"لو فكّرتُ في كتابة قصّتي ونشرها، فعن أي عنوان سأبحث؟ هل هو "حكاية الهروب من الأهل"؟ أم "فقدتُ زوجي من أجل صحّتي"؟ أو "أخشى على أطفالي من المستقبل"؟ بهذه التساؤلات بدأت أمل - وهي أم لثلاثة أطفال - حديثها، عقب نزوحها من منطقة العاقبية في مدينة صيدا، إثر الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان.
تقول أمل، التي بلغت السادسة والعشرين من عمرها وقت وصولها إلى منطقة البقاع في لبنان برفقة أهلها لاجئة من ريف حلب "قبل خمس سنوات انتقلت من منطقة البقاع للعيش في بلدة العاقبية جنوب لبنان، بعدما تزوّجت خطيفة فانقطعت علاقتي نهائيًا بأهلي، وأهله أيضًا قاطعوه ورفضوا الزواج. وبهذا أصبحت مهدّدة بالقتل ودمِي مهدور".
ومع اندلاع الحرب الأخيرة، لم ترَ أمل أمامها خيارًا سوى النزوح من الجنوب هربًا من القصف الإسرائيلي. تضيف "اضطررتُ لمغادرة صيدا نحو البقاع بعدما تعرّضنا للقصف رغم أنّ أهلي يعيشون هناك. لهذا لم أكن أجرؤ على مغادرة مكان سكني الجديد، إذ كنت أخشى أن تلمحني عيونهم. كنت أتلقّى تهديدات ومضايقات مستمرّة، فلم أجد مفرًّا سوى العودة مرّة أخرى إلى المنطقة التي هربتُ منها في صيدا علّني أجد مهربًا آمنًا."
وبالفعل استأجرت أمل غرفة في بستان قيل لها إنّها شبه آمنة. "في اليوم التالي مباشرةً طرق غريب الباب طلبًا لكوب ماء. فتحته فإذا به يهاجمني ثم اغتصبني. حملتُ أطفالي وهربتُ قبل طلوع الفجر نحو البقاع من جديد، وهناك قضيتُ ثلاثة أيام لم يغمض لي فيها جفن."
تقول أمل وملامح الإرهاق على وجهها "أتنقّل الآن من بيتٍ إلى آخر في ظروف سكن قاسية وغير مقبولة. لا أتلقّى أيّ نوع من المساعدة من أيّ جهة بما فيهامفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) التي لم تقدّم لي دعمًا يُذكر، باستثناء شخص واحد يعرف طبيعة وضعي، ويساعدني بقدر استطاعته."
تسكت أمل قليلاً قبل أن تتابع "فكّرت في الانتحار مرّتين، ولكني تصوّرتُ الحياة بعد رحيلي، وفكّرت بأطفالي الثلاثة. لمن أتركهم في هذا الوضع العصيب؟ لا أملك رفاهية إنهاء حياتي. ولستُ قادرة على العودة إلى الجنوب بسبب ما تعرّضتُ له. زوجي أيضاً غائب، ولا أعرف عنه شيئًا منذ عاد إلى سوريا."
تروي أمل قصة أخرى و تقولها وكأنّها تدخل في فصل جديد من مأساتها "لديّ مشكلة صحيّة خطيرة؛ إحدى كليتيّ متوقّفة عن العمل ويجب استئصالها. وليس هناك أحد يساعدني على تحمّل التكاليف. قرّر زوجي السفر إلى سوريا لبيع بضع دونمات من أرضه ستغطّي نفقات العملية. تابعتُ التواصل معه لفترة، لكنّه اختفى منذ عشرة أشهر. وعندما سألتُ عنه وتواصلتُ مع أشخاص عدّة، قيل لي إنّه في السجن هناك، وبالتالي صرت لا أعرف شيئًا عن أحواله أو مصيره".
أضرار جانبيّة
قد تبدو قصة أمل بكل ما تحمله من مآسٍ وتشعّبات أشبه بحكاية متخيّلة أو سيناريو دراميّ من نسج الخيال. لكنّ الواقع أكثر قسوةً من أي تصوّر؛ هي واحدة من بين قصص عديدة متشابهة تعيشها نساءٌ هنّ الضحايا الأوائل للاعتداء والعنف في زمن الحروب. وغالبًا ما تمنعهنّ التقاليد والخشية من العار من رفع أصواتهنّ أو كشف ما تعرّضن له.
