حين وجدتُ جسدي في حرش بيروت

كيف لفتاة بعمر الطفولة أن تختبر فكرة النسوية البيئية؟ كنت في الخامسة من عمري، لا أعرف شيئًا عن الحياة غير وجه جدتي ويديها مع حديقة بيتنا الشاسعة في القرية. 

اعتدتُ الاستيقاظ عند السادسة صباحًا لأرى جدتي تشرب قهوتها. كانت تصطحبني إلى الجبل في القرية لقطف "العلت" (أو الهندباء) والزعتر والخبيزة، ثم تعود إلى حديقتها لتسقي الزهور والأشجار، وتزرع ثم تزرع وتزرع. 

كانت تزرع كل شيء، والذي كان ينمو مهما كانت الظروف حوله. من هنا، من الركض بين الزهور وتسلق الجبل وراء تاتا، وانتظار العلت الطازج ورائحة المردكوش عند الشرفة، من تاتا ورثتُ علاقتي مع الأرض. ويا للصدفة التي جعلت جدتي كامرأة، واحدةٌ من بين كثيرات ممَن عرفن الأرض وأحببنها. 

انتقلت إلى بيروت "مدينة الباطون أو الإسمنت"، تاركةً قطعةً من قلبي بل وجسدي ككل في أرض القرية، وهو ما تركني أمام أسئلة لا تُحصى، أحاول الإجابة عنها في هذا المقال، فبداية لمَ هذه الصلة؟ وما هي هذه العلاقة بيني وبين الأرض، وبين جدتي والأرض؟ ولمَ فقدتُ جسدي عند أول رصيفٍ دون زهور الحميضة في زحمة بيروت؟ وكذلك لمَ أصبحنا نشتري الليمون بدلًا من قطفه؟ ولمَ ينبهرون بوجود شجرة؟ لماذا يرمسنون الطبيعة، وكيف سعّروها؟ ولماذا يسلبوننا المساحات العامة في المدينة؟

من أرض الهندباء إلى غابة الباطون

بالنسبة لطفلةٍ لم تعرف بيروت إلا في الزيارات المتقطعة والعطل الصيفية، لم أحظَ بفرصة اكتشاف حرج بيروت إلّا بعد سنتين من انتقالي بشكل كلّي للعيش في المدينة. لكني عرِفتُ حديقة السيوفي في طفولتي، إذ كانت أمي تصطحبني إليها في عطل نهاية الأسبوع. كنت ألعب وأمشي وأركض وأتشارك المساحة مع بقية الطفلات والأطفال. كانت تلك حريّتي المختلفة قليلًا عن قطف الزعتر والهندباء من سفوح الجبل في قريتي برفقة جدتي. لم تكن هذه الحريّة متباينة في جوهرها، بل فيما يمكن تسميته بمتلازمة القرية مقابل المدينة. ما بقي مشتركًا هو الأرض، وإحساسي العميق بأنها "أرضنا"، وهذا ما أُسمّيه الوعي بالمساحة العامة؛ بإمكانيتها التشاركية وبالانتماء إليها حتى في أعمار الطفلات والأطفال. من هذا الوعي يمكننا أن نقرأ ما تُنتجه التشاركية في المكان: تلك الشرعية التي تضفيها عليه وتجعله عامًا.

إن قطف الزعتر والهندباء بحد ذاته، فعلٌ يقول إن هذه الأرض ليست لأحد بعينه، بل للجميع، كما الركض واللهو، وحتى مجرّد المشي فوق الأرض يعني أنها لنا.

لكن ماذا عن قطف الأعشاب والنباتات؟ عن زراعتها والاهتمام بها؟ لمَ كانت جدتي من تفعل ذلك ولم يكن أبي أو جدي؟ هل كانت تمتلك "سرّ الأرض"؟

