تساءلتُ كثيرًا عن معنى القصص في ظلام الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني وعن طمر رواياتنا في الماضي وكأننا اللّاشيء أو اللّاأحد. في نبش قصصنا ربما بحثٌ عن معنى ما، أو محاولة لاستعادة القوّة التي سُلبَت منّا. كثرٌ من حولي لا يأبهون بالقصص، أو ببساطة لا يريدون أن يتذكّرهم أحد، وذلك مثير للإعجاب حقًا. لكن كلّما تقدَّمَ الزمن بي، تمنّيتُ أكثر ألّا يلقاني شبحُ النسيان. ذاك الشبح نفسه الذي يطرق أبوابَ غزة وأهلَها العزّل. قصصهم وتخوّفاتهم ونداءاتهم وانتصاراتهم الصغيرة وروائح الموت المحيطة بهم… كلها أشعر بها. أسمعُ في عنادهم صوتَ الشباب المتمرّد وأرى في حزنهم ملامحَ جدّتي عائشة.

التوتة والكهف، ساحة البيت، صَفّورية - تصوير مي جيرافي
على مرّ العصور، من هنا حيث وقفتُ في صَفّورية في الجليل لأشاركَكن/م هذه الصور، مرّتْ نساءٌ شجاعات، عشنَ وصمدنَ وجمّلنَ الحياة بحضورهنّ. وقفتُ كامرأةٍ بجذورٍ تضرب عميقًا في الأرض، أحمل معي أثر اللواتي مشينَ في هذا المكان من قبلي: جدّتي عائشة، وقبلها حنّة -جدّة يسوع التي غرست بذرةَ الإيمان- ومريم العذراء أمّ يسوع، ومريم المجدلية التي أخلصت وتحرّرت، وأسطورة "موناليزا الجليل"، وجميع النساء المجهولات اللواتي حمَلْنَ بصمتٍ أثقالَ الحياة على أكتافهنّ.

كنيسة القديسة حنة، صَفّورية - مصدر الصورة: موقع منار الأثار
من صَفّورية الباقية، زينة الجليل، برهانٌ حيٌّ لذاكرةٍ نابضة لن تُؤخذ منّا. هنا أخلّد الذاكرة، في الوطن الذي حلمَ به المنسيّون/ات والمُبعَدون/ات والراحلون/ات، والوطن الذي ما زال ساحرًا رغم تعبه منقطع النظير وبسيطًا كشجرة التوت في فناءٍ مهجورٍ أمام بيتٍ مهدّم ومغارةٍ تصرّ على الصمود لتحتضن كل القصص.
لستُ امرأةً استثنائيةً، حياتي عادية. لكن الحكايات التي أحملها تنبض برحلة ثرية في تفاصيلها الصغيرة. في هذه الصور، وبملابسي المعاصرة ومنديل أمّي، أربط بين ملامحي وقصّة قديمة رواها لنا جدّي عن جدّتي وأستذكرها ردًّا على مساعي المحو الحثيثة التي نتعرّض لها في غزّة وفلسطين.

كنيسة القديسة حنة، صَفّورية - مصدر الصورة: موقع منار الأثار
حكاية جدّتي بعيدة عن التقليد أو الفلوكلور. فجدّتي -كما أنا اليوم- كانت إنسانةً عاديةً، لكنها امتلكت ما يكفي من الشجاعة لتصنع فرقًا. لحظةَ دخول الجيش الإسرائيلي وخلال أولى حملات الاستطلاع التي طالت قريتنا المُهجَّرة في تموز/يوليو 1948، اختبأ حوالي 30 شخصًا في هذه المغارة نفسها واحتموا خلف الحطب والقش.
بكى آنذاك أطفالٌ كثرٌ من الخوف والجوع والعطش، فزحفتْ جدّتي التي بالكاد كانت تبلغ عشرة أعوامٍ حينها، على بطنها، من المغارة إلى البستان، لتؤمّن ما تسقي وتطعم به الجائعين/ات وسط الحصار. لمعت عينا جدّي حين رآها، فتزوّجها بعد سنوات، ثمّ وُلدت أمي، وفيما بعد، وُلدتُ أنا.

ما تبقّى من منزل الأجداد، صَفوّرية - تصوير مي جيرافي
عاشت جدّتي حياةً صامتة ومتواضعة، ولم تخبرنا يومًا حكاياتها. مع ذلك، أحبّها كلّ فرد من العائلة وخصّص لها كل حفيد مكانًا مميزًّا في قلبه. تركتْ جدّتي في ذاكرتنا الصغيرة أثرًا جميلاً ظلّ يرافقنا كعناقٍ حميم. رحلت وفي قلبها وجعُ فقدان أحد أبنائها، ثم لحقت به على غير ميعاد. ألهمتْ جدّتي وحكاياتُ مَن سَبقنَني فيّ الشجاعة، فتعلّمتُ أن أؤمن بالأحلام وأن أبدأ من جديد رغم المشّقات، وأن أؤمن أن هويّتي لا تُباع، وأن الإبادة لا تُسلَّع، لأن قصصنا ببساطة لا تُباع ولا تُشترى.
نشارك العالمَ قصصَنا عن أوطاننا وسنظلّ نفعل ذلك، لكن المشهد العام يخنْقنا بكثرة محاولات التسلّق والسير على السجّادات الحمراء على حساب فجائع غزة، الكابوس الأعظم. فإسرائيل ليست في هذا الصدد الوحيدة التي تسرق التاريخ لإشباع نرجسيّتها.

فسيفساء بنات النيل، صَفّورية - مصدر الصورة: موقع منار الأثار
في مواجهة كل ذلك، تبقى ذاكرتُنا الصافية وحدها ما يقاوم، إذ تعجز القوّة ورأس المال عن مجاراة إنسانيتها وحقيقتها. من قلب صَفّورية، حيث تتنفس الأساطير بين الصخور القديمة، تبقى الفسيفساء الرومانية عصيّةً على المحو. تتنازعها الأيديولوجيات فيما يواصل "ديونيسوس" الصَفوريّ المتمرّد رقصَه رغم كل شيء. ومثل "ديونيسوس"، أحاول أن أواصل الرقص في مجتمعٍ يعشق صمتي ويحرسه.
بين حريّة "ديونيسوس" وابتسامة موناليزا الجليل الغامضة في صّفّورية الجمال والتاريخ، أقف اليوم محاوِلةً أن أوازن بين عنفوان التمرّد وعمق الصمت، وبين أشكال مقاومتي وإرث النساء اللواتي سبَقْنني.

فسيفساء موناليزا الجليل أو The Mona Lisa of the Galilee، صَفّورية - مصدر الصورة: موقع منار الأثار
موناليزا الجليل تهمس لي أن القوة تكمن أيضًا في الجمال، لا الظاهر وحسب، بل في جمال التاريخ الذي نحمله ويحملنا.
إضافة تعليق جديد