ومع تصاعد الفوضى في خضمّ الأزمات، يصبح العنف ضدّ النساء أشبه بـ "ضرر جانبيّ" لا مفرّ منه كأنّه ضريبة مستترة تُدفع بصمت.
ومع تقدّم توفير المأوى والطعام في سلّم الأولويات خلال الحروب، يتم تجاهل حاجات النساء الأخرى إلى مرتبة أدنى، ولا سيّما تلك المتعلّقة بحالات التعنيف أو الاعتداء الجنسي.
هكذا تتضاعف الأعباء الملقاة على عاتق النساء، خصوصًا لدى اللاجئات اللواتي اضطررن إلى مغادرة وطنهنّ الأم بالأساس، ثم وجدن أنفسهنّ نازحاتٍ من جديد في بلد اللجوء، كما هو حال اللاجئات السوريات في لبنان. فخلال الحرب الأخيرة، واجهت هؤلاء مشكلات عمّقت هشاشتهنّ، منها عدم استقبالهنّ في مراكز الإيواء، الأمر الذي جعلهنّ أكثر عرضةً للتحرّش والاعتداء.
عن هذه النقطة تتحدّث غيدا عناني، مؤسسة ومديرة منظمة "أبعاد"، مسلّطة الضوء على الواقع الذي فرضته الحرب، وحالات النزوح القسري في العديد من المناطق اللبنانية.
تضيف أن"عملية النزوح لم تعد تقتصر على المواطنين اللبنانيين وحدهم، بل امتدّت لتشمل المجتمع اللاجئ السوري أيضًا، الأمر الذي أنتج تحدّيات يومية إضافية على الجميع. وفي الوقت الذي ترتفع فيه الكلفة البشرية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية للحرب، تواجه النساء -وما زلن- شتّى أشكال الخطر والتهديد والتمييز والتهميش".
تلفت عناني إلى أن تقارير وبلاغات عديدة أشارت إلى "ازدياد المخاطر المحدقة باللاجئات السوريات، خصوصًا على صعيد التحرّش والاعتداءات اللفظية. ومع محدودية مراكز الإيواء وصعوبة استيعاب الأعداد الكبيرة من النازحين والنازحات تفاقمت الأوضاع، ما زاد من حدّة تعرض النساء والفتيات السوريات للخطر والتهميش. ومن بين هذه المخاطر وردت تقارير عن حالات استغلال اقتصادي وجنسي، مع اضطرار العائلات إلى القيام بالترتيبات السكنية دون أوراق رسمية، أو طلب المساعدة من أفراد أو جهات غير رسمية، لا سيما في ظلّ عدم امتلاك الجميع لأوراق إقامات القانونية. هكذا وجدت الكثيرات أنفسهنّ أهدافًا سهلة للاستغلال، إذ تخشى العديد منهنّ الإبلاغ عن الكثير من الحوادث خوفًا من الترحيل أو الاحتجاز".
وتضيف عناني أن النازحات يواجهن "تحديات صحية واجتماعية أخرى، من بينها محدودية الوصول إلى الخدمات الطبية والإمدادات الأساسية في مراكز الإيواء، وهو ما دفع تقارير عدّة إلى الإشارة للحاجة الملحّة لتحسين الخدمات المقدّمة لهذه الفئة الضعيفة بما يشمل الرعاية الصحية والنفسية، فضلًا عن التصدّي لظواهر الاستغلال والتحرش بطرق ممنهجة وفعّالة. وللأسف لا تتوافر إحصاءات دقيقة أو أرقام واضحة حول أعداد النازحات السوريات في لبنان اللواتي لم يتمكّنّ من العثور على مأوى خلال الحرب الأخيرة. غير أنّ التقديرات وحجم الاتصالات التي وصلت إلى "خط الأمان" في منظمة "أبعاد" تحديدًا في الأيام الأولى للحرب والنزوح تفيد بأنّ الوضع الإنساني كان بالغ التعقيد".
