الدورة الشهرية وسياسات العمل

20/12/2018
1297 كلمة

لِمَ تبقى الدورة الشهرية حتى يومنا هذا موضوعًا يُتناول همسًا؟

لِمَ تبقى الدورة الشهرية موضوعًا يُتناول همسًا، على الرغم من أنّ نصف سكّان العالم تختبرنه؟

تطلب الزميلات فوطًا صحية ومسكّنات في مكان العمل سرًا، وتدّعي فتاة تعاني من أوجاع الدورة الشهرية أنها مُصابة بالزكام، أو أنها "مريضة" بكلّ بساطة أمام أفراد عائلتها. في بعض المناطق، لا تزال الفتيات يتفاجأن ويشعرن بالخوف عندما تأتي الدورة الشهرية الأولى.

في الواقع، قلّما يُناقش موضوع الدورة الشهرية بشكل عام، ويندر الحديث عنه أكثر بعد في الدول الناطقة باللغة العربية. يعود ذلك إلى عدّة عوامل يمكن الافتراض بأنها تقع تحت خانة الثقافة وما يتبع ذلك من دلالات دينية وتقاليد وعادات وغيرها من التأثيرات.

من هذه العوامل تحديدًا تنبثق نتائج مهمة مثل المبادرات التعليمية حول الصحة الطمثية والسياسات القوية التي تشجّع المساواة الجندرية، والأهمّ من ذلك، تكسر المحظورات الثقافية حول الدورة الشهرية. وكي تصبح الدورة الشهرية موضوعًا يستحقّ النقاش في السياسات الخاصة والعامة، لا بُد أن تُجرى العديد من الحوارات في المنزل والمدرسة وفي المساحات العامة، كما ثمة حاجة ماسّة إلى أن تكون النساء مسؤولات عن هذه الأحاديث.

تدفّق تدريسي

مهما كانت العوامل تبقى النتيجة ذاتها: محظورات تولّد قلّة معرفة حول الصحة الطمثية. في رسالة بحث غير منشورة لماجستير الفلسفة من جامعة أكسفورد بعنوان "كشف السرّ والخروج عن المألوف: الطمث في الأردن المعاصر"، أجرت أليثيا أوسبورن دراسة على 48 امرأة في منطقة جبل النظيف في الأردن، تحدّثن بصراحة من دون الإفصاح عن هوياتهن. تجدر الإشارة إلى أنّ معدّل الدخل للمنزل الواحد في هذه المنطقة يتراوح بين 500 و700 دولار في الشهر، وهو معدّل منخفض نسبيا بحسب المعايير الأردنية.

اكتشفت أوسبورن حالات عديدة لم تكُن تعلم فيها النساء ما هو الطمث إلى أن بلغن مرحلة بدء الإحاضة (الدورة الشهرية الأولى). تظهر هذه المعطيات أنّه حتى وجود علاقة حميمة كتلك التي بين الأمّ وابنتها تفتقد إلى التواصل حول هذا الموضوع. بالتالي، تتعرقل إمكانية تلقّي الفتاة التعليم أو التوعية حول الصحة الطمثية من المصدرين الأوّل والثاني اللذين يجب أن يتوفّرا لها (أي من عائلتها ومدرستها).

تفسّر أوسبورن أنّ معدّل العمر لبدء الإحاضة في العيّنة الخاضعة للدراسة يتراوح بين 13 و14 عامًا. لكن أقلّ ما يمكن قوله عن المعلومات التي استطاعت هذه الفتيات الوصول إليها حول الطمث أنّها مثيرة للجدل. قالت 40% من النساء ضمن العيّنة إنهنّ لم يعرفن ما هو الطمث قبل دورتهنّ الشهرية الأولى، وادّعت 9% فقط أنّهنّ كنّ يعرفن ما ينتظرهنّ تمامًا قبل الدورة الشهرية الأولى. كذلك، يبدو أنّ المدرسة والأصدقاء ليسوا المصدر الأوّل للتوعية والتعليم حول هذا الموضوع، وإنّما الأمهات أو نساء أخريات من العائلة.

أخيرًا، تدّعي أغلبية النساء ضمن العينة أنّهنّ عرفن معلومات عن الدورة الشهرية فقط بعد بدء الإحاضة، لذلك لم يستفدن من هذه المعلومات بشكل يُذكر.

