان "التحوّل"، لمّا كانت في منزل أهلها في جدّة. كانت في سنّ الثانية عشرة آنذاك، أمّا ردّ فعل الأهل فكان تعنيف نايومي واتهام تلك المسلسلات بغسل الأدمغة. بعد 8 سنوات على تلك الحادثة، تذكّرَت نايومي تلك الطفلة التي كانَتها عندما قرأَت للمرّة الأولى على تويتر عن اليوم العالمي العابرين والعابرات، وغمرها الشعور نفسه الذي اعتراها عندما شاهدَت تلك الحلقة. كانت نايومي في مثل سنّ آريا حينما اعترفَت لنفسها ولأصدقائها المقرّبين/ات على تويتر بأنها عابرة.
العبور بلدًا وجسدًا
تقول آريا: "لحسن الحظ عادت الدراسة حضوريًا. كانت أولى خطواتي عندما وصلْت إلى جامعتي في الولايات المتحدة هي التواصل مع الأندية والمؤسّسات الطالبية التي تدعم العابرين والعابرات. تعرّفتُ إلى أشخاصّ آخرين مرّوا بالتجربة نفسها، ووفّروا لي الأمان الذي كنتُ أحتاجه". تدرس آريا في جامعةٍ في لوس أنجلوس بواسطة منحة أكاديمية سعودية. وبعد مضيّ الأسبوع الأول من سنتها الجامعية الثانية، بدأَت ببطءٍ وحذرٍ باستخدام مستحضراتٍ تجميلية، وارتداء ملابس استعارَتها أو أهداها إيّاها أصدقاؤها الجُدد الذين تعرّفَت إليهم في تلك الأندية. كان وجودها بعيدًا من الظهران، في مدينةٍ لا يعرفها فيها أحدٌ من أهلها، متنفسًّا لها لتكون الفتاة التي حلمَت بها، وبدأَت تفكّر بالعبور الجسمانيّ.
أمّا نايومي، فشرعَت تبحث عن خدمات الرعاية الصحِّية في جدّة ومدنٍ سعودية أخرى عبر سؤال من تعرفهم على الإنترنت والتواصل مع مختصّين في مجال الرعاية الصحّية. اكتشفَت أن عليها الحصول على موعدٍ مع طبيبٍ نفسي ليشخِّص حالتها كخطوةٍ أولى. تقول نايومي إنّ رحلة العبور الجسمانيّ في السعوديّة تبدأ "بعد أن تقابل الطبيب النفسي في جلساتٍ عدّة، ليقرِّر ما إذا كان الفرد يختبر التعاسة الجندرية، أو ما يُسمّى بالـ (gender dysphoria). قد يكون الحصول على تشخيصٍ طبّي أمرًا بسيطًا، لكن الصعوبة تكمن في طلب العلاج الهرموني بعد ذلك، لأنّ معظم الأطباء يطّلعون على التشخيص ويقرِّرون صرف مُضادات الاكتئاب، آملين في أن تعالج ما يصفونه بالمرض النفسي".
وعلى الرغم من بساطة الحصول على تشخيص، يبقى أمل العابرين والعابرات في السعودية معلّقًا بالمختصّ/ة النفسي/ة ومعتقداته/ا الخاصة. عدا عن أن العلاج الهرموني يُخصَّص عادةً للأشخاص الإنترسكس (ثنائي/ة الجنس)، إذ "يسهل طلب العلاج وصرفه لحالةٍ ظاهرها عضوي". أخذ أمل نايومي بالبقاء في جدَّة والحصول على الرعاية يتناقص يومًا بعد آخر. وظلّ احتمال أن تبدأ حياتها من جديدٍ بالطريقة التي تريدها رهينة اختلافاتٍ فرديةٍ بين المختصّين ونظامٍ صحّي لا يرى احتياجاتها الحقيقية.
هذا بالضبط ما يُرعب آريا من العودة إلى السعودية. فما أبقَته سرًّا لنفسها وأخفَته عن المقرّبين منها سوف ينكشف بعد أن تبدأ رحلتها مع العبور مستفيدةً من خدمات الرعاية الصحّية للطلاب والطالبات العابرات التي توفّرها جامعتُها بيسرٍ وسهولة. لذلك، قرَّرَت أن تزور الظهران مرةً أخيرةً بعد انقضاء الفصل الجامعي الأول لتودِّع مدينتها وأهلها.
