*مي (29 عامًا) لاجئة فلسطينية وأم لطفلين، تعيش في مخيم شاتيلا في بيروت. انقطعت عن الدراسة في سن مبكرة بسبب محدودية فرص العمل المتاحة للاجئات الفلسطينيات في لبنان، والضغوط المجتمعية التي ترى أن الزواج بالنسبة للنساء أهم من التعليم.
تخبرنا "تركت المدرسة وتزوّجت في السادسة عشر، وتعرّضت للتعنيف من زوجي. وزاد هذا التعنيف أثناء فترة حملي بعد أن علمنا نوع المولود. لم يكن يرغب في إنجاب طفلة، فتطلقت منه بعد الولادة وبقيت البنت معي لأنه لم يردها".
بعد خمسة أشهر، تزوّجت مي مجددًا هربًا من وصمة "مطلّقة"، خاصة أن عودتها إلى منزل أهلها قد ترافقت بتعرضها للتعنيف من قبل والدها. تقول مي "لم أستطع العيش بحرية، وكان الزواج مرة أخرى الحل الأنسب لتفادي الانتقادات الاجتماعية والتعنيف".
وتضيف "في زواجي الثاني أنجبت ولدًا. ولكن زوجي لا يعمل وأنا المعيلة للأسرة، بل وصل الأمر إلى أنه لا يقوم بأي شيء إلا النوم، ولكن لأن السبب الوحيد الذي تزوجته من أجله كان إسكات المجتمع بوجود رجل في حياتي. فقد أكملت الزواج لأتمكن من العيش دون أن تعرّض للانتقادات".
قصة مي هي واحدة من قصص آلاف النساء في لبنان، ففي مجتمع يعيش أزمات اقتصادية واجتماعية متراكمة، تتضاعف معاناة الفئات الأكثر ضعفًا، خصوصًا النساء اللاجئات والمهاجرات. ويلعب العنف الأسري والتمييز والتحيّز الجندري دورًا محوريًا في تشكيل واقع الصحة النفسية لهذه النساء.
وعلى الرغم من أهميته، يُعتبر العلاج النفسي في البلاد من الكماليات بسبب تكلفته الباهظة، مما يفاقم مشاكل الصحة النفسية للفئات الأكثر هشاشة، في حين تُظهر الدراسات أنّ النساء أكثر عرضة للضغوط النفسية من الرجال بسبب عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية. فهنّ يتحمّلن مسؤوليات معقّدة تشمل الأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر، والعمل خارج المنزل، مما يؤدّي إلى ارتفاع مستويات القلق والتوتر والضغط النفسي بسبب تراكم المسؤوليات.
ويلعب عدم المساواة في أماكن العمل وطبيعة الأدوار الجندرية التقليدية، دورًا محوريًا في زيادة تلك الضغوط مثل "التمييز القائم على النوع الاجتماعي والعنف المنزلي والتحرّش والعنف الجنسي، إضافة إلى تحديات العمل والموازنة بين الحياة المهنية والشخصية" كل ذلك يجعل النساء عرضة للقلق والاكتئاب أكثر من الرجال بحسب أبحاث عدة.
يزداد الوضع سوءًا في أوقات الحروب، إذ تواجه النساء النزوح والعنف الجسدي والنفسي والجنسي، مما يؤدّي إلى تفاقم اضطرابات الصحة النفسية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق.1
محاولات التعافي الصعب
رنا (27 عامًا) لاجئة سورية وصلت إلى لبنان قبل عام، وكان البحث عن مأوى هو بداية كابوسها، لجأت رنا إلى أحد المعارف لتأمين سكن، وبقيت عنده لأيام قليلة انتهت بتعرّضها للاغتصاب.
تروي رنا كيف تدهورت حالتها النفسية بعد ذلك: "عانيتُ من صدمة لفترة طويلة. في ذلك الوقت هدّدني المعتدي بأنه سيشتكي عليّ بتهمة الدخول إلى البلاد بطريقة غير شرعية إذا أخبرت أحدًا أو كشفت عمّا حدث".
بعد أشهر، حاولت رنا طلب المساعدة القانونية، فقالت لها إحدى المحاميات إن افتقارها للإقامة القانونية وعدم وجود أدلة مادية على الاغتصاب سيجعل رفع دعوى قضائية أمرًا مستحيلًا، وقد يعرّضها للمزيد من المشاكل.
غياب الدعم القانوني والنفسي جعل محاولات رنا للتعافي أصعب، خاصة مع عدم قدرتها على تحمّل تكاليف العلاج النفسي. ولهذا ما إن سمعت عن إحدى الجمعيات التي تساعد في توفير جلسات علاج مجانية حتى توجهت إلى مقرّها.
تخبرنا رنا "كان من المفترض أن يحولوني إلى معالجة نفسية، لكنهم لم يفعلوا ذلك بسبب طول قائمة الانتظار. وخلال هذا الوقت قابلتُ متدرّبًا في الجمعية شخّص حالتي بأنها اضطراب ثنائي القطب، ووصف لي دواءً زاد من سوء حالتي، لذا بعد شهرين من تناوله أوقفته بنفسي ولم أعد إلى العيادة".