هكذا ظلّت فكرتي عن المدينة: حديقة سيوفي كبيرة. كنتُ أتخيّل أن بيروت كلّها تشبهها، بالأشجار والخضرة ذاتها.
 إلى أن انتقلتُ إلى بيروت في الثامنة عشرة من عمري، واكتشفتُ أنّها كما وصفتُها حينذاك ليست سوى كومة باطون.
 ظلّ شيءٌ من القرية عالقًا فيَّ، شبحٌ من "الأرض" (كتاب ما تبقّى - ص47)، وعلاقتي بها.
 لكن بيروت سلبتني "سرّ الأرض". وظللتُ أبحث عمّا فقدت، متسائلةً عن ماهيّته ومن أين أتى.
لم أقتنع بما رأته عيناي. فهل لم تكن هناك علاقة مع الأرض هنا في بيروت؟ لا نساء يزرعن ويسقين ويقطفن؟ لا شعور يربطني بها؟
لاحقًا فقط اكتشفتُ أن بيروت قد ردمت. جردوها من أحيائها وأسواقها الشعبية، حولّوها إلى كومة باطون وأبنيةٍ فارهة، لا تُشبه النسيج العمراني الذي كانت عليه.

فتّشتُ في هذه المدينة عن فيء شجرة أوشقّةٍ يدخلها ضوء الشمس، وعن أشباح الفتاة التي كانت تقطف الزعتر والهندباء، وتلعب بين أشجار الصنوبر في الدار، بينما تلاحقني في مواجهة شقق بيروت المظلمة وباطونها الصامت. امرأةٌ تبحث عن الأرض وتتساءل عن سرّ هذه العلاقة الغامضة معها.

النسوية البيئية ونباتات جدتي

تتقاطع الحركة النسوية مع مفاهيم العدالة المناخية واستغلال الأرض انطلاقًا من فكرة الاضطهاد المزدوج للنساء والبيئة في آنٍ واحد. ومن هذا التقاطع وُلدت فلسفة وحركة النسوية البيئية، كما صاغتها النسوية الفرنسية فرانسواز دوبون عام 1974. لاحقًا نجحت إينسترا كينغ في إخراج هذا المفهوم من إطاره الأكاديمي إلى فضاء أوسع، عبر مقالتها المنشورة في مجلة ذا نيشن عام 1987، تحت عنوان "ما هي النسوية البيئية؟". وقد شكّلت هذه المقالة نقطة انطلاق لبحث أوسع في هذا الحقل.
 في هذا السياق تؤكّد ماجاندرا رودريغيز آشا، الناشطة في مجال العدالة المناخية والنسوية المثلية، أنّ: "أولئك الذين تُؤخذ أجسادهمن وحياتهمن وكرامتهمن كوسيلة لتحقيق غاية التراكم هم/ن الشعوب الأصلية التي خضعت للاستعمار، والعاملات والعمال في أدنى درجات السلّم الاجتماعي، والأقليات السوداء والسمراء، والنساء اللواتي يعشن عند تقاطعات متعدّدة للاضطهاد".  

ارتبطت المرأة تاريخيًا بالبيئة بالطبيعة والأرض، في مقابل الرجل الذي جرى تمثيله بصفته مرادفًا للتقدّم و"الحضارة" والتطور التكنولوجي. من هذا التقابل نشأت فكرة أحقّية الشركات الخاصة في امتلاك الأرض والتصرّف بالطبيعة، بوصفها شيئًا قابلاً للتقويض والاستغلال والاستنزاف، بهدف الإنتاج وتراكم الأرباح؛  وهي علاقة تُحاكي في جوهرها علاقة النظام الأبوي بالنساء.

هذا التشبيه يُشكّل إطارًا لفهم سياسات بعض المؤسسات الدولية التي تُعيد إنتاج دورة جديدة من التراكم البدائي، كما تشرح النسوية الماركسية سيلفيا فيدريتشي، فخصخصة السلع المشتركة كالماء وتهجين البذور، تمثّل شكلًا جديدًا من أشكال الاستيلاء على الموارد الأساسية المرتبطة بالبقاء، والتي تُحوَّل الأراضي الزراعية من زراعة المحاصيل الصالحة للأكل إلى مساحات لاستخراج المعادن وإنتاج الوقود الحيوي، وكذلك الأمر فيما يتعلق بإزالة الغابات.

كلّ ذلك يُفضي إلى تدمير الحياة بأشكالها كافة، ويشكّل البنية التحتية لعلاقات الإنتاج الرأسمالية التي لا تكتفي بتدمير البيئة، بل تزيد من استغلال العاملات والمزارعات وتعمّق معاناتهن.