تقول آريا إنّ الأمر "يشبه القنبلة الموقوتة. فما أخفيتُه عنهم كان على وشك الانكشاف في خلال بضعة أشهر، لأنني قرَّرتُ بعد أن أقضي الإجازة في الظهران، العودة إلى لوس أنجلوس لأبدأ العلاج الهرموني. اتخذتُ خطوةً كنتُ أعرف أنّني لن أستطيع العودة عنها".
رحلة اللجوء ومن ثمّ العبور
بعدما يئِسَت نايومي من غياب الرعاية الصحّية التي تحتاجها، أدركَت أن وداعها لجدّة قد اقترب. وتضاعف يأسها بعد أن فقدَت وظيفتها في بداية الجائحة واضطرّت للتخلّي عن شقّتها والعودة للسكن مع أهلها، بحيث عادَت إلى حلقة العنف التي كانت ضحيتها منذ الصغر. البعض من صديقاتها لاجئاتٌ في بريطانيا، والحديث معهنّ عن تجاربهنّ وعمّا دفعهنّ للجوء، ساعد نايومي كثيرًا. إنّ وجود هذه التجارب وتوثيقها على تويتر تحديدًا عرَّف نايومي إلى كلّ الخطوات التي سوف تقابلها في رحلتها، من لحظة وصولها إلى المطار حتى إجراء المقابلة الثانية مع الجمارك البريطانية التي تكون العامِل الفصل في قبولها لاجئةً أو اضطرارها للعودة إلى بلدها.
تقول نايومي "قرّرتُ المغادرة ما إن تفتح المطارات. وهذا بالفعل ما حصل. كنتُ أعرف أنه حال وصولي، سأخضع لمقابلتَين. يَطلُب المحقِّق أو المحقِّقة في المقابلة الأولى رؤوس أقلامٍ عن أسباب اللجوء، وفي المقابلة الثانية يُطلب من طالب/ة اللجوء مشاركة كلّ تفاصيل قصَّته/ا". تتابع نايومي: "ساعدَتني معرفتي بحقوقي كطالبة لجوء في الإجابة بثقة، وهي معلوماتٌ كنت حصلتُ عليها ممّن أعرفهنّ. على سبيل المثال، كانت المحقِّقة في المقابلة الثانية تسألني السؤال نفسه بطرقٍ مختلفة، وهو: كيف تعرفين أنك امرأة؟ لذلك سألتُها: كيف تعرفين أنتِ أنك امرأة؟ فقالت لي: أنا لديّ ثديان، فقلتُ لها: أنا أيضًا لدي ثديان".
بعد أن وصلَت نايومي إلى الفندق المُخصَّص لطالبي اللجوء في لندن في حزيران/يونيو 2021، حيث سكنَت لتسعة أشهر، بدأَت بحجز مواعيد مع أطباء ليساعدوها في بدء العلاج الهرموني. كان أول موعدٍ لها مع طبيبٍ عام سجّلها في عيادةٍ تختصّ بمسائل الهوية الجندرية "Gender Identity Clinic"، وهي المسؤولة عن تقديم الرعاية الصحّية للعابرين والعابرات. مع ذلك، تقول نايومي: "لم يحِن دوري بعد، وها نحن على شفير نهاية عام 2023. ما زلتُ أنتظر، وكذلك حال اللاجئين واللاجئات من السعودية وعُمان ودولٍ أخرى ممّن سجّلوا في العيادة نفسها. فكَّرتُ في طريقةٍ أخرى لبدء علاجي وهي الالتحاق بعيادةٍ خاصةٍ للصحّة الجنسية. تجري هذه العيادة تحليلَين كلّ ثلاثة أشهر: واحدٌ للكشف عن الالتهابات المنقولة جنسيًا وآخر لفحص نسَب الهرمونات. وربطتُ طبيبي العام بتلك العيادة لتبادل المعلومات عن حالتي، ما جعلَني أبدأ العلاج الهرموني مبكرًا في أيلول/سبتمبر 2021".
