رحلتي من الدّين إلى الدّين: استعادة الكويريّة من براثن الذكورية

لا أعرف بالضبط العمر الذي توقّفتُ فيه عن توسّل الله ليخلّصني من ميولي الكويرية، أو الاستغفار بعد كلّ مرّةٍ أشاهد فيها مقطعًا إباحيًا أو يردُ في بالي خاطرٌ جنسي. لكني أذكر جيّدًا بدايات ابتعادي التدرّجي عن الدين وتوقّفي عن المساومة معه على أحقّية وجودي في حدّ ذاته. بدا لي حينها أن الله لا يريدني «طبيعيًا» مثل الصغار الآخرين الغيريّين، وفي الوقت نفسه لم أجد في الدين ما يقبلني ويشرح حالتي كمراهقٍ من دون شتمي أو نعتي بالمرض. لذا، كان الترك هو موقفي تجاه عالم الغيب. 

لم يكن تركًا سهلًا ولا حاسمًا. بدأ ببحثٍ محمومٍ عن شيخٍ لا يتقزّز من الكويرية أو يتعامل بفوقيةٍ معنا، ثمّ انتقل إلى التمعّن في النصوص الدينية وتفسيراتها، ومنها إلى الديانات القديمة عند أسلاف الليبيّين قبل صعود الديانات الإبراهيمية. كنتُ كلّما تعمّقتُ في الدين ابتعدتُ بشكلٍ لاشعوري - ومن ثم بقرارٍ واعٍ - عن الالتزام بأحكامه. 

لا أنكر بأن ذلك أعطاني قدرًا كبيرًا من الحرّية لأعيش تجارب الجنس والعلاقات العاطفية من دون مناقشة هويتي الجندرية والجنسية، ومن دون خوفٍ من لعنةٍ تهبط على رأسي من السماء.  كان الأمر ثوريًا.

استطعتُ اكتشاف ما توصّلَت إليه الأبحاث في علم النفس وفرضيّات علم التطوّر والبيولوجيا عن المثلية الجنسية، كما تمكّنتُ من متابعة فيديوهاتٍ لأشخاصٍ كوير يروون تجاربهم/ن وما يعانونه من اضطهاد، فبكيتُ معهم وسُررت في الوقت نفسه لوجود بشرٍ مثلي في بقاع أخرى من العالم. 

هكذا تطوّرَت هويّتي الكويرية عبر السنوات، مدعومةً بدلائل علميةٍ وأخرى منطقيةٍ وحقوقيةٍ بمعزلٍ عن أيّ طرحٍ ديني. وبات حديثنا، أنا وبعض أصدقائي، عن الكويرية والدين إمّا هزليًا أو شاكيًا من هذا الجدار الدوغمائي. اعتبرتُ أن محاولات الجمع بين الكويرية والتديّن هي مبادراتٌ جيّدةٌ إنما ضعيفة أمام الرفض الذي يلوِّح به معظم المتديّنين. مع ذلك، لم تكن القطيعة مع الدين تامة. بقيَت صلةٌ روحيةٌ هشّة، ثمّ استقرَّت لتكون مجرّد صلةٍ تراثيةٍ وجزءًا من ماضٍ أتعامل مع نتائجه على الصعيدَين الشخصي والعام. 

استمرّ ذلك لفترةٍ طويلة، قبل أن أصبح متدينًا مرّةً أخرى. هذه المرة، كوّنتُ علاقةً صحّيةً مع الدين في سياق رحلتي لفهم ذاتي في بلاد الاغتراب. تلك الرحلة التي وصفَها الفيلسوف والروائي إبراهيم الكوني بالفرار إلى الميتافيزيقا1 لمواجهة وفهم الجوانب الأكثر حساسيةً وتعقيدًا في أنفسنا.

اكتشفتُ منذ بداية هذه المواجهة أن الدين ليس مُلكًا لأحد. ومهما كانت علاقتي به سيّئة، فمرجع ذلك - في الأغلب - هم الناس قبل أن تكون المشكلة في النص عينه. فالدين، كما يقول دوركايم وعلماء اجتماعٍ آخرون، هو ظاهرةٌ اجتماعية2، بمعنى أنه لا يوجد دينٌ من دون مجتمع. 

والدين في اللغة العربية هو العادة. وبالتالي، تفسير النص الديني واتّباعه يرتبطان مباشرةً بعادات الأفراد المعنيّين. وبما أن قادة الديانات - الإبراهيمية أقلّه - والقائمون بأمرها، هم في معظمهم رجال، فلطالما نظروا إلى الدين من وجهات نظرٍ شخصيةٍ وذكورية. من هنا، من الطبيعي أن يختلف التعامل مع ما هو «حرام» باختلاف جندر الأفراد وجنسانيّاتهم/ن. 

