لم ينبهر صديقي الكويري المقيم في ليبيا حين أخبرته عن تجربتي الأولى بالمشاركة في "مسيرة فخر"، عندما كنت في عطلة خارج البلد.
حين أرسلتُ له صورًا للمظاهرات والألوان البهيجة والرقص في الشوارع، لم يرَ في الحدث انتصاراً للهويات الكويرية مثلما اعتقدتُ في ذلك الوقت.
يُعتبر موقف صديقي هذا شائعًا في أوساط الكويريين في ليبيا، حيث تسود لامبالاة -لا بل استهجان إن جاز التعبير- تجاه المظاهر العلنيّة للكويريّة، سواء كانت مسيرات الفخر أو الزواج المثلي و ،"الخروج من الخزانة"أو حتى راية مجتمع الميم عين ذات ألوان قوس قزح؛ كلّها رموز لحقوق الكويريين حول العالم.
علّلتُ هذا الاستهجان الذي يُعبّر عنه البعض، بتأثير رهاب المثلية المُستَبْطن على رؤيتنا لأنفسنا، بيد أن ذلك لم يكن تعليلًا كافيًا، إذ أنني لاحظت الموقف ذاته عند نشطاء وناشطات مجتمع الميم عين الليبيين في المهجر وغيرهم/ن في بلدان إفريقية أخرى.
يُفضّل العديد من الكويريين في ليبيا الحفاظ على ميزة الخصوصية من خلال اللغة الكويرية المحليّة المُشفّرة، وخلق حيز آمن في المقاهي والجرادين1 والزرادي2 . كما تصدّر الكويريون والكويريات في ليبيا وسائل الإعلام والإدارة الفنية، وأوجدوا/ن مساحات للإبداع والتعبير عن مشاغل هوياتهم/ن من خلال الفنون الشعبية 3 .
والُملفت أن هذا التصدر صار أمراً واقعاً اضطر العديد من الناس لقبول وجودهم/ن كمجموعة لها وظائف يحتاجها الناس في الحياة اليومية، فوجود مديرات ومدراء فنيون/ات و منظمو/ات حفلات وإعلاميون وإعلاميات كوير صار مألوفاً إجتماعياً، دون انتهاج مسلك الاعلان بصورته الغربية.
ذلك ما دفعني للتساؤل حول مدى عالمية مظاهر الفخر الكويري بألوانه البرّاقة ومصطلحاته وأساليب الحياة المترتبة عنه، وعلاقتها بالسياق الكويري المحلي في ليبيا وشمال إفريقيا عمومًا.
تسميات محليّة ومصطلحات مترجمة
بدأ النقاش حول كلمة كوير ذاتها التي لم يتقبّلها صديقي، فهذه الكلمة إنكليزية كانت -منذ بدء استخدامها الأول في القرن السادس عشر- محمّلة بدلالة سلبية، إذ أنها تعني الغرابة وكلّ ما هو غير طبيعي وشاذ.
وبقيت مرتبطة بذلك المعنى حتى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حين درج استعمال التسمية في أواسط حركات التحرير المثلية ضمن هتافاتهم/ن وخطاباتهم/ن الُمطالبة بحقوقهم/ن في الولايات المتحدة وبريطانيا، إلى أن تبناها البُحّاث تسمية لمجال دراسات الجندر والجنسانية، فنشأت النظرية الكويرية في الغرب4 .
أما في باقي مناطق العالم فإن استخدام مصطلح واحد يجمع طيفًا واسعًا من الفئات مثل مصطلحي "كوير" و"مجتمع الميم عين" المنسوخة من الإنكليزية LGBTQIA+، لا يخلو من إشكالية الإقصاء للتنوع الجنسي والجندري من ناحية، والتعميم الذي يذوّب الخصائص الفردية من ناحية أخرى.