أما آريا، فكانت تفكِّر باللجوء بعد أن تبدأ العلاج الهرموني، لكنّها أرادَت أن تكمل دراستها أولًا في لوس أنجلوس، قبل أن تقدم على أيّ خطوةٍ قد تمنعها من التخرُّج. بعد أن عادَت من الظهران، اتصلَت آريا بوالدتها وأخبرتها أنّها عابرة. لم تتقبَّل والدتها الأمر. بدأَت بمجادلتها في كلِّ مكالمة، وحاولَت استخدام الأقارب والأصدقاء وسطاء لإقناع آريا بالعودة إلى الظهران. شعرَت آريا بالأمان لكونها في النصف الآخر من العالم، حيث لا يستطيع أحدٌ من أهلها أن يؤذيها، لاسيّما في ظلّ وجود قوانين تدعمها. استمرَّ هذا النزاع لمدَّة سنةٍ كاملة، حتى أدركَت آريا أنّ ابتعادها عن أهلها لم يحمِها منهم. تقول آريا: "أبلَغ أهلي القنصلية السعودية في لوس أنجلوس بأنني مفقودة. استيقظتُ يومًا ووجدتُ أحد موظَّفي القنصلية على عتبة بيتي. لم تتوقَّف التهديدات عند هذا البلاغ، بل اشتكوا عليَّ لدى الملحقية الثقافية السعودية المسؤولة عن منحتي، ما تسبَّب بحرماني منها".
شعرَت آريا حينها بأنَّ تأجيل اللجوء لن ينفعها، لاسيّما بعد أن خسرَت المنحة التي كانت تعتمد عليها لتغطية مصاريفها. على إثر ذلك، اضطرّت لترك جامعتها قبل سنةٍ واحدةٍ فقط من التخرَّج، وبدأَت بالبحث عن طرقٍ لطلب اللجوء، كما فعلَت نايومي. وجدَت آريا أنّ طلب اللجوء يحتِّم عليها أن تكون داخل أراضي الدولة التي تطلب اللجوء فيها. لذلك، طلبَت اللجوء في الولايات المتّحدة حيث تقيم. استغرقَت العملية شهورًا عدّةً من دون إحراز أيّ تقدّمٍ في ملفّها؛ فمعظم الحالات تتطلَّب سنواتٍ عدّة وتحتاج إلى محامين لمتابعة القضية. لكنَّ آريا لم تكن تملك المال الكافي لتدفع حتى إيجار شقَّة! عندها، توجّهَت لطلب اللجوء في دولةٍ أوروبيةٍ قد توفِّر لها دعمًا أفضل لناحية السكن والرعاية الصحّية والمنافع الأخرى.
سمعَت آريا عن تعقيد الحصول على علاجٍ هرموني في بريطانيا أو استكماله، لذلك قرَّرَت طلب اللجوء في ألمانيا باعتبارها بلدًا يتمتّع بمؤشِّراتٍ عاليةٍ للرعاية الصحَّية المُخصَّصة للعابرين والعابرات، بالإضافة إلى وجود قوانين حامية للحقوق فيها. حصلَت آريا على تأشيرةٍ سياحية، ووصلَت إلى برلين في بداية تموز/يوليو 2023. لم تكن على معرفةٍ بالخطوات اللازمة، لذلك استوقفَت شرطيًا في الشارع وسألَته عنها. تقول آريا: "أعطاني عنوان ما يُسمَّى بالـ Initial Reception Center for Refugees، أو مركز الاستقبال الأوّلي للاجئين. فوجئتُ بأنَّهم ساعدوني في كلّ خطوة، من سؤالي عن كيفيَّة طلبي اللجوء إلى منحي غرفة للسكن. كنتُ خائفةً جدًّا. لم أكن أعرف أحدًا، وكانت اللغة والبلد جديدَين عليّ تمامًا. لكن كلّ من قابلَني كان لطيفًا معي وطمأنَني أنّ حالتي خاصَّة وأنّني سوف ألقى الرعاية التي أحتاج".