بين النسوية البيئية الثقافية التي تُكرّس فكرة أن المرأة تجسيدٌ للأرض والبيئة، وتنطلق من قراءة إيجابية لهذه العلاقة، والنسوية البيئية الراديكالية التي ترى فيها تقاطعًا لاضطهادٍ مزدوج تمارسه الرأسمالية والأبوية معًا على النساء والبيئة، أقف  في علاقتي مع جدتي وأرض القرية، وفي علاقتها مع الأرض، وبشبح الأرض الذي يلاحقني في بيروت.

في بيروت اكتشفتُ هذا الاستنزاف الممنهج للطبيعة، وهذا التسليع الذي يُفرغها من معناها. ومع ذلك وجدتُ في المساحات العامة الخضراء متنفسًا، وفرصةً لاسترجاع شبح الأرض وعلاقتي الحميمة بها، لتصبح مساحةٌ تسمح لي بإعادة وصل ما انقطع بيني وبين جسدي، الذي انفصل عني قسرًا حين انسحبتُ من أرضي ودُفعتُ إلى داخل عجلة الإنتاج الرأسمالي.

حين يصبح الليمون امتيازًا

ما زلتُ أذكر يومي الأول في المدينة، حين صُدمتُ بأن الناس هنا يشترون ماء الشرب وآخر للاستخدام. كيف نشتري الماء؟! اعتدتُ في قريتي أن نشرب من صنبور الماء مباشرةً، ولم أسمع يومًا بمصطلح "شراء الماء للاستخدام"، إذ كانت المياه موجودةً ببساطة دون مقابل مادي.

مع غياب المساحات العامة أو الخضراء للزراعة في المدينة، وضيق الشقق التي غالبًا ما تفتقر إلى الشرفات وارتفاع إيجاراتها لم أملك خيار الزراعة، وبالتالي اضطررتُ للمرة الأولى في حياتي لشراء الليمون! كان الليمون في قريتي متاحًا كالماء، لدينا شجرتان تحملان طوال الموسم، حتى أننا كنا نوزّع منهما على الجيران. هنا فهمتُ أن طريقة الإنتاج وحجمها وكلفتها، كلها أشياء خارج سيطرتنا في بيروت، خاصةً في الزراعة.

غابت عن نظامي الغذائي نبتة الهندباء، ورغم وجودها في السوق رفضتُ شراءها، فقد كانت هذه العملية تُشعرني بشيء من التقزز والانسلاخ الجبري عن علاقة كانت تجمعني بأرضٍ ما. ها هو شبح الأرض يعود ليخيّم على جسدي.

ومن جهتها لا تتوقف المدينة عن مفاجأتي. هل سمعتم بمصطلح "جولة على الأقدام" أو "hiking" من قبل؟ إنه نفس نشاط جدتي بالمشي بين الجبال في القرية لجمع الهندباء. ولكن هنا في المدينة، هذه تجارةٌ واضحة لها مرشدوها وروّادها. نعم، لتذهبي في "جولةٍ على الأقدام"، أنتِ بحاجةٍ لدفع مبلغ من المال وحجز مقعد. تدفعين ثمن رؤية الطبيعة والشجر والمشي والمجموعة خارج مدينة الباطون. يا للسخرية.

الانبهار بشجرة

عندما انتقلتُ إلى بيروت، وجدتها شاحبة وتفتقر إلى اللونٌ أخضر، وكنت أستغرب-كما في كثير من الأشياء- انبهار الناس بالشجر، لماذا هذه الصدمة كلما رأيتمن شجرة؟ كنت أستيقظ كل يومٍ بينما ضوء الشمس يتسلل إلى وجهي من نافذة غرفتي في القرية، ثم أجلس أمام أية نافذة لأرى أية شجرة. كان وجود الشجر أينما كان أمرًا اعتياديًا لا يدعو للانبهار، وبالتالي ألفناه كوجوه بعضنا البعض. علّقتُ بهذه الفكرة مؤخرًا خلال ورشة عمل حول النسوية البيئية، إذ أوضحت المُشارِكة باميلا مسلّم بأن فعل الانبهار بالطبيعة أحيانًا، قد يكون جزءًا من تعبيرنا عن عملية سلخنا عنها، أو تقديرًا لمْ نألفه أو لم نملك فرصة لذلك. وأعتقد أنها مُحقةٌ بقولها، إذ رأيت ما لم أختبره من مشاعر، بعيون وملاحظة غيري.

