بدأ الأمر كعادة عابرة، قكنت أتجوّل في أسواق الأشياء القديمة دون البحث عن شيء محدّد، كل ما في الأمر أنني كنت أنجذب إلى كلّ ما هو ضائع أو متروك. بدأت أُصادف صورًا وبورتريهات لنساء معظمهن بلا أسماء، أكثرهنّ بلا وجوه أو بوجوه مُشيحة عن عدسة الكاميرا. لم أكن أعرفهنّ، لكن شيئًا ما في حضورهنّ كان يربكني، أو ربّما طمأنني.
في البداية خُيّل إليّ أن الأمر مجرّد صدفة. لكن كلّما تراكَمت الصور، تراكم معها شعور غريب لم أستطع تسميته أو تحديده بدقّة. نوع من القرب في إيماءاتهنّ والتفاصيل المكرّرة من حولهنّ والسكون الهادئ المحيط بهنّ. بدأت التخيل: من كُنّ؟ ما الذي كان يملأ أيّامهنّ؟ أيّ عوالم داخلية كانت تخفق تحت هذا السطح المألوف؟
لماذا أشعر بهذا الاتصال العميق مع صور نساء لا أعرفهن؟
أفكّر في نساء عائلتي، وفي علاقتهنّ مع الملل.

كيف قضينَ أيامًا طويلة تتشابه فيها الساعات والتفاصيل، دون سعي دائم للإثارة أو التجديد؟
ماذا يعني أن تكون الحياة مملّة، لا لأنها فارغة، بل لأنها مألوفة وراكدة وهادئة؟
ماذا يمكنني التعلم منهنّ؟ من أولئك اللواتي عشنَ في ظلّ الرتابة، وربما وجدن فيها نوعًا من السلام؟ كيف استطعنَ أن يتحمّلن مرور الوقت بهذا البطء، وكيف قرأن العالم داخل حدود "العادي"؟

أتذكّر يدي جدّتي تطويان الغسيل. أمي تتحرّك بين الغرف دائمًا بنية واضحة. عمّاتي ينادين من المطبخ ويجرّبن وصفة جديدة، أو يُتقنّ وصفة قديمة. الطبخ كان شغفًا وطقسًا وإيقاعًا يوميًا، لكنه أيضًا كان مغلفًا بالواجب، والعناية بالآخرين أكثر من الذات.
كان روتينًا من الصمت وعملًا غير مدفوع، يُورّث دون أن يُسأل.

بدأت أتساءل: كيف كان يبدو الملل بالنسبة لهنّ؟ هل كان ثقيلًا؟ حزينًا؟ أم شيئًا آخر تمامًا؟
قرأتُ ذات مرة أن العمل المنزلي - وخصوصًا عمل النساء- صُمّم ليختفي، أن رتابته ليست طبيعية، بل مفروضة.

أدركت حينها أن مشاعري ليست فردية بل بنيوية.
أنا المدمنة على الدوبامين، التي لا تعرف كيف تُكمل يومها دون تحفيز مستمر.

أتوق لعالم أغمض فيه عينيّ، وأتخيّل حياة مليئة بالملل. لا أتذكّر آخر مرة جلستُ فيها خلال ساعات البطء.

لكن…
ربما،
أولئك النساء،
تلك الصور،
يُعلّمنني شيئًا.
يُعلّمنني التروّي.
البقاء.
والتمسّك بالبطء.
إضافة تعليق جديد