كانت المقابلة الأولى التي أجرَتها آريا في المركز مشابهةً لمقابلة نايومي، حيث سألها المُحقِّق بشكلٍ عامٍ عن السبب الذي دفعها إلى اللجوء. وبعد أن سكنَت في المركز لمدَّة أسبوع، نُقلَت إلى ملجأٍ خاصٍّ باللاجئين من مجتمع الميم-عين، وما زالَت هناك حتّى الآن في انتظار مقابلتها الثانية مع قضاةٍ ومحقِّقين سوف يقرِّرون إما قبول طلبها للجوء أو رفضه. كان الحصول على العلاج الهرموني سهلًا لآريا لأنّها كانت بدأَته في لوس أنجلوس، فكان في حوزتها تقريرٌ طبِّي يسهّل عليها استكمال العلاج في ألمانيا. لكن في الحالات الأخرى، على اللاجئ/ة العابر/ة في ألمانيا الانتظار في الطابور نفسه الذي يعانيه العابرون والعابرات في بريطانيا.
مقاومة الخوف والتمسّك بأملٍ ما
بدأَت نايومي وآريا حياةً جديدةً في مجتمعَين وبلدَين مختلفَين. كان يعتريهما الخوف ممّا كانتا تسمعانه عن معاملة الدول الأوروبية للاجئين العرب، سواءً لأسبابٍ سياسيةٍ أو اجتماعية. لكن وفقًا لهما، ما تعرّضتا له من أذًى منذ وصولهما إلى لندن وبرلين كان على يد عربٍ آخرين. كانت أعيُن اللاجئين العرب في المركز والفندق تلاحقهما في كلِّ مكان. لم يتوقّف الأمر عند النظرات، بل تذكر نايومي: "بدأَت الهوموفوبيا والترانسفوبيا عندما علَّقتُ علَم العابرين والعابرات على باب شقَّتي في شهر الفخر. كان ثمّة رجلٌ عربيّ يسكن في الشقَّة المجاورة لي، فأزال العلَم عن بابي". وتذكر آريا أيضًا أنها كلّما تجوَّلَت في شوارع برلين، ولاسيّما تلك التي تكثر فيها المحالّ العربية، يسألها الناس عن سبب "تحوُّلها" ومن أين أتَت؛ وعندما تجيبهم بأنَّها سعودية، يجيبون بأنها ثريةٌ ولا تستحقّ أن تكون لاجئةً هنا.
قضَت نايومي حتى اليوم أكثر من سنتَين وأربعة أشهرٍ في لندن، بينما تدخل آريا شهرها الثاني في برلين. وعلى الرغم من صعوبة الغربة، تفضّل المرأتان الحرية والراحة والأمان في بلدان اللجوء، وهي أحاسيس افتقدَتاها في بلدهما منذ الصّغر. تقول نايومي: "شعرتُ بالغربة والوحدة مذ كنتُ طفلة. أنا غريبةٌ عن ذلك المكان. لم يُشعرني أهلي ولا مجتمعي بالأمان، لذلك عندما وصلتُ إلى لندن تأقلمتُ بسرعةٍ وفي غضون أسبوعٍ واحد". لنايومي أكثر من تسعة آلاف متابع/ة على تويتر، كما أنشأَت مجموعةً على إحدى تطبيقات المحادثة انضمّ إليها نحو خمسين عابرًا وعابرةً من دولٍ عربيةٍ مختلفةٍ يقيمون في بريطانيا. تستخدم نايومي هذه المنصّات لمشاركة تجربتها مع اللجوء ومساعدة كلّ من لديه/ا أسئلةً عن رحلتها.
تحلم آريا باستكمال دراستها مُجدّدًا، لاسيّما أنّ الرسوم الجامعية ستنخفض بعد أن تُجري مقابلتها الثانية. كان الأمل مصدر الطاقة الوحيد لها منذ أن اعترفَت لنفسها بأنها عابرة، لكنّ تلك القصص التي قرأَتها على تويتر، وما سمِعته عن أشخاصٍ يتركون كلَّ ما يألفونه بهدف عيش الحياة التي يتمنّونها، كانت الضوء الذي اتّبعَته على امتداد رحلتها حتى اليوم.
- 1 مدينة في المنطقة الشرقية في السعودية.
إضافة تعليق جديد