وبخصوص التحديات توضح عناني أن "هناك حاجة لدى النازحات السوريات إلى ملجأ آمن شديدة وملحّة، إذ واجت معظمهنّ تحديات تتعلق بالسكن والخدمات الأساسية نتيجة الضغط الكبير على الموارد المتاحة، لا سيّما مع ارتفاع عدد النازحين داخليًا في لبنان إلى نحو مليون شخصًا، ما أدّى إلى وجود نقص كبير في أماكن الإيواء وترك العديد من العائلات بلا مأوى ملائم.
خلل بنيوي
تعمل حركة مناهضة العنصرية (ARM) كجهة مناصرة للعمال المهاجرين والعاملات المنزليات ضد نظام الكفالة والسياسات العنصرية التي تستهدف المهاجرين واللاجئين.
يتحدث المسؤول الإعلامي في الحركة كريم نوفل عن أسباب تضاعف العنف الذكوري والسلوك العنصري تجاه النساء في أوقات الحرب موضحًا أنه "ليس سوى نتيجة للخلل الهيكلي في نظام الكفالة الأبوي والعنصري، الذي يترك المجتمعات المهاجرة عرضةً لكافة أنواع الانتهاكات حتى في أوقات السلم، فكيف يكون الحال إذن في وقت الحرب؟"
ويلفت نوفل إلى أن "الفئات الأكثر تهميشًا اقتصاديًا واجتماعيًا تكون في أزمنة الحروب الأكثر عرضةً لهذا النوع من العنف، لأننا كمجتمعات وحكومات على حدّ سواء لم نقم بتفكيك هذه البُنى أو أجرينا إصلاحات كافية على نظام الكفالة، هذا إلى جانب عدم طرح أي حلول جذرية في النقاش العام، إذ إنّ جميع الحلول والإصلاحات التي تقدّمها الحكومات العربية اليوم لا تتعامل سوى مع أعراض المشكلة (نظام الكفالة) بدلاً من العمل على تفكيكها وإسقاطها عبر النقابات أو المبادرات المجتمعية".
وفي رصد أجرته "حركة مناهضة العنصرية" لأوضاع اللاجئين، ونشرته على صفحتها في وسائل التواصل الاجتماعي، تبيّن أنّ الخطة الوطنية للطوارئ في لبنان تجاهلت وجود اللاجئين والمهاجرين تاركةً العائلات والأفراد دون أي حماية. فالدولة اللبنانية تستبعد المهاجرين واللاجئين من أي خطة إغاثة، مفوِّضةً مسؤوليتهم كاملةً إلى المنظمة الدولية للهجرة ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. وهكذا تتهرّب الدولة من أي مسؤولية مباشرة.
وقد عمدت مراكز الإيواء الرسمية التي ترعاها الدولة مثل المدارس، إلى طرد اللاجئين والمهاجرين الفارّين من القصف خلال الحرب الأخيرة في لبنان، كما تكرّر الأمر في الحدائق والمباني المهجورة والمساحات غير المأهولة نتيجة سياسات عنصرية واضحة، أبرزها صدور أوامر بالإخلاء ضمن مهلات زمنية قصيرة، وفي بعض الحالات جرى الإخلاء بالقوة من قبل البلديات وقوات المخابرات وحراس الأمن.
خيارات محدودة
هناك عوامل متعدّدة ومتشابكة تؤدّي إلى وقوع جرائم واعتداءات مثل: التحرّش أو الاعتداء اللفظي على اللاجئات وغيرهنّ من النساء.
تقول غيدا عناني من منظّمة "أبعاد" "إنّ هذه العوامل تشمل تدهور الوضع الاقتصادي الذي يزيد حدّة التوتّرات الاجتماعية، ممّا يفضي إلى تنامي الاستغلال أو الاعتداءات، ولا سيما بحق الفئات الأكثر ضعفًا وفي مقدّمتها اللاجئات".