تقول بعض النساء إنهن لا يناقشن الدورة الشهرية مع أزواجهن إلّا للتحجّج بها لعدم ممارسة علاقة جنسية، ما يظهر مدى تشوّش التواصل حول هذا الموضوع. في ظلّ هذا التشوش، يصبح الطمث تجربة تمكينية للمرأة، في بعض الحالات.

توصّلت أوسبورن إلى نتيجة مهمة في دراستها وهي أنّ "اعتبار" الطمث "مسألة صحية وطبية" ساعد على إدخال الموضوع في النقاشات العامة على هذا الأساس من خلال استعمال اللغة الطبية الأحيائية التي خلقت مسافة بين الفرد والظاهرة وفتحت المجال للنقاش باسم الطب.

في السياق نفسه، أُطلقت مبادرة في تونس منذ عامين في مدرسة داخلية في منطقة مكتر في شمال البلاد. فكما الحال في جبل النظيف في عمّان، تؤثر الظروف الاقتصادية والاجتماعية على قدرة العديد من الفتيات في مكتر على شراء الفوط الصحية للاستعمال مرّة واحدة.

تدخّلت شركة تصنّع الفوط الصحية القابلة لإعادة الاستعمال، بمساعدة مؤسسة غير حكومية. ترمي مبادرة "والله نستطيع" التي أطلقها لطفي حمادي، وهو عضو في شركة "جينيراسيون ليبرتيه"، إلى تحسين مستوى المعيشة للأطفال في المدارس الداخلية في تونس. يفسّر حمادي: "خلال زيارتي للمدارس الداخلية، لاحظت أنّ الإسفنج في الفرشات غالبًا ما يكون ممزّقًا. أخبرني المشرف في إحدى المدارس أنّ الفتيات يستخدمن الإسفنج مكان الفوطة الصحية خلال الطمث بسبب عدم قدرتهنّ على شراء الفوط للاستعمال مرّة واحدة".

أضاف حمادي أنّ هذا التدخل شبه الطبي مكّن الفتيات من "حضور ورش عمل للمساعدة على إيجاد مساحة تشعر فيها طالبات المدارس بالارتياح لدى تناول موضوع الحياة الجنسية والنظافة الشخصية الحميمة مع الأصدقاء والزملاء في الصفّ".

على الرغم من أنّ هذه المبادرة واعدة وتسعى إلى مساعدة الفتيات في مدرسة مكتر الداخلية، تبقى الضوابط واضحة. ثمة مدارس عديدة في المنطقة الناطقة باللغة العربية بحاجة ماسّة إلى تدخّل ولكن ما من بوادر تشير إلى ذلك. يجب البحث عن نهج ملتحم يضمّ الحكومات بلا شكّ، بدلاً من الاعتماد على مبادرات تبدو عشوائية تطلقها شركات أو مؤسسات غير حكومية.

الطمث في السياسات الوطنية وسياسات الشركات

هذا النقص في التعليم قابل للتفاقم. بغضّ النظر عن بعض المبادرات الشعبية المعدّة لتحسين السياسات المتعلّقة بالمرأة، فإن العديد من النساء في العالم العربي يؤدين الأدوار النمطية المفروضة عليهنّ. في الواقع، هنا، كما في سائر العالم، يتولّى الرجال إدارة وفرض ومناقشة صحة النساء بشكل عام.

ليس واضحًا ما إذا كانت هناك سياسات وطنية في العالم العربي تتطرّق إلى إجازات الطمث، وتُعتبر قلّة الوضوح هذه بحدّ ذاتها دليلاً كافيًا على ذلك. لكن، ثمّة أمثلة عن استخدام هذه الإجازات في سياسات الشركات الخاصة. ولا يقتصر هذا التلكّؤ على المنطقة، إذ أن هناك عددًا محدودًا جدًا من الدول حول العالم لديها سياسة وطنية للطمث.

في دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية، يحقّ للنساء بأيام عطل تُضاف على إجازات المرض السنوية. بطبيعة الحال، تختلف السياسات، وفي بعض الأحيان يحقّ للمرأة بين يوم وثلاثة أيام من الإجازة المدفوعة، بينما تكون الإجازة غير مدفوعة في حالات أخرى.

