أكره رحلتي إلى الحميّات كل شهر وأفكر في ما قد يحدث في هذا اليوم من سوء معاملة.
بداية كل شهر يأتي موعد الزيارة الشهرية لطريق طويل لا ينتهي، الحركة بجسد مُثقل بالحمول، وكُرهي لطوابير الحكومة والروتين ونظرات الإشفاق والاشمئزاز، وجوه مألوفة وأخرى أعرفها. وتبدأ الرحلة، ينظر إليّ سائق الأجرة ويكسر الصمت "ألف سلامة عليك يا باشا" فأرد "الله يسلمك" ويصمت للحظات ويبدأ من جديد "هو حضرتك بتشتكي من إيه؟" فأنظر إليه بنظرات حائرة لا تعرف إجابة سؤاله العشوائي، فيكمل حديثه "أصل حضرتك رايح الحُميات فقلت أكيد تعبان، مع إنك ما شاء الله عليك شكلك عفي.. رايح تزور حد؟" أعطيته بعض الأجابات القصيرة الكاذبة حتى يعلم أنني غير مهتم بإتمام الحديث فصمت بعد وهلة.
"آخر الممر على اليمين"
وذهبت أنا في بحر من الأفكار.. أولها، كيف سيكون ردّ فعل السائق إن كنت أخبرته الحقيقة، أنني مُتجهٌ إلى مستشفى الحُميات لاستلام علاجي، والذي كان بدوره سيسأل مما أشتكي، فأجيبه أنني متعايش مع فيروس نقص المناعة المُكتسب. هل كان سيوقف السيارة ويقوم بإنزالي في منتصف الطريق أم كان سيصمت حتى آخر الطريق ويتجنب لمسي حتى لا أنقل له العدوى؟ الكثير من الاحتمالات قد تحدث إذا علم شخص واحد.
وصلت وجهتي وبدأت رحلة العلاج. مستشفيات الحُميات داخل جمهورية مصر العربية هي الطريق الوحيد الذي يُمكن من خلاله الحصول على دواء تروفادا Truvada مجانًا دون أية تكاليف، فأنا لا أقوى على شرائه من الخارج بسعر يتراوح بين 1200 – 1700 جنيه مصري (58-82 يورو). لكن من قال إنني لا أدفع ثمن هذا الدواء بطريقة أو بأخرى، فأنا أدفع الكثير عندما تنظر لي إحدى الممرضات نظرة شفقة أو عندما تنظر أخريات تجاهي ويبدأن بالهمس ثم يضحكن بصوت يُفيق سكان المشرحة. أدفع ثمن العلاج عندما يبدأ الطبيب بالتأفف عند وجود كثيرين على قائمة الانتظار للتحليل أو للمشورة، أدفع ثمن العلاج عندما أقابل شخصًا تجمعنا معرفة شخصية ويسألني ماذا أتى بي إلى هنا فيجدني أحمل علبة الدواء فينظر إليّ باشمئزاز ويرحل دون وداع.
"الحباية الزرقا"
التروفادا هو عقار مضاد للفيروسات القهقرية يتكون من عقارين هما تينوفوفير بجرعة 300 مغ وإمتريسيتابين بجرعة 200 مغ، وذلك بحسب موقع الشركة المصنّعة لدواء تروفادا. دائمًا ما يُستخدم تروفادا كعلاج لفيروس نقص المناعة المكتسب وعقاقير أخرى، وهي حبة زرقاء اللون تعمل على المحافظة على نسبة الفيروس في الدم. الجرعة عبارة عن حبة يوميًا، نفس الساعة التي تتجرع فيها أول جرعة من التروفادا ستكون الساعة التي يجب أن تأخذ فيها الجرعة كل يوم.
يعمل تروفادا منفردًا كعلاج واقٍ من الفيروس لمن هم وهن أكثر عُرضة للإصابة ووزنهم/ن فوق 35 كجم.
الجرعة هي حبة يوميًا في نفس الساعة التي أُخِذت فيها أول جُرعة.
حصلت على مخزوني الشهري وبدأت أفكر إذا ما كنت سأستمر في تناول هذه الجرعات اليومية من الأدوية كل يوم، فهو أمرٌ ممل ومُرهق نفسيًا. تتذكر كل يوم أنه عليك تناول الدواء بسبب إغفال الواقي الذكري في إحدى المرات أو بسبب خطأ طبيب لم يقم بالتحليل لأحد المتبرعين بالدم وكان كيس الدم هذا من نصيبي عندما كنت في غرفة العمليات بعد حادثة نجوت منها لأعيش ما تبقى من عمري أتجرع أدوية قد تساعد أم لا.