بعد مدّة وبمساعدة صديقة، استطاعت رنا استشارة طبيب غير مكلف عبر الإنترنت "شخّص حالتي على أنها اضطراب الشخصية الحدية، ما يعني أن تشخيص الجمعية كان خاطئًا" بحسب قولها.
لا تزال رنا في لبنان، تتنقل بين عمل وآخر هربًا من الاستغلال وسوء المعاملة، وعن هذا توضح "أعمل شهرًا كاملًا، وبانتهائه لا أقبض راتبي أو أحصل على مبلغ لا يتجاوز المئة دولار. وبالطبع لا أستطيع تقديم شكوى، نظرًا لجنسيتي السورية التي لا تشفع لي في العمل بلبنان بالإضافة إلى أن أوراقي غير قانونية".
"لم يتغيّر شيء بعد محاولة الانتحار"
لسارة وهي عاملة مهاجرة في عقدها الثالث، قصة مليئة بالتحديات بسبب العنف المنزلي والجنسي والتمييز العنصري. حين وصلت إلى لبنان كانت تعمل في الخدمة المنزلية بلا دوام محدّد ولا أيام عطل، وذلك براتب لا يتعدى 120 دولارًا. بقيت في ذلك المنزل لثلاث سنوات، إلا أنّها لم تستطع البقاء أكثر لقاء ذلك الراتب المتدني، "فهربت".
انتقلت للعيش مع بعض الفتيات في سكن مشترك، إلى أن وجدت عملًا بعد فترة يقتصر على اعتنائها بطفل. كان الراتب جيدًا، ولكن تعرضها للتحرش من قبل صاحب العمل، اضطرها إلى الرحيل مجددًا.
انتقلت من عمل إلى آخر، حتى تزوجت لبنانيًا، لتبدأ مأساة جديدة في حياتها، تروي سارة "خلال تسع سنوات من الزواج أنجبت خلالها طفلًا، كان يعنّفني كثيرًا ويغتصبني، وهذا ما جعلني أرغب في الطلاق، لكني لم أستطع. ولأنه لا حظ عدم رغبتي به أجبرني على تصوير فيديو غير لائق ومن ثم قام بابتزازي به، مما دفعني لمحاولة انتحار نُقلت على إثرها إلى المستشفى، وبقيت هناك لفترة حتى تعافيت. ولكن شيئًا لم يتغير بعد ذلك، إذ استمر التعنيف حتى قررت الهروب من المنزل. لم يسمح لي بعدها برؤية ابني، وحُرمت منها لمدة سنتين".
تضيف سارة "لم أكن على دراية بضرورة اللجوء إلى طبيب نفسي في ذلك الوقت، أول مرة زرت فيها طبيبًا نفسيًا كانت عن طريق إحدى الجمعيات الأهلية، استمرّ العلاج لمدة ستة أشهر فقط، بسبب كثرة الحالات التي تساعدها الجمعية. أما الآن، وعلى الرغم من أنني مازلت بحاجة إلى العلاج النفسي بشدة، إلا أن نفقته المرتفعة تحول بيني وبينه، خاصة أن أقل سعر أستطعت العثور عليه هو 40 دولارًا للجلسة الواحدة".
العلاج "ترف"
تُظهر قصص مي، ورنا، وسارة واقعًا مأساويًا تعيشه النساء في لبنان حيث يفتقر النظام الصحي إلى البنية التحتية اللازمة لدعمهنّ. وبشكل خاص تختبر النساء اللاجئات والعاملات المهاجرات في البلاد ظروفًا اقتصادية صعبة، تتفاقم بسبب القيود القانونية والاجتماعية، ومحدودية الوصول إلى خدمات الصحة النفسية.
وعلى جانب آخر تشكل الكلفة العالية للعلاج النفسي حاجزًا رئيسًا أمامهن، إذ تُعتبر الجلسات العلاجية ترفًا لا يمكن تحمّل تكلفته بالنسبة للكثيرات. تشير مي إلى أن "العلاج النفسي مكلف جدًا، بخاصة أن تكلفة الجلسة الواحدة تتراوح بين 50 إلى 100 دولار، وهو مبلغ كبير بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي نعيشها". ومن جانبها تقول رنا: "لم أكن قادرة على زيارة طبيب نفسي بسبب وضعي المادي السيئ".
إضافة إلى التكاليف الباهظة، هناك نقص في عدد المعالجين والمعالجات المؤهّلين والمؤهّلات لفهم واقع النساء وتجاربهنّ، خصوصًا اللواتي ينتمين إلى الفئات الأكثر هشاشة. تشير مي إلى أنها جربت العلاج مع خمسة معالجين فيما سبق "قبل أن أتمكن من العثور على معالجة جيدة تفهمني".
هذه التجربة تلفت النظر لما يواجهنه النساء في العثور على الدعم النفسي المناسب، فغالبًا ما يتعيّن عليهنّ التنقّل بين أكثر من معالج للوصول إلى العلاج الفعّال.
