في اليمن أوجاع النساء تُساق إلى المُشعوذين بدلًا من الطبيبات

لم تكن سامية (اسم مستعار)، وهي شابة يمنية في منتصف العشرينيات من منطقة الحمراء في محافظة لحج، تدرك أن ما تعيشه منذ سنوات هو نوبات اكتئاب وقلق حاد، فيما فسّرت أسْرتُها صمتها وانعزالها على أنهما "سحر" أصابها بعد خطبتها، وبينما تدهورت حالتها، قرّرت العائلة اصطحابَها إلى أحد الرقاة في محافظة لحج جنوبي البلاد حيث تعرّضت لمحاولة علاج قاسية كابدت فيها الخنقَ والضربَ بحجة إخراج الجنّ منها. 

خرجت سامية من تلك الجلسة مكسورة الجسد والروح فيما ظل الألم الذي يعتري داخلَها بلا اسم، وبلا تشخيص، وبلا علاج.

قصة سامية ليست استثناءً في اليمن بل نموذجًا لواقعٍ تعيشه آلاف النساء ممّن تُتركت معاناتهن النفسية لمفاهيمَ غيبيّة وممارسات خطيرة بدلًا من الرعاية الطبية المتخصّصة، وفي مجتمعٍ تثقل فيه الوصمة ضد كل من تجرؤ على الاعتراف بمرضها النفسي، يُصبح الألم صامتًا والعلاج مؤجّلًا والخطر أكبر. وفي غياب الرقابة الصحية والدينية الرسمية، تتوسّع دائرة الخرافة فتتقلّص فرصُ النساء في النجاة من نفق الظلمة الذي لا يعدنَ يَريْن في آخره أي ضوء.

غياب الرقابة الصحية وقود للشعوذة

في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2025، شهد مستشفى في محافظة إب شمالي اليمن حالةً صادمةً بعد أن أوصلت إليه امرأةٌ في الثلاثين من عمرها نقلتْها أسرتُها وهي في حالة إغماء، كما قال لنا طبيب فضّل عدم الكشف عن اسمه، قبل أن يكتشف الفريقُ الطبي أنها وصلت متوفّاة. وبحسب رواية ذويها خضعت الشابة لجلسة "رقية" لدى أحد المُقرئين الذي عمد إلى خنقها بقوّة بدعوى "إخراج الجن"، ما أدّى إلى فقدانها الوعي ثم مفارقتها الحياة. 

يقول الطبيب المشرف على الحالة: "وصلت المريضة من دون نبض أو نفس، مع آثار اختناق واضحة، وهو ما يدل على أن ما حدث ليس "رقية شرعية" بأي شكلٍ، بل ممارسة خطِرة ساهمت مباشرةً في وفاتها، إذ إن الرقية الصحيحة لا تتضمن إيذاءً جسديًا على الإطلاق، وأي ادعاء يخالف ذلك يعرّض الأرواح للخطر".

ويؤكّد الطبيب أن ما حدث ليس حالة فردية: "انتشرت في الآونة الأخيرة هذه الممارسات التي تُنسب للرقية وهي في حقيقتها إيذاء مباشر قد يفضي إلى كوارث"، مشيرًا إلى أن "غياب الوعي والرقابة على بعض الممارسين يفتح الباب أمام المزيد من الضحايا، ما يستدعي تحرّكًا جادًّا لحماية المجتمع وتوجيهه نحو العلاج الصحيح سواء كان طبيًا أو شرعيًا دون تعريض الأرواح للخطر".

وصمة اجتماعية ضد خدمات الصحة النفسية

في ظل تدهور الوضعين الصحي والنفسي في اليمن، تتفاقم معاناة النساء اللواتي يواجهنَ اضطرابات نفسية يجهلنَ طبيعتها أو كيفية التعامل معها، خاصة مع ارتباط هذه المعاناة بوصمة اجتماعية قوية تجعل المرض النفسي في نظر الكثيرين/ات مُعادِلًا للسحر أو المسّ أو ضعف الإيمان، ما يدفع نساء كثيرات إلى تجنّب زيارة الأطباء النفسيين والبحث بدلًا من ذلك عن تفسيرات غيبية وعلاجات شعبية غير آمنة.