سمعت الكثير من الشائعات في إحدى المرات عند انتظاري للدواء، تأخر الشخص المسؤول عن صرف الدواء ووجدت بعض الأشخاص ينتظرون الدواء مثلما كان ينتظر أهل مصر صرف القمح في السنوات العجاف. تكلّم الحاضرون عن الكثير من الأشياء ومنها الفيروس والدواء ومال عليّ أحد الحاضرين وقال "على فكرة الدواء هنا مضروب، مش زي بتاع برّة". أخذ الأمر الكثير من تفكيري فتساءلت إذا ما كانت الحكومة تتلاعب بهذا الدواء أيضًا كما تتلاعب بكل شيء مدعوم، ولكن مع الوقت وجدت أنني أتحسن وأن التحاليل الدورية دائمًا جيدة مقارنة بما سبقها.
"أنا رئيسة قسم"
كل ثلاثة أشهر أتجه إلى المعمل للقيام بالتحليل للاطمئنان إذا ما كان الدواء يأتي مفعوله وليس كما أخبرني أحدهم من قبل أن الدواء "مضروب". تتحكم في المعمل بعض الممرضات تنطبق عليهن المواصفات المصرية لملائكة الرحمة، ساخطات على الحياة ومن حولهن، يضحكن فيما بينهن لكن عند طرقي لباب المعمل ينقطع الضحك وتنظرن تجاهي نظرة من سرق قوت يومهن وخرّب يوم زفافهن. تقوم إحداهن متململة وتقرر أخذ العينة، تغرس الإبرة في وريدي منتقمة لتخريبي حديثها الشيّق مع باقي الملائكة، وإذا تألمت تنظر لي وتقول بنبرة مُستهزءة "ماتنشف كده مالك، دي إبرة".
دائمًا ما يكون تعامل الأشخاص المسؤولين عن سحب العينات صعب. في إحدى المرات كان عدد الراغبين في التحليل كبيرًا نسبيًا مقارنة بالأيام الأخرى، فثار فريق الممرضات في وجهنا، أخذن ينهرن كل من كان يريد فقط أن يطمئن بعد شهور من العلاج إذا ما كان الأمر يؤتي ثماره.
كانت إحداهن في ذلك اليوم شديدة الغضب واللهجة وكانت سليطة اللسان وقررت أن تترك كل شيء وترحل وهي تصرخ في وجه كل من مرّ أمامها وأنا منهم، فتأتي سيدة وقورة تُطيّب خاطرنا وأخذت تساعد في سحب العينات، برغم أنها لطيفة لكنها كانت تقوم بذلك وهي على مضض وتقول لكل من يذهب إليها "ده مش شغلي على فكرة، أنا رئيسة قسم... بس بعمل ده عشان أنجزكم".
"اكتئاب قسم 15"
في فترة ما كان يجب عليّ الذهاب إلى قسم 15 للحصول على إمضاء أحدهم للحصول على إذن صرف. قسم 15 هو المكان الذي يُحجَز فيه المتعايشون والمتعايشات مع مرض الإيدز، أي المرحلة المتأخرة من مراحل الإصابة بفيروس نقص المناعة ويسميه البعض HIV Stage 3. دخلت القسم، عبارة عن مبنى متهالك الجدران، أقرب ما يكون إلى مقالب قمامة مصغرة في أركان المكان، أسِرَّة قديمة متّسخة، لون الملاءات الحقيقي لا يكاد يظهر بسبب تراكم طبقات الأتربة فوقها. مكانٌ مظلم لا تدخل غرفه الشمس، وجوه العاملين هناك عابسة كعبوس العزاء، مكانٌ مُهمل، والأسوأ من ذلك أن المرضى مُهملون أكثر من المكان.
المرضى في حالة لا يمكن شرحها بالكلمات.
كيف يكون مكان كهذا المكان هو المخصص لأشخاص كل ما يحتاجونه في الوقت الحالي هو الراحة النفسية والدعم ممن حولهم؟ كنت أكره قسم 15 فكنت أصاب في اليوم الذي كنت أذهب فيه إلى هذا القسم باكتئاب لا سبب له، أطلقت عليه اسم "اكتئاب قسم 15"، لا أعرف كيف يتمكن شخص من العيش في مكان مشابه، كنت أدعو لسكّان هذا القسم بالشفاء والتعافي فقط للخروج من هذا المستنقع المُظلم.
في النهاية قد تكون مستشفى الحميات هي المكان المناسب لاستقبال المتعايشين والمتعايشات أو حتى المكان الذي يجب احتجاز أحدهم وإحداهن فيه. قد يكون طاقم العمل هناك بحاجة فقط إلى التدريب أو المعرفة لا أكثر، ولكن هناك البعض منهم قد يحتجن إلى ما هو أكثر، قد يحتاجون إلى تعلم الإنسانية. الحُميات ليست في المستوى الذي يجب أن تكون فيه كمكان يستقبل أحدًا، لكن أليست كل الأماكن التابعة للدولة كذلك؟
أكره رحلتي إلى الحُميات كل شهر وأفكر في ما قد يحدث في هذا اليوم من سوء معاملة وأنا أوقف إحدى سيارات الأجرة وأسأل سائقها: "الحميات يا أسطى؟"
إضافة تعليق جديد