مذكّرات أمٍّ شاذّةٍ

"أقسم بالله الراجل والمرا والبنت الصغيرة بنحرقوا قدامي…"

من الخمول أنتشل جسمي المحمول على البقاء، وأهمّ على مضض لتناول قسط من العشاء، فبنياني المتهاوي منذ أيّام لم يعد قادرًا على القيام بأبسط المهام، فبالكاد ينصرف بصري المكتئب عن شاشة هاتفي الملتهب بصور البثّ الحيّ للمحرقة.

يتصلّب معصمي الملتحم بزوايا الهاتف، ألفظه بعيدًا ثم أطقطقُ أصابعي وانهض من مُتكئي لضرورة تناول الطعام. أُعدل انحناءة عمودي المهموم على الدوام، وعلى قوامٍ مذلول أرتدي ثيابي المهترئة من فرط الغسيل والاستعمال. أُرغم روحي المنطفئة -من وطأة الإهمال- على النزول، فقد كاد يشلني الذهول، ولكن أعادني موعد تسديد الإيجار وبحثي عن مدخولٍ إلى هذا المقال.

المأبونة1  ما بعد الأخيرة 

على مشارف الإغلاق، أقف زبونةً، خنيثةً، ثقيلة الظلّ على مشارف الأربعين، ويقف صانع مأكولات فتيّ قنوط ذو وجه جذّاب و"كيوت" (cute)، منتكس الرأس، مَنُوط بالتكرار. يعيد السؤال بملل وعلى عجلٍ: هريسة؟ مايونيز؟ زيتون؟ … كأنّه مسجون في ركنٍ محظور تُعلِّبه الحيطان.

كعرائس الخيطان، يُسيِّجه جمهور من المسحوقين والعمال. يكبّله الشعور بالغبن من سطوة الأموال ورتابة الأشغال، ويكلّله بنيان من الفحولة. تُلهيني تعابير وجهه الملولة. لكنّ سواعده المُسَمَّرة والكادحة والمفتولة تُسابق الزمان، ودونما استئذان يباغتني ويرطم بطبقي قذيفة من هريسة2  المعلّبات الدنيئة. أتفرّج على وجبتي الرديئة لهذا اليوم تنتهك، فتشتبك بداخلي مشاعر القهر المركّب ومذاق الفلفل الحارّ المعلّب.

حرب الإبادة على غزّة وحرب رئيسنا المفدّى على الأحلام والأقلام وعلى انستغرام. صوت تشتشة البطاطا والارتفاع المُشِطّ3  لسعر الكيلوغرام. يستنفرني غلاء الأسعار واستشيط في صمت، وتستقطعني قرقعة إناء الفخّار على زجاج "الكنطوار" (المنضدة)، فأتقدّم وأتسلّم وجبةً قوامها اللاّ-حبّ وأنسحب.

قبالة المحلّ فناء يُقارع الطريق وموائد جماعيّة منتصبة. تحت إنارة النيون الجليديّة المضطربة أجلس بمفردي عرض الشارع وقطّة شعثاء ترمقني وتستغيث. أجثو بوَهَني على طبق سريع التحضير، منكبٌ يسند رأسي وأصابعي الزاهدة تستقيت. 

كم افتقدتُ لقاءات المساء فيما أعود بشغف العودة إلى الدار بدجاجة مشويّة على العشاء. افتقدتُ روتين تقطيعها واقتسامها مع طفلي المفتتن ببناء العضل واِلتهام البروتين. "توتو" الفتى الطازج ذو الاثنين والعشرين ربيعًا، عمود بيتي الأسريّ وابني الشقيّ الذي اصطفيتُه وفضّلته على العالمين. هو "شعشوطة قلبي" وفخري وفلذة كبدي، أو "الكبيدة" كما يحلو لقلبي مناجاته.

هنا يُبادُ الحبّ خلسةً

قبل رحيله المفاجئ بتسعة شهور، أصبح يأبى الظهور برفقتي في وضح النهار. استعار صوتًا خشنًا وانخرط في تمارين الانصهار وبذل محاولات حثيثة لدرء العار. إنّ الصبيان تكبر وكذلك أعباء الجندر.

