الإكراه الإنجابي: «كيف ستحملين وأنت هنا وهو هناك؟ هَتحملي باللاسلكي؟»

07/02/2024
1196 كلمة

حين أقدمَت ميّ (30 عامًا) على الزواج للمرّة الثانية بعد تجربةٍ أولى لم تسفر عن أولاد، اتفقَت مع شريك حياتها الجديد الذي سافَرَت معه خارج مصر، على تأجيل الإنجاب لثلاثة أعوام، ريثما يتعرّفا إلى طباع بعضهما البعض ويكتشفا مدى توافقهما، وإلى حين استقرار حياتها المهنية في البلد الجديد. لكن ما إن مرّت ستة أشهرٍ على زواجهما، وبمجرّد سفرهما إلى مصر في إجازة، حتى بدأَت أسرته بالتدخّل في حياتهما الحميمة والإلحاح عليهما لينجبا طفلًا. ونظرًا لضعف شخصية شريكها أمام أهله، أجبرها على التوقّف عن تناول حبوب منع الحمل.

بدأَت أسرة الزوج تطرح أسئلةً وقحةً على حدّ قول ميّ، مثل «هي جَت لها الدورة، ولّا لأ؟»، «نمتوا مع بعض ولّا لأ؟!». تحكي ميّ كيف أجبرها زوجها على زيارة المستشفى لإجراء فحوصاتٍ في خلال ذروة انتشار جائحة كوفيد-19، تحت وطأة التهديد، متّهمًا إياها بمحاولة إخفاء عقمها؛ وهو ما نفَته ميّ، لكونها خضعَت لفحوصاتٍ وتحاليل وقت زواجها الأول تؤكّد قدرتها البيولوجية على الإنجاب.

كانت المفاجأة في المستشفى، حين اكتشف كلاهما أنّ ميّ حامل، لكن شريكها هو مَن يعاني ارتفاعًا في نسبة تشوّه الحيوانات المنوية، ما قد يؤدي إلى الإجهاض. وهذا بالفعل ما حدث لاحقًا مع ميّ. مع ذلك، اتهمها شريكها بالإهمال والتسبّب بإجهاض نفسها، وفي الوقت نفسه أخفى عنها أن الطبيب أخبره أنه لن يُنجب من دون حقنٍ مجهري. حملَت ميّ مرّةً ثانيةً ثمّ أجهضَت بسبب المشكلة نفسها التي يعانيها شريكها. عندها، حاول إجبارها على الخضوع لعملية الحقن المجهري مُهدّدًا بتطليقها. رفضَت ميّ استمرار تعرّضها «للإكراه الإنجابي»، واختارَت الطلاق.

ما هو الإكراه الإنجابي؟ 

يُعرّف الإكراه الإنجابي بأنه تهديدٌ أو عنفٌ يمارس ضدّ الصحّة الإنجابية للمرأة أو قرارها الجنسي، عن طريق مجموعة سلوكياتٍ تضغط عليها أو تجبرها على بدء الحمل، أو الحفاظ عليه أو إنهائه. وبذلك، يُعدّ الإكراه الإنجابي أحد أشكال العنف الحميم، إذ عادةً ما يفرض الشريك سيطرةً قسريةً على شريكته بما يحرمها من حقوقها كإنسانة. وهذا السلوك يحافظ على القوّة الذكورية وسيطرتها وهيمنتها ضمن العلاقة الزوجية من خلال فرض الحمل غير المرغوب فيه أو العكس. 

