بعد ظهر يوم الثالث والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول ٢٠٢٤، فتحت جنى (25 سنة) خزانة طفلتها وجمعت الملابس المرتّبة بعناية بين الرفوف في حقيبة سفر كبيرة؛ ثم توجّهت إلى خزانتها الخاصة وأخذت البزة الرياضية.
حزمت الأمتعة في غضون خمس دقائق، وحملت حقيبة المستشفى التي أعدّتها قبل يومين، وخرجت مسرعةً من شقتها في جنوب لبنان برفقة زوجها ووالديه.
كان الطبيب النسائي قد حدّد لجنى تاريخ ومكان الولادة في السادس والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول، بمستشفى قريب من منزلها.
كانت جنى قد اعتادت على صوت القصف الإسرائيلي واختراق جدار الصوت بين الحين والآخر، لكن في صباح ذلك اليوم، بدا لها القصف مختلفًا وأكثر كثافة مما سمعته طوال عام مضى؛ تساقطت الصواريخ على القرى المجاورة وأصبح التهديد أقرب.
عانت جنى خلال فترة حملها من تقلّصات متكررة في البطن، رافقتها مع كل اختراق لجدار الصوت ومع سقوط القنابل على قرية والديها. لم يكن حملها سهلاً، لكنها بذلت ما بوسعها للحفاظ على هدوئها "تناولت الطعام الصحي، وراجعت الطبيب بانتظام "كنت أفعل كل شيء من أجل طفلتي" تقول جنى. في الأشهر الأخيرة جهزت غرفة مريم وملابسها وألعابها وزينت المنزل لاستقبال طفلتها.
في السيارة من الجنوب إلى بيروت لم تستطع جنى التوقف عن التفكير في ما تركته خلفها: البيت والممتلكات ووالديها العالقين في القرية وأصوات الصواريخ... لم تتوقف التقلّصات وتوتّرت أكثر.
بعد ست ساعات، وصلا إلى مركز إيواء في قرية بشمال العاصمة بيروت، لم تنم جنى طوال الليلة الأولى، بكت ليومين وهي تفكر في الحياة التي تركتها وراءها، قلقةً ممّا يخفيه المستقبل لها ولعائلتها.
زارت طبيبًا نسائيًا في القرية القريبة من مركز الإيواء، والذي فحصها وأكّد أن الطفلة بخير. في يوم الولادة المُقرّر كانت جنى شديدة التوتر والقلق؛ إذ أجبرتها ظروف الحرب أن تلد طفلتها في بيئةٍ غريبة عنها وعلى يد طبيب لم تلتقِ به إلاّ قبل دقائق من دخولها غرفة العمليات. من حسن حظها، كان الطبيب متفهّمًا لمخاوفها وبذل جهدًا في تهدئتها قبل وبعد العملية القيصريّة. بعد لحظات من الولادة، طلبت أن تحضن ابنتها التي وُلدت بصحة جيدة. في اليوم التالي، غادرت المستشفى مع زوجها وابنتها وعادوا إلى المركز حيث استقبلهم الأقارب والأصدقاء بالزينة وحلوى المغلي بمناسبة ولادة مريم.
لم تتوقف جنى عن البكاء ولم تتحمّل فكرة اعتمادها على الناس، فملابس طفلتها الآن مُستعارة قُدّمت لها كهدايا بينما تلك التي حضّرتها من قبل بقيت بمنزلها الجنوبي. في مركز الإيواء، جنى مُحاطة بوالديها وأهل زوجها ولها غرفة خاصة ومرحاض وتعيش ابنتها في بيئة نظيفة، كما تحرص والدة جنى وحماتها على توفير طعام صحي يدعم الرضاعة الطبيعية، فجميع من في المركز يدعمها ويعتني بها، وهو ما دفع جنى لتؤكد بأنها "أوفر حظًا" من العديد من النساء اللاتي نزحنَ من منازلهنّ بسبب الحرب أثناء فترة حملهن.
أنجبت رزان (21 سنة) طفلتها البكر -في أغسطس/آب من هذا العام2024- وهي تتذكّر الصوت العالي الذي أحدثه دوي اختراق جدار الصوت لحظة ولادة فاطمة في إحدى مستشفيات جنوب لبنان؛ أرضعت رزان ابنتها لمدة عشرين يومًا قبل أن ينضب حليبها فجأة. أخبرها الطبيب أن السبب هو التوتر، لكنها لم تستطع كبح تفكيرها الزائد وقلقها، وبالتالي لجأت إلى استخدام الحليب الصناعي.