متصفحًا المنصّات أصبح توتو ينفر من صنف التشتوشات (جمع تشّة) وهنّ المنبوذات، ويقشعرّ من التعبيرات الخنثوية المنشورة عبر "الميمز" (memes). ينبهر توتو بالذكورات السُميّة (toxic masculinities) والصناعات العضلية داخل القاعات وباستعراض الفحولة عبر "الريلز" (reels)، تلك الشرائط المصوّرة والقصيرة ذات الإضاءات والفلاتر الغامضة والمخادعة. تقول صديقتي اليافعة إنّ جيل ما -بعد- الألفينات سيكون الأشقى في تشييده لصور الذات، وإنّ الأزمات الفحولية والأنوثات الجراحية ستكون هي الأقوى.

كحصان طروادة، اقتحم صراع ابني مع الجندر قلاع الخنوثة التي استغرقتني عقودًا في تشييدها. شهد مطبخنا الأسري آخر مفاوضاتنا الجندرية، وآخر المفرقعات الفحولية لتوتو وآخر انهياراتي النفسية وآخر محاولاتنا للبقاء. 

انهمكت يومًا في غسيل المواعين وانغمس طفلي في هاتفه اللعين، وإذ به يناديني ثم يريني كائنًا خنثويًّا عبر الشاشة ويعلّق متقزّزًا "إخّيت" وهو تعبير عاميّ يفيد الاحتقار. أستعين بصوت حنون ومستعار وأطمس به عبرات الانكسار "علاش إخّيت؟" لماذا هذا الشعور بالقرف؟ فيتأفّف ويتعفّف ويجيبني بامتعاض "تي أوووه نفذلك" (أفّ! إنّي أمزح).

لم يقصد طفلي يومها شرخي من الأعماق، لكنّ ملامحه صدحت منبئة حينها بانسدال الستار.

لم تنجُ أحلام الأسرة الثانية ووعود الحب البديل من حرب التدمير؛ حرب النظام البغيض على النساء والكوير، وعلى حرية الضمير والتعبير، وحق الشعوب والأفراد في تقرير المصير. جرفت الأعاصير دفء أحضان توتو؛ طفل صغير منصاع لإملاءات الجندر وضرورات النجاة التي تحتّم عليه التستّر والانسلاخ عن طيف أم شاذة وموبوءة.

بين وعودي له بالراحة والأمان، وبين إدراكي أنني قد أصبحت خطرًا عليه، فقدتُ معنى وجودي في حياته، وانتهى دوري كأمٍّ كويريّة تحتضن الكوير المنبوذين من النظام. يظنّ توتو أنني السبب في تعريته، فيمحو جميع صورنا وذكرياتنا من انستغرام ويطلب منّي القيام بالمثل.

في أيّام الفقد العشرين، ألتقط عشاءاتي الكئيبة كقطط الشوارع. أجترّ ذكريات مشروعٍ أسريٍّ ضائع وأصارع إخفاقاتي بقلبٍ محتار. قد استثمرتُ كلّ مدّخراتي من الحبّ في علاقتي بابني المختار وتشييدي لحلم الاستقرار هذا... فماذا صار؟!

تُجيبني هتافات ألحانٍ تُطبطب "آهو ده اللي صار وآدي اللي كان، ملكش حق تلوم عليّا."

ثمّ أعوذ بالله من الانهيار، وأجُرّ عجزي وخيباتي وأعود سيرًا إلى الدار مُستقرّة البطن مُبعثرة الأفكار.

بين مطرقة الأحزان وسندان المهلة الأخيرة، أنتظر سكون الليل ليطمئنّ ذهني وأسكن إليه لأسطر بعض الكلمات. لكن هيهات، فقد انطلقت ضوضاء أهازيج الاحتفالات من على أسطح الجيران شاذُّ ضجيج الأعراس لا يشبه ألحان الكون.

تعود هذه الأصياف ممتدة الأطراف كنذير الأجراس، تعود بتذكير سنوي بأنّ فرحة الحب المعلن التي تصم الآذان هي حكر على الآخر المعياري-الغيري (cis-hetero)، وبأنّ أزيز الأعراس المزعج وشرط الإشهار هو تنبيه دوري بأنّ الحب الشرعي والمشاع ليس كويريًا، وبأنّ الحب الكويري إن عيش فلا يُعاش إلا مخفيًا.