وتتابع "كذلك يلعب التمييز المجتمعي دورًا في هذه الانتهاكات، إذ قد تحمل بعض المجتمعات نظرة سلبيّة تجاه اللاجئين بسبب خلفيّاتهم الثقافيّة أو السياسيّة، الأمر الذي يكرّس مناخًا يسمح بممارسات التمييز أو الانتهاك، لذا فإنه من المهم الإبقاء على النظرة الشاملة، لأنّ العوامل المساهمة في هذه الانتهاكات معقّدة ومتشابكة، ولا يمكن حصرها في جانب واحد فحسب، ومن جانبه فإن هذا النهج يسمح بتحليل أعمق لفهم السياق الاجتماعي المحيط بهذه الجرائم،والسعي لمعالجتها بطرق أكثر شمولاً".
في ظلّ الحرب على لبنان كثّفت منظمة "أبعاد" جهودها للاستجابة الطارئة ميدانيًّا، كما عمل فريقها على تقديم ورش عمل تدريبية تشمل الدعم النفسيّ الاجتماعي للنساء والأطفال والرجال، وذلك تأكيدًا منها على أهميّة تقديم المساعدة الشاملة في مواجهة آثار الحرب على مختلف الفئات.
شهدت فترة الحرب نشاطًا مكثفًا لعمل المنظمات والجمعيات والاهتمام بأوضاع اللاجئين لاسيما من النساء وهو ما تؤكده مديرة منظمة Fe-Male حياة مرشاد التي صرحت "أظهرت مشاهداتنا الميدانية خلال فترة الحرب أنّ اللاجئات السوريات كنّ أمام خيارات محدودة؛ فإما البقاء في مناطق البقاع وسواها من أماكن تواجد اللاجئين السوريين رغم ما يتعرضن له من تداعيات الحرب والقصف، وإما العودة إلى سوريا مع ما يستتبع ذلك من مخاطر التنقّل ومواجهة ظروف قد تهدّد سلامتهن عند الوصول".
تقول مرشاد "إنّ النسبة الأكبر ممّن قرّروا النزوح كانت من النساء والأطفال والذين قدموا من مناطق البقاع والجنوب وفي الغالب تعود أصولهم لسوريا، إلا أنّ معظم مراكز الإيواء رفضت استقبالهم، وهو ما لاحظناه عبر متابعتنا المباشرة وعملنا على الأرض، كما وجدنا أن معظم المتواجدين في الشوارع مثل ساحة الشهداء والرملة البيضاء، هم من اللاجئين السوريين، ما يجعل احتياجات النساء مضاعفة. مما يعرضهن لمخاطر الشارع وما يترتب عليه من تعرّضن لاعتداءات وتحرّش كما أنّ معظمهن يعشن من دون أزواج إمّا بسبب الوفاة أو العودة إلى سوريا وبالتالي يتحمّلن المسؤولية الكاملة عن العائلة. وفي هذه الحالات فإنّ كافة الأمور المتعلّقة بخصوصية أوضاع النساء، مثل النظافة الشخصيّة واحتياجاتهنّ أثناء الدورة الشهرية لا تكون مغطّاة، خاصةً أنّ العائلات في ظل هذه الظروف توجّه أي دعم مادي متاح نحو الأولاد باعتبارهم الأولويّة".
وتشير مرشاد أيضًا إلى مسألة الصحة النفسيّة للنازحين الذين تحملوا تمييزًا مضاعفًا بوصفهم غرباءً مرفوضين حتى في المساحات العامة التي لجؤوا إليها، كما تعرّضوا لاعتداءات من القوى الأمنيّة، وبالتالي باتوا يعانون من انعدام الاستقرار خاصة في ظل وقوعهم داخل دائرة الخطر المباشر.
وقد عملت منظمة Fe-male طوال الفترة الماضية على تلبية الاحتياجات الطارئة للفئات الأكثر تهميشًا، ويجري حاليًا إعادة تقييم هذه الاحتياجات، ولا سيّما أنّ نسبة من النازحين فقدت بالفعل مكان سكنها وتحتاج إلى بديل.
ملاحظة: هذا النص جزء من سلسلة مواد تم إنتاجها بدعم من برنامج "نحن نقود"، وهو برنامج ممول من وزارة الخارجية الهولندية ومدته خمس سنوات .
إضافة تعليق جديد