ويمكن أن نجد مسميات محلية أكثر حيادية من كوير، لا بل أنها في أصلها إيجابية. ففي السياق الليبي مثلًا، ليس ثمة مصطلح واحد جامع وبلغة واحدة للإِشارة إلى فئة بعينها، وإنما تتعدد المسميات، مثل مصطلح "ديلهر" Deliher في اللغة التباوية، وهناك لفظة "يتسدغ" ㄣ十⊙ΛΛџ باللغة الأمازيغية، و"دوبيو كامبيو" doppio cambio بالإيطالية5 .
لهذا ناقشت الدراسات الكويرية الإفريقية منذ سنوات مشكلة المصطلحات المترجمة التي تكرس مفاهيم أورو - أمريكية على حساب التاريخ والهويات الكويرية المحلية، وبالتالي تختزلها أو توسمها في أدوار لا تراعي تداخل الميل الجنسي والتعبير الجندري مع ثقافات المجتمعات الإفريقية6 .
خلافاً للسياق الغربي الذي يحدّد الفئات الكويرية وفق أنماط سلوك معينة، فإن تاريخ الكويرية في البلدان الإفريقية لا ينفصل عن الثقافة، بل يبدو معجونًا في العادات الشعبية، إذ يقابلنا الجنس الثالث الذي يحظى بمكانة مقدسة عند شعب الداقارا في غانا7 . كذلك الحال مع تجمّع أعداد من الكويريين والكوريات في طقس اجتماعي طلبًا للدعم والحماية في موسم الزيارة السنوي لمقام سيدي بن حمدوش في المغرب، وعادة ارتداء اللباس التقليدي للجنس المقابل في الأعراس الليبية8 .
التحكّم بالسرديّة
تتجاوز تلك النظرة السلبية لمظاهر وأنساق الكويرية الغربية الترجمة إلى الموقف الحقوقي الرافض للكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وأثرهما على البلدان المستعمَرة سابقًا من محو للتقاليد المحلية، بما في ذلك الكويرية منها.
فالسياق الغربي الكويري نجح إلى حد كبير في إغراق طُرق تفكيرنا حول الطبيعات والتوجّهات الجنسية المختلفة خصوصًا في القرن التاسع عشر، حين ظهر ما يسميه إدوارد سعيد "التحكم بالسرديّة"9 من قبل الغرب وبالتالي تم "منع وصدّ أيّة سرديات أخرى من أن تتشكّل أو تنشأ".
فالذي يمتلك السلطة السياسية والاقتصادية روّج لعولمة الكويرية تحت الصورة النمطية للرجل المثلي الأبيض، واعتبر مصطلحاته وأسلوب حياته نموذجًا أوحد لتأطير الحقوق والحريات الجندرية والجنسية في كلّ مكان. وأصبحت سمات هذا النموذج معيارًا لمدى نيل تلك الحقوق في العالم، مثل النوادي الليلية ومسيرات الفخر وأغاني الـgay pop والمسلسلات والترندات الكويرية.
بيد أن انتشار هذه السمات ليس دليلًا قطعيًا على التمتّع بالحقوق الكويرية، وإنما تشي بنفوذ السلطة الرأسمالية التي تروّج لاستهلاك هذه المظاهر البراقة، بينما تمرِّر القوانين المناهضة لحقوق هذه الفئات في المجتمعات الغربية بشكل مطرد للتضييق عليها واضطهادها، مثل حملة "لا تقل مثلي" التي سُنَّت في ولاية فلوريدا بالولايات المتحدة سنتي 2022 و2023.
في مواجهة الهيمنة الثقافية
تختلف مقاومة الاستعمار بأشكاله بحسب المجتمعات والثقافات، ففي ليبيا وشمال إفريقيا إجمالًا ظهرت ثلاثة طرق في التعامل مع الكويرية. الأولى: هي الرفض على أساس ديني يهاجم ما يراه "مظاهراً مستوردة"، باعتبارها خطراً على "المجتمع المسلم"10 .
