ما معنى هذه العبارة؟ وكيف أصبحت العبارة العربية الإقليمية الوحيدة التي تصف الشيء ذاته دون الالتفات إلى ما تُخلِّف وراءها من تَخلُّف؟
أكتب "الشيء" ليس بسبب اعتقادي بأنه شيئًا، أو موافقتي على استخدام الكلمة، بل تمهيدًا لما سيأتي.
أعتقد أنني أملك جوابًا للسؤال الأول فقط، كون هذه العبارة نُسبت إليّ مدة سنواتٍ طوال، وكونها أصبحت العبارة العربية الإقليمية الوحيدة، والتي تصف الشيء ذاته (أي الإجابة على السؤال الأول)، دون الحاجة إلى نقاشها أو البتّ فيها على مستويات عدة، ودون الالتفات الى ما تُخلِّف وراءها من تَخلُّف.
"حسن صبي"، هي عبارة تصف الفتاة التي ترتدي ملابس الفتية، وتلعب ألعاب الفتية، وتمشي مشية الفتية، وشعرها كشعرهم.
باختصار، تتصرّف كالصّبْية، وفقًا للمعايير المجتمعية البالية التي تصنّف ما يُنسب للفتى وما يُنسب للفتاة، حتى قبل أن يتشبّث أيٌّ منهما بالنّفَس الأوّل ويصبح بمقدوره\ا الخروج لمصارعة الحياة، إلّا أنّ كلمة صبية، تنتهي بالتاء المربوطة، وفتْية أيضًا.
ذات مساءٍ ربيعيٍّ جميل، تشبّثتُ بنسمةٍ عابرة واتّخذتُ لي منها نَفَسًا، ثم خرجتُ لمصارعة الحياة. ومع مرور الوقت، أدركتُ أنّ والديّ كانا قد اختارا لي اسم ميسان، وأصبحتُ ألتفت كلما سمعت هذا الاسم، اسمي.
لكنّني لم أع أنّ هناك اسمًا آخر يتربّص بي خلف حاجزٍ ضخم، ثمّة من أطلق عليه منذ دهرٍ تسمية "المجتمع".
ما أتذكّره من طفولتي الجميلة، أنّ والدتي كانت تشتري لي الفساتين، وملابس أخرى، وخالاتي كُنّ يطلين أظافري بالمناكير، لكنّ أحدًا لم يملِ عليّ الطريق التي وجدتها مناسبةً فيما بعد، في تفضيلي لأشياءٍ دون غيرها.
ففي جيلٍ مبكّر، أخذت أبدي برأيي في عدم حبّي للفساتين أو المناكير، وبالمقابل، في تفضيلي للملابس الواسعة والفضفاضة، والتي بالضرورة سُميّت "قَصّة الصبيان"، أي ملابس الصِّبْية.
كما وأحببت اللون الأزرق مقابل الزّهري، والذي يُنسب هو الآخر للصِّبْية.
في بداية المرحلة الابتدائية، بدأت بالتعبير عن حبّي للشعر القصير، ولطالما نجحت في تحويل هذا الحب إلى حقيقة، وكم كنت سعيدة.
في المدرسة أو في الحارة، قضيت معظم وقتي مع الصبية، حيث كنّا نمارس في أغلب الأحيان، لعبة كرة القدم، السّباقات السريعة، والتمارين البدنيّة.
وفجأة، بدأ الشبح المتربّص بالظهور، وصار لي اسمان: "حسن صبي" وميسان
لم أدرك في حينها معنى حريّة الاختيار، ومفهوم الراحة لم يكن واضحًا البتّة، فقد كنت أفعل ما كنت أحب.
وفجأة، بدأ الشبح المتربّص بالظهور، وصار لي اسمان: "حسن صبي" وميسان.
في المنزل، وفي الحارة، وفي المدرسة.
لم يزعجني اسمي الجديد، بقدر ما أزعجتني إسقاطاته.
وحتّى هذه اللحظة لست أدري كيف أصبح الجميع في مكانةٍ تخوّلهم أن يطلبوا منّي القيام بأعمالٍ تفوق قدرتي الجسديّة، وفقًا لتصنيفهم لمظهري الخارجي وما أحبّ، وعدم إملاء ذات الطلبات على أختي، وفقًا لتصنيفهم لذات المعايير.
تلك الأعمال التي نُسبت للصِّبية، بإشارةٍ من ذات المجتمع البالي ومكنونه البشريّ.