في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول، أي بعد يوم من بدء الغارات الإسرائيلية العنيفة على جنوب لبنان، والتي نزحت خلالها رزان مع زوجها وابنتها، ولجأوا إلى مدرسة حكومية في شمال بيروت حصلوا فيها على الطعام وحليب فاطمة وملابس وعلاج طبي من قِبل منظمات محلية غير حكومية.
نور (38 سنة) حامل في شهرها السادس، لا تتذكّر متى نزحت من بيتها إلى شاطئ الرملة البيضاء العمومي في بيروت، ولا في أي يوم من أيّام الأسبوع تركت شقتها في الضاحية الجنوبية مع شقيقتها وأطفالها،
تتذكّر فقط أنها تركت البيت في اليوم التالي للتهديدات الإسرائيلية بقصف الضاحية.
عند وصولهم إلى الشاطئ، جلست نور مع أختها والأولاد على الرمال في مواجهة للبحر مقررين قضاء الليلة هناك. كانوا من أوائل الواصلين/ات، و بعد ساعات من وصولهم/ن حضر ناشطون/ات وقدّموا لهم كراسٍ بلاستيكية مخصّصة للاستلقاء تحت الشمس ومراتب وأغطية وبعض الطعام.
في اليوم التالي، انتقلت نور وشقيقتها إلى بناء خشبي قبالة الشاطئ، وإثر اشتداد القصف على الضاحية، انضمّ زوج نور وأقارب آخرون إليهم. حفر الزوج في الرمل -أسفل البناء الخشبي- لخلق مساحة كافية لكرسيين وطاولة؛ كزاوية صغيرة خاصة بزوجته الحامل، ورغم أنهما اضطرا للانحناء قليلاً لعبور هذه المساحة، إلا أنها جعلتهما يشعران ببعضٍ من الخصوصية؛ لاسيما وأن عائلات نازحة جديدة استمرّت في الوصول إلى الشاطئ.
تأكل نور من الطعام الذي يُحضره الناشطون/ات، لكنها في أغلب الأحيان تتناول البيض أو "النودلز" الذي تُحضّره على موقد التخييم الصغير، أو تلفّ لنفسها شطيرة من شرائح الجبن أو اللحم المعلّب.
لم تزر نور طبيبتها النسائية لأكثر من خمسة وأربعين يومًا، فعيادة الطبيبة بالقرب من شقتها في الضاحية الجنوبية لبيروت، والوضع لم يكن آمنًا. لكنها تشعر بحركة الجنين داخل رحمها من حين لآخر وهو ما يُشعرها بالاطمئنان.
أكثر ما يُقلق نور اليوم هو النظافة الشخصية "منذ نزحت إلى البحر أي منذ أكثر من أسبوع لم أستحمّ. وبدأت أعاني من حساسية في كامل جسدي" بحسب قولها.
بعد أيام من وصول النازحين/ات، نصب ناشطون/ات ستة مراحيض عامة لخدمة المئات. تضطرّ نور في اليوم الواحد للذهاب عشرات المرّات إلى المرحاض بسبب حملها، و في كل مرة تضطرّ إلى تطهير المرحاض وتنظيفه.
بعد حوالي الأسبوع من نزوحهم إلى الشاطئ، قرّرت نور مع زوجها الذهاب بشكل دوريّ إلى منزلهما في الضاحية للاستحمام وتبديل الملابس برغم تعرّض محيط الحيّ للقصف الشديد مما يُعرّض حياتهما للخطر، لكن هذه الزيارة الخاطفة تضمن لنور الحدّ الأدنى من النظافة.
يُحاول الزوج العثور على شقة صغيرة للإيجار، لكن الأسعار ارتفعت في بيروت ومحيطها و مراكز الإيواء لا تستقبلهم بسبب جنسيتهما السورية.
مع اقتراب فصل الشتاء تشعر نور بالقلق المتزايد، فهل ستضطرّ للولادة على الشاطئ؟
ملاحظة: هذا النص جزء من سلسلة مواد تم إنتاجها بدعم من برنامج "نحن نقود"، وهو برنامج ممول من وزارة الخارجية الهولندية ومدته خمس سنوات .
إضافة تعليق جديد