في هذا الإطار تؤكّد مشرفة إدارة الحالات للناجيات من العنف في اتحاد نساء لليمن في عدن فالنتيا مهدي على وجود خلط مجتمعي واسع بين الحالات النفسية الطبيعية التي قد يختبرها أي إنسان نتيجة الضغوط اليومية والأمراض النفسية التي تتطلّب تدخّلًا طبيًا متخصّصًا، موضحةً أن المشكلة الحقيقية تكمن في ضعف الوعي باضطرابات الصحة النفسية، إذ يميل البعض إلى تفسير أي معاناة نفسية بأنها "مسّ" أو "سحر"، ما يؤدّي إلى تأخّر العلاج وتحوّل الحالات البسيطة إلى اضطرابات مزمنة أو أكثر تعقيدًا.

وشدّدت مهدي على خطورة لجوء بعض الأسر إلى ممارسات غير علمية يدّعي أصحابها القدرة على إخراج الجن والتي قد تصل في بعض الحالات إلى الإيذاء الجسدي والنفسي، مؤكّدةً أن "ذلك يُعدّ استغلالًا وجريمة بحق المرضى والمريضات"، مشيرة إلى أن العلاج النفسي اليوم متاح ومتطوّر وأن زيارة الطبيب/ة أو الأخصائي/ة النفسي/ة ليست عيبًا بل خطوة صحية تمنح الفرد طاقة إيجابية وقدرة على مواجهة ضغوط الحياة، داعيةً إلى تعزيز الوعي ودعم خدمات الإرشاد النفسي في المدارس والمجتمع لضمان تنشئة جيل أكثر وعيًا وسلامةً نفسية.

حين ينافس الشيوخ الطبيبات

تكشف ظاهرة رفض العلاج واللجوء إلى الرقيّة غير السليمة عن فجوة واسعة في الوعي إزاء قضايا الصحة النفسية في المجتمع اليمني، لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية والنزاعات المستمرة التي ضاعفت نسبَ القلق والاكتئاب والصدمات النفسية. ومع قلّة المراكز المتخصصة وارتفاع تكاليف العلاج، يصبح اللجوء إلى الطرق الشعبية خيارًا متاحًا وشائعًا رغم خطورته.

بحسب الأخصائية النفسية الدكتورة إيمان لطف البريهي، فإن الطبّ النفسي يُفسّر لجوء بعض النساء إلى الرقاة بدلًا من الأطباء والطبيبات عبر ثلاثة مستويات مترابطة؛ على المستوى الفردي يدفع نقص المعرفة بطبيعة الاضطرابات النفسية، إلى جانب آليات الدفاع التي تبحث عن تفسيرات خارجية كاعتداء الجنّ والسحر، بالكثيرات إلى تجنّب الاعتراف بالاضطراب النفسي في محاولة لرفع اللوم عن أنفسهن وكأن الاضطراب أو المرض تهمة موجّهة ضدهنّ. وعلى المستوى الأسري والاجتماعي، تدفع وصمة زيارة الطبيب/ة النفسي/ة بالإضافة إلى الضغط الأسري، نحو التوجه إلى العلاج الروحي الذي يمثّل الخيار الأكثر قبولًا والأقل حساسية، لا سيما حين تكون الأعراض مُعرقِلة للأدوار الاجتماعية (مثل الزواج أو الإنجاب). أما على المستوى الثقافي والديني، فتُهيمن التفسيرات الخرافية للمرض ويزداد الاعتماد على الرقاة بحكم توفّرهم وسهولة الوصول إليهم مقارنة بالاختصاصيين/ات النفسيين/ات.

​توضح البريهي أن العديد من الاضطرابات النفسية ما زالت تُفسَّر خطأً في بعض المجتمعات اليمنيّة على أنها ناتجة عن السحر أو المسّ في حين أنها حالات طبية معروفة وقابلة للعلاج، أبرزها الاضطرابات الذهانية مثل الفصام، والاضطراب الوجداني مثل ثنائية القطب في طور الذهان. وُيعدّ اضطراب التحويلي (أي حين يتعرّض الشخص لضغط نفسي شديد أو صدمة تفضي إلى نتائج صحية جسدية) واضطراب الأعراض الجسدية من أكثر الحالات التي تُساء قراءتها، إذ يعاني المصابون/ات من أعراض غير مفسّرة طبيًا مثل شلل موقّت أو نوبات تشنجية غير صرعية أو فقدان النطق والبصر، وغالبًا ما تُعزى خطأً لتأثيراتٍ خارقة، وتشمل القائمة أيضًا اضطرابات القلق والمزاج على رأسها نوبات الهلع والاكتئاب الشديد، حيث تظهر أعراضٌ مثل شعور مفاجئ بقرب الموت، وضيق في التنفس، وانسحاب اجتماعي قد يُفهم خطأً على أنه نتيجة سحر ربط أو نفرة.