يتوسّل الإكراه الإنجابي آلياتٍ عدّة مثل إجبار المرأة على الحمل فى وقتٍ معيّنٍ سواء بالطرق الطبيعية أو بمساعدةٍ طبية، من دون الأخذ فى الاعتبار حالتها الصحّية أو النفسية، أو عدم رغبتها في إنجاب الأطفال. كما يشمل الضغط على المرأة حديثة الزواج من أجل تسريع الحمل وإجبارها على تناول المنشّطات بعد أيامٍ من الزفاف. وينطبق هذا أيضًا على المرأة المتزوّجة من رجلٍ مغترب، إذ تضطر أحيانًا لتناول المنشّطات في فترات وجوده في البلد برفقتها من أجل زيادة احتمالية حدوث حمل. ويشمل كذلك إلزام المرأة بالحمل والإنجاب تلبيةً لرغبة الرجل فى استمرار نسله من دون التفكير فى ظروفه المادية وإمكانية تربية الأولاد، أو لرغبته الملحّة في إنجاب ذكرَين على الأقل، فتستمرّ الزوجة بالحمل والإنجاب إلى أن "تنجح" في المهمّة. كذلك قد تُجبر المرأة على فطام رضيعها مبكرًا ليحدث حملٌ جديدٌ بسرعة. أيضًا، يُعدّ الحقن المجهري أحد أشكال الإكراه الإنجابي متى أُلزمت به المرأة. وبالفعل، تتعرّض كثيراتٌ لضغوطٍ نفسيةٍ من أزواجهنّ وصولًا إلى تهديدهنّ بالطلاق في حال فشل العملية، بحسب ما توضح الطبيبة ماريا أرميا حلمي، الحاصلة على ماجستير في أمراض النساء والتوليد وتأخّر الإنجاب، من قصر العيني بجامعة القاهرة.

إجبار الشريكة على تناول المنشّطات 

حالة ميّ وتعرّضها للإكراه الإنجابي ليسَت استثناء، بل تنسحب على كثيراتٍ من النساء في مصر. هذه مثلًا حال رنا، الموظّفة في القطاع الحكومي، التي تزوّجَت قبل ثلاثة أعوام ثم حملت بتوأمٍ مشوّهٍ وخضعَت للإجهاض. لم تكد تمضي أشهرٌ قليلةٌ حتى مرّ شريكها بضائقةٍ مالية، وتراكمَت عليه الديون، ما دفعه للهجرة إلى إحدى الدول المنتجة للنفط. بعد هجرة زوجها، بدأَت رنا تتعرّض لضغوطٍ وإلحاحٍ شديدَين من والدته لإجبارها على اللّحاق به في الخارج ومحاولة الحمل منه. 

تقول رنا إنّ والدة زوجها كانت تكرّر على مسمعها العبارة التالية: «كيف ستحملين وأنت هنا وهو هناك؟ هتحملي باللاسلكي؟». وبعد ضغوطٍ كثيرةٍ وتزايد الخلافات الزوجية والأسرية، اضطرّت رنا للحصول على إجازةٍ من دون راتبٍ لمدّة عامٍ والسفر إلى شريكها الذي أجبرها على تناول منشّطات التبويض كي يحدث حملٌ جديد، رافضًا في الوقت نفسه أن يخضع هو لفحوصاتٍ طبية. ومع قرب انتهاء الإجازة وع.م حصول حمل، أصرّت رنا التي تأكّدَت من سلامة تحاليلها وفحوصاتها، على أن يقوم شريكها بالأمر نفسه، لتكتشف في النهاية أن لديه نقصٌ شديدٌ في عدد الحيوانات المنوية.

وتؤكد الدكتورة ماريا إرميا حلمي أن ثمّة ثقافة مؤذية وسامّة انتشرَت في مصر تنمّ عن ذكوريةٍ فاقعة، تقوم على إجبار النساء على الإفراط فى استخدام منشّطات التبويض من دون اللجوء إلى طبيبٍ بحجّة الظروف المادية، ما يسبّب العديد من الأضرار الجانبية. وحتّى مَن يستشيرون الطبيبة، يتعجّلون ويطلبون إعطاء زوجاتهم جرعةً عاليةً من المنشّطات، في حين يغضب الزوج وينزعج إذا ما طُلِب منه الخضوع لكشفٍ طبّي عند طبيب أمراض الذكورة أو إجراء تحليلٍ ما.

وتقول حلمي: «مرّت لديّ حالاتُ نساءٍ لا تسمح لهنّ أوضاعهنّ الصحية وإصابتهنّ بأمراضٍ مزمنةٍ بالحمل مرّةً أخرى… لكن ضغط الزوج غالبًا ما يدفع بالمرأة للحمل، وهناك حالةٌ توفّاها الله في أثناء الولادة». وتضيف الطبيبة النسائية أن كثيرًا من الأزواج يمنعون زوجاتهم من استخدام وسائل منع الحمل بحجّة أنها تسبّب العقم وبزعم أنها "حرام"، رغم أن دار الإفتاء المصرية أجازت استخدامها للزوجَين. وثمة عرفٌ لدى بعض العائلات في صعيد مصر يقضي بأنّ على السيدة أن تنجب مثل عدد مرّات إنجاب حماتها وإلا تكون «كنّةً غير مطيعة».