صباح الصيف الثالث

يختبرُ هذا الصيف قدرتي على الصمود والثبات، فقد أُنهكت قوى النهوض وأُحبطت جهود الإنقاذ. لم تعد تُجدي تمارين التنفس ومعانقة الذات. لا كبسولات المغنيزيوم تُغيث ولا الاستقواء بالفيتامين ولا وضعية الجنين أو القرفصاء واستجداء الدوبامين بالاستمناء أو التضرّع للماورائيات أو البكاء في الخفاء.

في الأثناء، انتصر الحكم الفاشي المدمِّر للحقوق والحريات بنسبة تسعين بالمئة في انتخابات صورية. وسط هذه الأنباء، تداهمني نوبات هلع قوية؛ ينقبض الهواء في صدري، وينحصر الفضاء بي فأنكسر وأصغر. آخذ فسحة من البكاء وأعيد النظر فيما فات، ثم أُجبر على إحصاء الخسارات وما تبقى من الممكنات.

بعد سجنه لـ(المعارضين والمعارضات، والمهاجرين والمهاجرات، والسياسيين والسياسيات، والإعلاميين والإعلاميات، والنقابيين والنقابيات، والمحامين والمحاميات، والناشطين والناشطات، والمناضلين والمناضلات، والمؤثرين والمؤثرات، والكويريين والكويريات، والإسلاميين والإسلاميات) أحكم أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد إرساء ديكتاتوريته بالاستيلاء على رئاسة تونس للولاية الثانية على التوالي.

مع نهاية هذا الصيف، يغمرني شعور الخوف المألوف من الفقدان فيجتثني من طور الإصباح والإصلاح الذي واعدته، والذي يقذفني إلى ثلاثة أصياف خلت، فيعيدني إلى صيف الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية. أنتقل من الضاحية الشمالية إلى حيّي السابق بالقلب النابض للعاصمة تونس، بحي لافايات الإيطالي ذو البناء الكولونيالي.

مات كريم مُغتصبي متأثراً بالإيدز، وما زال فيروسه بداخلي ينعم بالحياة. رُحّلت بناتي العابرات إلى أراضي المنفى والشتات في غضون شهر. ارتحلت شريفة ابنتي البكر إلى القارة العجوز. وارتحلت نانسي الابنة الوسطى إلى آسيا الصغرى، وأصبحنا نتراهن على من ستظلّ حتى النهاية، ومن ستوصد خلفها أبواب السجون أو باب المطار.

عودة التستوستيرون

مكتسبات عامٍ من التحويل الهرموني راحت سدى بانقطاعي عن العلاج لمدّة عام. عاد شعر جسمي سميكًا، كما الدهون ورائحة التستوستيرون. يقول توتو إنّ بوسع كلّ خنيث أن يسترجل، ولا أعلم حقًا ماذا عساي أفعل فوق هذا التنكّر لأتأقلم.

سيتطلب مني الرجوع إلى وضعيّة اللا-أمّ والعيش بمفردي في لافايات مزيدًا من التوهان. أحمل أوشامي الفحولية ولحيتي وألبستي التنكرية، عرض أكتافي وأحاول عبثًا ضبط مشيتي الخنثوية. أتسلّح بالنظارات الشمسيّة الحاجبة للأضواء، وبالسماعات الذكيّة الحاجبة للضوضاء. قال قائل "عد إلى الأماكن التي بكيت فيها واغمر فضائها بالضحكات، غيّر السرديات".

  • 1جاء تأنيث عبارة مأبون من باب المجاز؛ المأبون هو من به ابنة، أي من به عيب أو داء. للمزيد عن استخدام العبارة في العامية التونسية في مقال سابق لخوخة ماكوير الميبون والطفّار.
    https://jeem.me/gender-sexuality/376
  • 2معجون من الفلفل الأحمر من أشهر المنتجات التي تعرف بها الأكلات التونسية، وتختلف هريسة المعلّبات بمذاقها اللاذع والحامض عن الهريسة الأصلية منزلية الصنع.
  • 3مُشِطّ من أشطّ، وتعني أفرَط.

خوخة ماكوير

خوخة ماكوير فنانةٌ بصريةٌ واستعراضيةٌ كويرية، ومناضلةٌ عابرةٌ جندريًا لا-ثنائية.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.