كما طُرح نقاش في إيطاليا مؤخرًا، بعد أن قدّمت أربع نائبات مشروع قانون يسمح للنساء بإجازة طمث شهرية مدفوعة لثلاثة أيام. مُرّر مشروع القانون في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 للنساء اللواتي يعانين من حالة تُعرف بـ"عسر الطمث" تؤدي إلى آلام شديدة في المعدة والظهر خلال الدورة الشهرية، لكن الموضوع أثار جدلاً كبيرًا، فاعتبر البعض هذا إنجازًا للنساء بينما وصفه آخرون بالانتكاسة.

يرى البعض أنّ مشروع القانون هذا يزيد التمييز ضدّ المرأة في مكان العمل، خصوصًا عندما تنافس الرجل على الوظائف نفسها. بذلك، تصبح المرأة في بعض الحالات عبئًا أو لا ترقى إلى مستوى الرجل في أدائها في العمل. وبالطبع، يختلف الوضع بحسب طبيعة العمل والنتائج المرجوّة من الموظف/ة. ترفض طريقة التفكير هذه اعتبار المرأة "حالة خاصة"، وما من شائبة في هذا التفكير. كذلك، يعتقد هؤلاء أنّ منح المرأة امتيازات مبنية على الطمث قد يؤدي إلى نتائج عكسية على معدلات البطالة بين النساء، بسبب المزايا الأخرى التي تحقّ لها مثل إجازة الأمومة. بالتالي، قد يتردّد صاحب العمل في اختيار مرشحات للوظائف الشاغرة.

في العالم العربي، ثمة أمثلة لشركات خاصة تتبنّى سياسة طمث غير رسمية تضمّ يومًا إلى ثلاثة أيام من الإجازة المدفوعة وغير المقتطعة من إجازة المرض السنوية. ولكن  ثمة ضغط خفي على النساء لعدم استغلال هذه الإجازات بسبب الآراء والنظرات التي يواجهنها في مكان العمل. تخشى النساء حتى اليوم النظرة المتعالية تجاههن أو توبيخهن بسبب ميزة مُنحت لهنّ بموجب حقوق التوظيف. مع ذلك، تعتمد أغلبية الدول في المنطقة سياسة إجازات مَرضية مفتوحة، بحيث يستطيع الفرد استعمال إجازات المرض لدى الحاجة.

لا تتعلّق المساواة الجندرية بالانتصار على الحجج البلاغية التي يقدّمها الرجال، أي أنّ محاربة الأفكار التي قد يملكها الرجال في مكان العمل بسبب سياسة كهذه سبب بالٍ مقارنة مع الحاجة الفعلية والضرورية لبعض النساء. حين يتعلّق الأمر بتحديد حقوق النساء، على النساء أن يتّخذن القرارات. بالتالي، عندما ننظر في حقوق المرأة بشكل معمّق، ألا يجب علينا كنساء أن نفكّر في المرأة التي، ولسوء الحظّ، تحتاج إلى هذه السياسة؟

كتبت غلوريا ستاينم "لو يحيض الرجل" (1978):

"عُيّن الرجال ذوي البشرة السمراء في وظائف منخفضة الأجر لأنه قيل أنهم "أقوى" من الرجال ذوي البشرة الفاتحة، بينما مُنحت جميع النساء وظائفًا منخفضة الأجر لأنهنّ "أضعف". أجاب صبي والدته عندما سألته إذا كان يريد أن يكون محاميًا مثلها: "لا، هذا عمل للنساء". ما من رابط بين المنطق والقمع. ما الذي قد يحدث إذا استطاع الرجال أن يحيضوا بسحر ساحر بدلا من النساء؟ لا شكّ في أنّ الطمث عندها سيصبح مدعاة فخر ذكورية وسيحرّك مشاعر الغيرة، فيتفاخر الرجال بمدّة الدورة الشهرية ودفقها. سيتحدّث الفتيان عندها عن الطمث كأنه بداية مرحلة الرجولة لتحريك الحسد لدى الآخرين، ولكانت تُقام الحفلات الدينية والموائد العائلية وسهرات وداع العزوبية وتُقدّم الهدايا لهذه المناسبة".

بما أنّ هذه الظاهرة الطبيعية تؤثر على نصف سكّان العالم، لا يمكن أن تكون الكلمات أو التعابير الملطّفة التي نستعملها لمناقشة الطمث خفية، لأنها تؤذي النساء. إذا كنا ما نزال عاجزين عن مناقشة موضوع الطمث بانفتاح مع بناتنا، أو رجالنا أو زملائنا، كيف سنفلح في طرح قضايا النساء في السياسة والحوكمة كأولويات؟