عنفٌ يُمارس على أجساد النساء

بحسب تقريرٍ أصدره صندوق الأمم المتّحدة للسكان، فإنّ حوالي 24% من النساء والفتيات في العالم غير قادراتٍ على قول «لا لممارسة الجنس»، في حين أن 11% منهن غير قادراتٍ على اتخاذ قراراتٍ بشأن استخدام وسائل منع الحمل. 

ترى نهى سيد، محامية مصرية والمديرة التنفيذية لـ«مبادرة صوت لدعم حقوق المرأة»، أن الإنجاب قرارٌ يفترض أن ينبع من دوافع ورغبةٍ مشتركة، لا تلبيةً لطلب أحد الشريكَين فقط، وإلا فإنّه يستحيل تعدّيًا على حق الاختيار الكامل وحرية الجسد، ويغدو بمثابة عنفٍ يُمارس على النساء وأجسادهن. وتشير سيد إلى دور المجتمع في ترسيخ فكرة الإنجاب القسري بغطاءٍ ديني، إذ فور عزوف النساء عن ممارسة الجنس مع أزواجهم أو شروعهنّ في استخدام وسائل منع الحمل، يُتّهمن بمعصية الله لعدم طاعة الزوج. إلى ذلك، يترتّب على الإنجاب القسري المتكرّر العديد من المخاطر الصحّية، كتعريض الأم لاحتمال تسمّم الحمل الذي يؤدي بدوره إلى الإجهاض، وكذلك إمكانية الإصابة بسكّر الحمل وفقر الدم وهشاشة العظام، بحسب سيد. 

من ناحيتها، تشير استشارية حقوق المرأة وقضايا النوع الاجتماعي، لمياء لطفي، إلى أن بعض الأزواج يتلاعبون بوسائل منع الحمل كي يجبروا شريكاتهم على الحمل قسرًا، كأن يقوم الرجل بثَقب الواقي الذكري، أو ممارسة الضغط النفسي على زوجته وتهديدها بالطلاق أو الزواج بأخرى لدفعها إلى الإنجاب المتكرّر. كل ذلك يعرّض صحة النساء وحياتهن للخطر، ويزيد من ثقل الأعباء الجسدية والمادية والنفسية الملقاة عليهن. وتضيف لطفي أن ثمة بناتٌ يتعرّضن للإجبار من أهلهنّ على الزواج بغرض الإنجاب قبل بلوغهنّ سنّ الأربعين أو حتى الثلاثين.

في المقابل، لا يحمي القانونُ المصري النساءَ من الإكراه الإنجابي ويجرّم الإجهاض. وتقول هبة عادل، المحامية في مؤسسة «مبادرة المحاميات المصريات لحقوق المرأة»، إن الغالبية العظمى من حالات الإكراه الإنجابي تفتقر لوجود برهانٍ أو دليلٍ ملموسٍ يُثبت حدوثها. وبالتالي، لا يوجد في مصر قانونٌ يحمي الزوجات من التعرّض للإنجاب القسري. وفي الوقت نفسه، يستطيع الأزواج بحسب القانون المصري مقاضاة زوجاتهنّ في حال تمكّنوا من إثبات تعمّدهنّ إجهاض الحمل، لاسيّما أن الإجهاض لا يزال مُجرّمًا قانونًا، وهناك ضوابط محدّدة للخضوع للإجهاض قبل الشهر الرابع من الحمل، وتستلزم العملية إجراءاتٍ قانونيةً محدّدة.

إنّ الإكراه الإنجابي الناجم عن تجريم الإجهاض الاختياري وتغييب ثقافة استخدام موانع الحمل الطارئة، ليس إلا انتهاكًا لحقّ النساء والفتيات في امتلاك أجسادهنّ وحرية التصرّف بها. وهذا الانتهاك يحرمهنّ من القدرة على اختيار الإنجاب، أو عدمه، أو تنظيم فترات الحمل حفاظًا على صحّتهن الجسدية والنفسية والإنجابية، وكذلك على حيواتهنّ المهنية والدراسية والاجتماعية. ويُثبت هذا مرةً جديدةً تغلغل الثقافة الذكورية واستمرار سيطرتها على حيوات النساء، بما في ذلك جوانبها الأكثر حميمية.