وجدتُ ضالتي 

بعد رحلةٍ طويلة مع شبح الأرض وجدتُ حرش بيروت. التقطتُ أنفاسي الضائعة بين كومة الباطون، بعد أن وصلتُ متأخرةً إلى معركة استرجاع الأرض.

أرض الصنوبر التي صمدت أكثر مما صمدنا نحن كأجيالٍ متعاقبة، تحمّلت ما لم نحتمل: القطع الممنهج، والمشاريع "الإبداعية" للهدم والردم والتقسيم والحرب الأهلية والعدوان الإسرائيلي. عندما عدت كان الحرش يُفتح فقط في عطلة نهاية الأسبوع. لم أفهم لماذا يُسلبنا النظام المتنفّس الأخير المتبقي في المدينة، ولماذا تُفرض علينا أيام "زيارة" إليه، وكأننا نزور مريضًا في المستشفى.

لم تسعني الفرحة حين وجدتُ ضالتي؛ الأرض التي سُلختُ عنها في القرية. لكن شيئًا ما ظلّ يحزنني. فقد مضت سنتان حتى وجدتُ الحرش، وهناك علمت أن الدخول ممنوع إلا في أيامٍ محددة، رغم أن لا متنفس في هذه المدينة سوى هذا المنتزه، ومعه بضعة حدائق متفرقة تخضع هي الأخرى لمحاولات التلزيم أو الاستثمار أو البيع.

تُشيَّد الأبنية فوقها، أو تُردم ببساطة وتُترك لتحتضر، فقط لأن أصحاب السلطة والثروة لا يريدون للمواطن العادي أن يمسّها.

كم هو مكلف أن تكوني مواطنةً عادية في هذه البلاد!

ثمنه أن تتمشّي خارج الحرج كمُشاهِدة، ترين الأجانب يمارسون رياضاتهم المفضّلة على أرضك، بينما يُمنَع دخولك، تُسلَب علاقتك بالأرض، وتُجرّدين من حقّك في الهواء والخضرة والظلّ.

فأن تكوني "مواطنةً عادية" هنا، لا يكفي لتتنفّسي هواءً نقيًا، أو تجلسي تحت فيء شجرة.

إلى أن جاءت جمعية "نحن" عام 2010، ونظّمت حملة "إعادة فتح حرج بيروت"، والتي شكّلت ائتلافًا مع جمعيات أهلية أخرى، وقدّمت إلى البلدية خارطة طريق مدعومة ببحث شامل نحو إعادة فتح الحرج.

بفضل هذه الجهود الأهلية والاجتماعية، فُتح الحرش جزئيًا خلال عطلات نهاية الأسبوع، ثم لاحقًا بشكلٍ كامل.

يُعتبر حرش بيروت أكبر مساحة خضراء عامّة في العاصمة، وتُقدَّر مساحته اليوم بحوالي 300 ألف مترٍ مربّع. ويميّزه إلى جانب اتساعه النادر، موقعه الجغرافي الجامع لأحياء مفككة طائفيًا (سنة وشيعة ومسيحيون) وطبقيًا؛ إذ يمتد على تخوم طريق المطار القديمة، ويتقاطع مع مناطق المزرعة وطريق الجديدة وقصقص وصبرا وغبيري والشياح وفرن الشباك وبدارو. 

لكن هذا الامتداد الجغرافي لم يكن دومًا بالحجم ذاته؛ ففي عام 1696 بلغت مساحة الحرش نحو مليون و250 ألف مترٍ مربّع، أي أكثر من أربعة أضعاف مساحته الحالية. ومع الوقت تقلّصت هذه المساحة بفعل مشاريع استثمارية وتعدّيات ممنهجة، حتى استقرّت على ما هي عليه اليوم.

عدتُ إلى الحرش بعد سنواتٍ من العيش في بيروت، محمّلةً بكل آثار البقاء فيها من: اكتئاب وقلق وانفصال عن الجسد، وكذلك عن الأرض بوصفها مساحةً عامة.