والثانية: رفض على أساس قومي مُحافظ يرى بأن تواجد الكويرية الغربية في "المنطقة العربية" امتداد للبعثات التبشيرية التي مهدت للاستعمار11 ، حيث ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الغرب الإستعماري استبدل الاحتلال العسكري بالغزو الثقافي -في صورة المثلية الغربية- بيد أن الهيمنة هي ذاتها لم تتغير. وبهذا صار التبشير حقوقيًا، يدفع من جهة "أيديولوجية" المثلية داخل المجتمعات الناطقة بالعربية، ومن جهة أخرى يتعالى عليها بوصفها تضطهد الفئات الكويرية.
أما الطريقة الثالثة: وهي الأحدث، فهي رفضٌ للكويرية الغربية مع احتفاء نوستالجي ورومانسي بكويرية عربية جامعة عبر المجلات الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي12 ، والملتقيات الكويرية في المهجر.
أما الرفض على أساس ديني فلا ينظر لتاريخ التعامل الفقهي مع الاختلاف الجندري والجنسي، ولا يناقش ما استجد من اجتهادات دينية حول هذه المسائل13 . لهذا فهو هجوم سطحي في مجمله، ينشغل بالمظاهر الكويرية المستوردة.
وأما المقاربة القومية المحافظة والمقاربة الكويرية العربية الجامعة فتغفلان أن السياقات المحلية في شمال إفريقيا تختلف في العديد من جوانبها وبشكل جذري عن تلك التي في جنوب غرب آسيا الناطق بالعربية. وجمعها داخل إطار عربي محافظ أو آخر أكثر انفتاحًا، هو سلوك متحيز لقطبية مشرقية.
فرغم ضمّها داخل هذا الإطار القومي العربي، إلا أننا لا نكاد نجد في هذه المنصات ذِكرًا ولا مواد مصورة أو مقالات عن التاريخ الكويري في جيبوتي أو ليبيا أو موريتانيا أو في الصحراء الغربية أو السودان. لعل مرجع ذلك هو أن المقاربة القومية العروبية لا تراعي خصوصية هذه البلدان الإفريقية.
نحو سردٍ تخميني
لهذا، فإنّ دراسة تاريخ وسمات الكويرية في شمال إفريقيا يتطلب الخروج من نطاق الثقافة العربية إلى الثقافات الإفريقية ـ المتوسطية وسماع أصوات الأفراد المنتمين/ات لها، واتاحة المجال لقصصهم/ن وواقع أجسادهم/ن باختلافها و بالطرق التي تلائم ظروفهم/ن وأهدافهم/ن. ومن هنا نشأت مبادرات مثل "نكسب" التي تعمل على تقارب السياقات الكويرية في شمال أفريقيا، وفق احتياجات وطموحات أصحابها كما تكوّنت منظّمات حقوقية محلية مثل منظمة "كن" الليبية، و"موجودين" في تونس.
هذه المبادرات تُنبئ بأن ثمة مساحة أكبر في الدراسات الكويرية الإفريقية لبناء سردية حول تاريخ كويري مشترك، نظراً لتشابه صيغ الدين وأشكاله، وتجاربنا المشتركة مع الاستعمار فضلًا عن امتداد جغرافي يُمكّننا من استيعاب أكبر للهويات الكويرية المحلية في شمال القارة.
لا يمكن تجاهل تشابه الظروف والتجارب الكويرية في المناطق الناطقة بالعربية، ولا يمكننا إنكار أثر المفاهيم الكويرية المُعولمة علينا كأفراد، كذلك لا يمكننا الاستهانة بعمق أثر رهاب الكويرية في مجتمعنا. هذا ما دعا بعض النشطاء والناشطات في ليبيا لتبنّي الأساليب والمفاهيم الغربية والتجربة العربية الكويرية، لتغطية ما اعتبروه عجزًا ونقصًا في تمثيل هوياتهم/ن في مجالي الإعلام والنشاط الحقوقي.