أدركتُ في بحثي الجديد أن الفقه الإسلامي - أقلّه في المذاهب السنّية التي اطّلعتُ عليها - تعامل مع المجموعات الكويرية بوصفها فئاتٍ هامشية، ودرسَها من حيث علاقتها بالجنس الغيريّ باعتباره المركز السليم للأفعال والسلوكيات الجنسية. ولم يكن التناول الفقهي الكلاسيكي سلبيًا أو مُدينًا للفئات الكويرية بالضرورة، بيد أنه كان مقيّدًا بتحيّزه الجندري الغيري. على سبيل المثال، لم يعرف العلماء المسلمون سوى القليل جدًا عن جنسانية النساء الكويريات في العصور الوسطى، ومن هذه المعرفة المحدودة جاء وصف "السحاق"، الذي يعني دعك الفرجَين بين امرأتَين طلبًا للذّة، فحرَّمه؛ فيما فات الشيوخ إمكانية الإيلاج بين النساء، لظنّهم أن فعل الإيلاج يتطلّب وجود ذكر3، فعاشت النساء الكويريات وسط البيئة الإسلامية في عتمةٍ نتيجة هذا المنظور الذكوري. 

ينسحب هذا على جميع فئات الكوير التي يهملها الشرع. على سبيل المثال، أذكر أنني انتبهتُ في المصحف لكلمة «حَصور» التي استخدُمت لوصف النبي يحيى، وهي تعني في اللغة العربية مَن لا يرغب في الجنس، أي الشخص الذي تنعدم لديه الرغبة الجنسية من دون وجود موانع صحية أو جسدية (asexual).

أيضًا، لا يجد المجتمع حرجًا في وصف الأفراد الكوير بـ«المشكل»، وهي الصفة التي يطلقها علماءُ الدين على الأشخاص العابرين والعابرات جندريًا وثنائيّي/ات الجنس (Intersex). في الواقع، يخصّص الفقه مساحةً وازنةً للحديث عن «المشكل» و«المخنثين» و«أولي الإربة»، كما جاء ذكرهم/ن في الآية 31 من سورة النور. وتشير كل هذه التسميات إلى اعترافٍ فعلي وبالغ القِدَم بالفئات الكويرية. وفي حين يتعامل الدين مع هذه الفئات بفتور، فإنه لا يحرّمها - وهذا أمرٌ لافتٌ للنظر.

مع ذلك، قلّما يتمّ تداول هذه المعلومات على نطاقٍ واسعٍ أو في الإعلام، ما يُبقيها محجوبةً ولا تُستخدم إلّا في حالاتٍ مُحدّدةٍ لإباحة «التدخل الجراحي»4 لدى مَن يسعى لتغيير الجنس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الاجتهاد يقتصر على الرجال الكويريّين أو مَن يُعتبَرون مولودين رجالًا، فيما تسقط الهويات الجندرية الأخرى خارج دائرة الاهتمام. ويمثّل هذا دليلًا آخر على غلبة النظرة الذكورية على الدين بحكم العادات الاجتماعية السائدة. 

شكّل هذا التعامل الفقهي مع الكوير جزءًا من هويّتي حتّى قبل أن أدركه، لكون البيئات الاجتماعية المُسلمة التي يتربّى فيها الأشخاص الكوير مبنيةً إلى حدٍّ كبيرٍ على هذه النظرة التشريعية الكلاسيكية إلى الجنسانية، ما يجبرنا على التعامل مع موروثاتها، فيصبح هذا التحيّز جزءًا من حياتنا.

هذه النظرة هي من بين العوامل التي تميّز الكويرية في البيئات الإسلامية عن الكويرية في البيئات الأورو-أميركية، ولو أن كِلا النمطين يلتقيان في مسائل جذريةٍ أخرى مثل الحقوق. بمعنى - يتبنى رجال الدين ومعهم مجتمعاتنا أحيانًا - الخطابَ الغربي للكويرية والمُتمحور حول راية قوس القزح والكرنفال السنوي (برايد أو شهر الفخر) والزواج المثلي، وهي معظمها مطالب حقوقية، ولكنها لا ترتبط دائمًا بسياق الواقع الكويري في بلداننا المُعترف به في الدين منذ قرون. وهذا ما من شأنه دعم شرعية وجودنا وداخل مجتمعاتنا، وتعزيز سعينا لتأمين حياةٍ صحّيةٍ نتصالح فيها مع أبعاد هوياتنا الكويرية المميزة.

  • 1. إبراهيم الكوني، ديوان البر والبحر، منشورات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام، 2007، الطبعة الثانية، ص. 206.
  • 2. Mahir A, Aziz, Saleem P, Elias, Emil Durkheim’s view on the truth about the religion as an expression of social reality: a sociological analysis, Journal of Raparin, Vol 5, No 15, Dec 2018.
  • 3. علي جمعة، تغيير الجنس لعلاج اضطراب الهوية الجنسية، 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، تغيير الجنس لعلاج اضطراب الهوية الجنسية.
  • 4. Samar Habib, Female homosexuality in the middle east: Histories and representations, 2007, 1st edition, Routledge Research in Gender and Society, P18.