أعاد إليّ الحرش علاقتي بجسدي ووثّقها. ولا أقول ذلك من منطلق فردي، ولو بدت نبرة هذا النص شخصيّة، لأنني أؤمن أن التجربة الشخصية حين تُروى تصبح سياسيّة واجتماعية. أنا لستُ وحدي في هذا الطريق ولا يجب أن أكون. لذا من الضروري أن نعيد طرح أسئلة مثل: ما الذي يربطنا بالحرش؟ ما الذي يُمثّله بوصفه مساحةٍ لنا؟ وماذا تعني علاقتنا به حين تُبنى على التشاركية؟ في هذه الأسئلة مقاومةٌ لتسليع الطبيعة، ومحاولة لتأكيد عموميّة المكان، فالوجود في الحرش بكلّ بساطة من اللعب إلى الرياضة أو حتى التواجد الصامت، هو فعل سياسي في وجه خصخصة ما تبقّى لنا من نفس. 

الركض نحو الجسد

كنتُ أمشي من بيتي في فرن الشباك إلى حرش بيروت، فقط لأبدأ المشي داخله. ذكّرني الحرش بأنني أهوى الركض كرياضة، لذا بدأتُ التدرب على الركض تدريجيًا ، حتى وجدتُ نفسي أركض ستة أيام في الأسبوع.

استعدتُ وعيي بجسدي ووجود، وبأهمية تذكّره داخل مساحة عامّة، لا استهلاكه في الحياة اليومية فحسب دون وعي، مغتربًا عن واقعه وغارقًا في عجلة الإنتاج الوحشية.

ومن هنا أستذكر مفهوم "التغريب" عند كارل ماركس؛ إذ تُقدَّم صورة الإنسان في القرن الثامن عشر على أنه فرد اقتصادي ومعزول ومُشكَّل مسبقًا، يتصرف بعقلانية لتحقيق أهداف اقتصادية محددة سلفًا.

لكنّ هذا الشكل من الفردية لا يُعبّر فعلًا عن سمات إنسانية أساسية مثل: العقل أو المصلحة الذاتية أو الميل إلى المقايضة، بل يُستخدم لتكريس الرأسمالية كنظام اجتماعي.

ويذكّرنا هذا التصوير بتعريف الاغتراب بوصفه عملية يُستولى فيها على نتائج الإنتاج وتُحوّل إلى رأسمال؛ ما يعني أن التنمية الإنتاجية لا تعزّز القوة الاجتماعية للمنتجين، بل تعزّز قوة رأس المال كقوة غريبة ومعادية. ونظرًا لأن نتائج الإنتاج تشمل أيضًا الذات المنتِجة وعلاقاتها الاجتماعية، فإن الصراع بين رأس المال والعمل يمتد إلى المجتمع بأكمله.

ينشأ الاغتراب من نتائج العمل الحي، والتطور التكنولوجي وإزالة الحواجز التقليدية والمكانية والطبيعية وتنويع الاحتياجات، ولكن فقط حين تتجسّد هذه العمليات في إطار نظام رأسمالي نعيد نحن إنتاجه باستمرار، وهو نظام يُنتج معدلات هائلة من الوحدة والعزلة والاغتراب عن الذات.

فالاغتراب لا ينبع من مواجهة بين الفرد والمجتمع ككيان خارجي، بل هو تعبير عن تناقض متجذّر في التنظيم الاجتماعي للإنتاج، والذي لا يمكن تجاوزه إلا بمزيدٍ من التنمية والتعاون الاجتماعي لا عبر تقليصهما.

من هنا أربط بين مفهوم الاغتراب كتحليل اقتصادي اجتماعي، وبين علاقتنا بأجسادنا ومحاولات السيطرة عليها من قِبل النظام الأبوي.

أستعير هنا مصطلح "استعمار الأجساد" من إحدى المشارِكات في ورشة عمل نظّمتها ورشة المعارف حول الكتابة الإبداعية والوعي الجسدي، للتعبير عن هذا النوع من التقويض والحدّ من إمكانية وصولنا إلى المساحات العامة، التي تُشكّل ضرورة أساسية للتنمية والتعاون الاجتماعيين.