يشبه هذا "العجز" ما واجهته الباحثة سيديا هارتمان (1960) التي ابتكرت منهج Critical Fabulation، أو السرد التخميني، لسد الثغرات في الروايات الفردية في التاريخ الإفريقي والإفريقي الأمريكي، وذلك عبر استخدام القصة والسرد كوسيلة لتعويض المفقود من التجارب الفردية لضحايا العبودية في أمريكا14 . وفي حالتنا يمكننا تطبيق السرد التخميني القائم على ربط الوقائع المتوفرة من تاريخنا، لبناء سردية كويرية محلية متكاملة. ويمكننا عبر حرفة الرواية الشعبية المعروفة بالخرافة في ليبيا -وهو تقليد نسائي قديم يروي التاريخ بنسيج القصة- مع إهمال واقعية الأحداث، وإنما يستشف الحكمة والغاية من السرد.
والواقع أن ما نراه ثغرات ونقصًا، قد يكون من الخصائص التي يجب دراستها في هويّاتنا، فهي نتيجة تفاعل ثقافي قديم يمكننا من خلاله تشكيل هويات كويرية محلية معاصرة، بدلاً من محاولة الاستعارة العمياء من النموذج الأورو- أمريكي.
فعدم التدوين والتوثيق بشكله الحديث لا يعني بالضرورة عدم وجود إرث يُمرر بالتواصل المباشر، شأنه شأن الأغاني والرقصات الشعبية، والفن التشكيلي التقليدي الذي لا نجد اسمًا مُعينًا له أو كتابًا يصفُه، إلا أنه يتداخل بشكل عضوي مع الحياة اليومية. هذه السمة في ثقافتنا تدفعنا لتقدير البيئة المحلية التي ولّدت تنويعات جندرية وجنسية بلغاتها ونضالها وتحدياتها.
- 1جمع الجردينة و هي الحديقة العامة بالإيطالية، وتعدّ تقليديًا مكان التقاء الكويريين في ليبيا.
- 2جمع زردة وهي النزهة في الطبيعة، والأكواخ أو الشاليهات على أطراف المدن.
- 3جمانة أحمد، الفن الشعبي في ليبيا هامش من الحرية، 15.12020 https://jeem.me/culture/349
- 4Timothy W. Jones, The History of the Word ‘Queer’, La Trobe University, 19 كانون الثاني/يناير 2023، https://www.latrobe.edu.au/news/articles/2023/opinion/the-history-of-th…
- 5تازر، ربابنة بأقراط ومسنات ينصبن الخيام: التاريخ الكويري للجندر في ليبيا، 2 آب/أغسطس 2021، جيم، https://jeem.me/culture/570.
- 6Liselot Casteleyn, Challenging Queer African Narratives: A Case Study of LGBTIQ Activism in Nairobi as a Local Nuance to (Trans)National Queer Narratives, 2018-2019، Ghent University.
- 7Nana Akosua Hanson، Homophobia and the African ParadoxReflections on IDAHOT Day، 16.5.2021، https://awdf.medium.com/homophobia-and-the-african-paradox-reflections-…
- 8ولي صالح بالمغرب يحج إليه المثليون .. من يكون؟ مريم بوزعشان
8.12.2017 https://www.maghrebvoices.com/2017/12/08/%D9%88%D9%84%D9%8A-%D8%B5%D8%A…
- 9Edward Said, Culture and Imperialism, Chatto & Windus, 1993، ص. 13.
- 10تازر، رحلتي من الدين إلى الدين: استعادة الكويرية من براثن الذكورية، 7 كانون الأول/ديسمبر 2023، جيم، https://jeem.me/society/1272.
- 11Joseph A. Massad, Desiring Arabs, University of Chicago Press, 2007، ص. 163.
- 12Iman El Kafrawi, The Digital Archive Unearthing Queer Arab History, 19 نيسان/أبريل 2021، Huck Magazine, https://www.huckmag.com/article/the-digital-archive-unearthing-queer-ar….
- 13 للمزيد حول الاجتهاد والتأويل الحديث حول الكويرية في الإسلام، يمكنك مراجعة: Imam Ludovic-Mohamed Zahed, Queer Muslims: Out of the Closet and into the Light.
- 14Saidiya Hartman، Venus in Two Acts، 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2008، Small Axe (المجلد 12، العدد 2).
إضافة تعليق جديد