وبحسب الطبيبة البريهي، يشير واقع أكثر من عيادة نفسية إلى تزايد الحالات التي تصبح بحاجة إلى علاج متخصّص بعد مرورها بتجارب "الرقية الشرعية" أو "العلاج بالقرآن" التي غالبًا ما تتسبّب في تأخّر الحصول على الرعاية الصحيحة، كما قد تُعرّض بعض الممارسات القاسية أثناء الرقية المريضات إلى صدمة نفسية ثانوية تزيد من القلق وتُعقّد الأعراض، إضافة إلى الإيحاء السلبي الذي يرسّخ في ذهن المريض/ة فكرة السحر أو المس، ما يُضعف استجابته/ن لاحقًا للعلاج المتخصّص.

وأوضحت البريهي أيضًا أن الاضطرابات النفسية لا تظهر عادةً في الفحوصات المخبرية الروتينية، إذ تُستخدم هذه الفحوصات لاستبعاد الأسباب العضوية التي قد تتشابه مع الأعراض النفسية مثل اضطرابات الغدة الدرقية أو النقص في بعض الفيتامينات، ورغم احتمال ظهور مؤشرات بيولوجية غير محدّدة كارتفاع هرمون الكورتيزول في حالات الاكتئاب الشديد، فإنها لا تكفي لتشخيص الاضطراب بشكل حاسم. ويعتمد التشخيص النفسي في الأساس على المقابلة السريرية وتقييم الأعراض وفق المعايير الطبية المعتمدة.

"لا تمتّ إلى الدين بصلة"

يؤكّد المرشد الديني الشيخ عبدالله القحطاني أن كثيرًا ممّا يمارس اليوم تحت اسم "الرقية الشرعية" لا يمتّ للدين بصلة بل يدخل في باب الجهل والاستغلال، مشيرًا إلى أن الشريعة الإسلامية وضعت ضوابط واضحة للرقية تقوم على القرآن والذكر والدعاء بعيدًا عن الإيذاء أو الخنق أو الضرب أو أي أسلوب يهين الإنسان أو يلحق به ضررًا، بعكس ما  يحصل اليوم مع الكثير من اليمنيّات على أرض الواقع.

ويضيف القحطاني: "الله أمرنا بحفظ النفس وعدم تعريضها للأذى ولا يجوز لأي شخص أن يضرب أو يخنق امرأة بدعوى إخراج الجن فالرقية الشرعية بريئة من هذه الممارسات، وعلى الأُسر أن تفرّق بين الراقي المؤهّل الذي يلتزم بالضوابط الشرعية، وبين من يستغل خوف الناس ليؤذيهم". 

ويلاحظ القحطاني أن نساء القرى هنّ الأكثر توجّهًا إلى الشيوخ والرقاة، ويعود ذلك في جانب منه إلى انتشار المعتقدات الشعبية التي تربط بعض الأعراض بالحسد أو السحر، بالإضافة إلى سهولة الوصول إليهم مقارنةً بالمرافق الصحية التي قد تكون بعيدة أو تفتقر للكادر النسائي، ما يجعل بعض النساء يشعرن بحرج أو بصعوبة في زيارة الطبيب/ة، كما يسهم ضعف الوعي الصحي وارتفاع تكلفة الرعاية الطبية النظامية في تعزيز هذا الاتجاه.

يقول أحد مشايخ القبائل المعروفين في المناطق الريفية في إب -والذي فضّل عدم ذكر اسمه- إنّ ما يشاهده من معاناة النساء بسبب الخرافات والممارسات غير المنضبطة يجب أن يدق ناقوس الخطر، مؤكّدًا أن الكثير من القبائل بدأت تشعر بخطورة ترك النساء فريسةً للرقاة غير المؤهلين خصوصًا بعد تكرار الحوادث التي نتج عنها أذى جسدي ونفسي شديد، مضيفًا أن: "الدين لا يجيز الإضرار بالناس ولا خنقهم ولا ضربهم بحجة علاجهم؛ فنحن نؤمن بالرقية الشرعية وفق ضوابط واضحة وبأسلوب رحيم بعيد عن الإيذاء، أما ما يفعله بعض الجهلة اليوم فليس من الدين في شيء، وهو إساءة للمرأة وللقبيلة وللتقاليد".

 

    إصلاح صالح ناجي

    صحفية يمنية من محافظة عدن معيدة في كلية الإعلام جامعة عدن وصحفية متخصصة في كتابة القصة.

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • سيتم تحويل عناوين المواقع الإلكترونية وعناوين البريد الإلكتروني إلى روابط تلقائياً.