تعاني هؤلاء النساء من اضطرابات نفسية متعددة مثل "الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، والقلق المزمن"، لكن ما يزيد من حدّة هذه المعاناة هو العزلة الاجتماعية والتمييز الذي يتعرّضن له من قبل المجتمع2 .
هذا الواقع يعكس حجم التحديات التي تواجه النساء في الحصول على الرعاية النفسية الضرورية، مما يدفعهنّ في كثير من الأحيان إلى البحث عن بدائل غير مهنية تزيد من معاناتهنّ، خاصة أن الوصمة الاجتماعية والنظرة السلبية للأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية تجعل من الصعب على الكثير من النساء طلب المساعدة أو حتى الاعتراف بألمهنّ. تقول مي "استغرقني الأمر وقتًا طويلًا حتى تمكنت من الذهاب إلى معالجة نفسية."
تساهم هذه الوصمة في عزل النساء وجعلهن يشعرن بالخجل والذنب، مما يزيد من تعقيد وضعهن النفسي.
من ناحية أخرى، تُعتبر المعايير الاجتماعية الصارمة والعادات التقليدية عقبة كبيرة أمام النساء في التعبير عن مشاعرهن أو البحث عن الدعم.
تشير مي، أنها لا تستطيع أن تخبر والدها بأنها لا تريد ارتداء الحجاب أو أن تعيش بالطريقة التي ترغب بها، على الرغم من أنها مستقلة عن أهلها ومتزوجة.
أكثر من قضايا فردية
رغم تزايد التوعية بأهمية العناية بالصحة النفسية، إلا أن المعاناة النفسية للنساء لا يمكن فصلها عن ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ فالنساء يواجهن تحديات نفسية أكبر نتيجة التمييز الاجتماعي، والأدوار التقليدية التي تفرض عليهن مسؤوليات إضافية كالرعاية الأسرية، مما يزيد ضغوطهن النفسية ويجبرهن على إهمال احتياجاتهن الشخصية، كما أن العنف القائم على النوع الاجتماعي يزيد من تعرّض النساء للعنف الجسدي، النفسي، والجنسي، مما يرفع معدلات الإصابة بالاكتئاب، والقلق، واضطرابات ما بعد الصدمة.
يُفاقم الفقر والاعتماد المالي على الآخرين من الضغوط النفسية، إذ يحدّ من قدرة النساء على الوصول إلى الرعاية الصحية ويزيد من شعورهن بعدم الأمان. إضافة إلى ذلك، تساهم القوانين والسياسات التمييزية في تقييد حقوقهن الأساسية، مما يعمّق الإحساس بالعجز والضغط النفسي.
من هنا، لا يكفي رفع الوعي بأهمية الصحة النفسية؛ بل يجب معالجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تزيد من معاناة النساء. إذ أن تحسين الصحة النفسية للنساء يتطلب نهجًا شاملاً يركّز على تمكينهن اقتصاديًا واجتماعيًا، وتعزيز السياسات التي تضمن المساواة وتحمي من التمييز والعنف.
حتى الآن غالبًا ما يختزل التشخيص السريري المعاناة في أعراض فردية، متجاهلاً التأثيرات البنيوية على الصحة النفسية للنساء، مما يعمّق تهميشهن. وعلى الرغم من أن العلاج الفردي قد يساعد في التخفيف من آثار الصدمات، إلا إنه لا يعالج جذور المشكلة، بل يتطلب الأمر تغييرات هيكلية تعترف بالطابع الجماعي للمعاناة وتعمل على بناء نظام دعم شامل يوفر لكل امرأة الرعاية التي تحتاجها.
الشفاء الحقيقي ينبع من التضامن والعمل الجماعي؛ على سبيل المثال، تساهم جلسات السرد الجماعي في وضع المعاناة ضمن سياقها الأكبر، وتسليط الضوء على هياكل السلطة التي تساهم في خلقها؛ هذه الجلسات تساعد على تقليل الشعور بالوحدة والعزلة وتعزز الانتماء، حيث تتيح للنساء مشاركة قصصهن والاستماع إلى تجارب مشابهة، مما يمكنهن من إعادة صياغة تجاربهن وفهمها بشكل أعمق.
هذا النهج يمكّن النساء من إدراك أن صراعاتهن ليست مجرد قضايا شخصية، بل تتشكل تحت تأثير قوى اجتماعية وسياسية أوسع. ومن خلال هذا الفهم، يتمكنّ من مقاومة القمع الداخلي واستعادة رواياتهن كأداة لمقاومة الهياكل الظالمة.
*كل الأسماء الواردة في هذه المادة هي أسماء حركية فضّلت صاحباتها إخفاء هوياتهن.
ملاحظة: هذا النص جزء من سلسلة مواد تم إنتاجها بدعم من برنامج "نحن نقود"، وهو برنامج ممول من وزارة الخارجية الهولندية ومدته خمس سنوات .
إضافة تعليق جديد