وحرش بيروت مثال حيّ على ذلك.

بيروت التي لم أرها 

كفتاةٍ من القرية لم يُذكّرني الحرش بقريتي، بل ذكّرني ببيروت التي قرأتُ عنها ولم أرها. بيروت ما قبل العمران العشوائي، وقبل الاستثمارات العقارية التي التهمت المساحات الخضراء، وكسرت النسيج العمراني الاجتماعي لأحيائها.

لكنّ الحرش كان مألوفًا لي، لا كمساحة تذكّرني القرية، بل كعلاقة تربطني بالأرض والمجال العام. كنت أرى المرأة ذاتها تركض باستمرار، وتحيّيني مشجّعة: "برافو!"

لقد نسينا في هذه المدينة أننا نعيش معًا. نسينا حتى أن نُلقي التحية. في الحرش هناك مجموعات تعرف بعضها البعض، أشخاص يتبادلون الأحاديث كل صباح. هذا الحديث لا يمكن أن يبنى على كومة باطون أو فوق الزفت. لكنه بلا شك يخلق في مساحة عامّة وخضراء، حيث يُنسَج فيها فعل التشارك، ولو كان مجرّد تبادل كلمات أو محاولة لاستعادة وعينا بأجسادنا التي سُلبت منا تحت ثقل الاغتراب الرأسمالي.

في الحرش كلابٌ وقططٌ وعصافير، تُذكّرني جميعها بعلاقة الإنسان مع الحيوان التي نسيناها، أو في أحسن الأحوال، والذي روّضناه ليكون شريكنا في الباطون، أو القفص باختلاف حجمه أو مواد صُنعه، فحتى الشقق صارت أقفاصًا صغيرة. كما نشأت مجموعة تطوعية لمساعدة وإطعام الحيوانات في الحرش: وفي هذا المكان، نشأت مجموعة تطوعية تهتمّ بحيوانات الحرش: تُطعمها، تتابع حالاتها، وتمنحها بعض الأمان.

ليست جمعية غير حكومية ولا مشروعًا ربحيًا، إنهنّ مجموعة نساء يعتنين بالحيوانات ببساطة كفعل إنساني واجتماعي وحيّ.

حرش بيروت يُذكّرني ببيروت التي لا أعرفها، لكنه مألوفٌ أيضًا من حيث الأرض. عندما دخلته للمرة الأولى لم تكن تلك المرّة الأولى فعلًا، ذكّرني بمعنى "البيت" - لا بيتي تحديدًا، بل المنزل الذي نعرفه ونشعر به ذكّرني بالأرض.

فأشجار الصنوبر والزنزلخت والبلوط، تبدو مألوفة لنا؛ ونون الجماعة هنا ليست تفصيلًا، بل هي ما يربطنا بالأرض، بما اعتدناه في أرضنا. تنمو في الحرش أيضًا نبتات الهندباء والحميضة والخبيزة، ولا توجد امرأة من القرية لم ترها أو تتذوقها من قبل. وهذا ربما ما يجعلنا نشعر بهذه الألفة تجاه الحرش.

هذه الألفة تقابلها الغرابة التي أشعر بها خلال طريقي من فرن الشباك إلى الحرش. هناك على امتداد الطريق، خطّ من أشجار النخيل أشجار لم أعرفها جيّدًا من قبل.

الحرش يُشبهنا حتى في إيكولوجيّته. وحتى وإن لم أجد فيه قريتي، وجدتُ فيه جسدي. رأيتُ من خلاله شبح الأرض، وتعلّمتُ كيف أتعامل معه، بالتوازي مع جسدي، ومع العلاقة التي تربطني بالمكان. 

    مريم شعيب

    صحافية مهتمة بالكتابة والتدوين حول القضايا النسويّة وتقاطعها مع السياق الاجتماعي المُعاش والبحث في سياقات المساحات العامة وعلاقة المكان/الطبيعة بالحياة الشخصية واليومية. تحمل إجازة في الصحافة من الجامعة اللبنانية. تهوى الطهي والمطبخ كتعبير عن الحب والتجذّر بالأرض والثقافة، كما تحب الحيوانات والشجر.
     

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.