"ميسان، روحي مع ستّك ع الدكانة احملي معها الأغراض لإنه ثقال"
"ميسان، روحي جيبي السلّم من عند دار عمّك"
"ميسان، نزلي سطولة الدهان لتحت"
والعديد من الأعمال الأخرى التي أضحت متعةً بالنسبة لي، وأصبحت أتقنها: كتكليس السطح، ودهن الجدران، وتنظيف السيارات، ونقل الأثقال، وترتيب الحطب، وغيرها.
لكن "ومن الطبيعي"، كان عليّ وبشكلٍ مفهوم ضمنًا، أن أتقن تحضير القهوة، أن أُحسن استخدام المطبخ ومكنوناته، وأن أقوم بتنظيف المنزل بكلّ ما يحمله هذا التعبير من أفعالٍ، لا تقل صعوبةً عن التي سبقتها ذكرًا. فعلى الرغم من كوني "حسن صبي" إلّا أنّ هذا التعريف لا يُعفيني مما يُنسب للمرأة من أدوارٍ اجتماعية.
وفي مرّةٍ، أطلقت على نفسي اسم "عتّال الحارة" لأجعل من ما يجري مصدر ابتسامةٍ لنفسي ولهم، رغم أنّهم يختارون لكِ اسمًا غير اسمك، ويضعونكِ في قالبٍ يلائم تصرّفاتك، ويستحوذون على حركة جسدك ومظهرك الخارجيّ إذا سار أيّ ممّا تملكين خارج المفهوم ضمنًا والمتفّق عليه، بل ويمارسون عليه كلّ موروثهم المجتمعي الفاسد، بوعيٍ أو بغير وعي، وبدهشةٍ شاؤوا لها أن تتحوّل إلى "أمرٍ طبيعيّ".
"تفحجيش إجريكي وانت قاعدة! عيب! انت بنت!"
"تحطّيش إجر ع إجر! عيب! انت بنت!"
ماذا يمكنني أن أفعل مع بعض أجزاء جسدي عند الجلوس، والتي يجدر بها ان تُرى بشكلٍ معيّن، يناقض شكل الراحة الشخصية؟
في نهاية المطاف أنا لا أملك أكثر من اسمٍ وجسدٍ وروح أطمح لجعلهم سعداء، بعيدًا عن وحلة الفرض والقمع والخضوع
هل من كبسةٍ أضغط عليها فتختفي هذه الأجزاء، ويمكنني استعادتها حينما أحتاج إلى النهوض أو الوقوف أو المشي؟
كما وأنني ما أزال أذكر حتى هذه اللحظة، حينما أصرّت عليّ "بنات العائلة" كل الإصرار من أجل ارتداء فستان ووضع بعض الماكياج في حفلة زفاف إحداهنّ، وبعد أن كرّرتُ جملة "مش أنا! ببطّل حاسّة إنه هاي أنا! بتشبهنيش!" مرارًا وتكرارًا، وانصعتُ لهنّ، وإذ بصوتٍ عالٍ جاء من أحد أقربائي قائلًا: "ميسان طلعت بنت". هو ذات الشخص، الذي كان يرتدي الفساتين ويضع الماكياج على وجهه، ويضع برتقالتين ليصبح له صدرًا، ويلبس كعبًا، ويمشي في الحارة، فيضحكون له جميعًا.
كبرت، وأدركت أن ما كنت أحبّه في صغري تَجسّد في معنى الراحة، وأنّ ما مررت به من تجارب أكسبني مهارات وقدرات كثيرة، حيث أنّني اليوم أستطيع القيام بكلّ شيء دون حاجتي إلى "الرّجل" الذي يمثّل "القدرة". أصبحت سندًا لنفسي.
ورغم أنّ عالمنا ما يزال قائمًا على تقسيم الأدوار الاجتماعية بين النساء والرجال، إلّا أنّني أحاول أن أسعى وراء ما يجعلني أشعر بالرّاحة أكثر، دون الالتصاق بهذا القيد. أختار لي ما أحب أن أفعل، دون الالتفات إلى التعريفات السائدة، ولا التصنيفات حتّى وإن عنى هذا أن أواجه المزيد من المتاعب والكثير من عدم التقبّل، حتّى وإن أملى عليّ هذا أن أرتطم بالكثير من الذكوريين من الرجال والنساء، التي لا تتناسب اختياراتي وأفكارهم، ففي نهاية المطاف أنا لا أملك أكثر من اسمٍ وجسدٍ وروح أطمح لجعلهم سعداء، بعيدًا عن وحلة الفرض والقمع والخضوع.
أما لكلّ "حسن صبي" في بقاع الأرض أقول: أنتنّ حسناوات بصبيانيّتكنّ، ولو كانت مزعومةً من قبل الآخرين. فليكن وجودكنّ في هذه الحياة حقيقةً، قادرةً على جعلكنّ سعيدات بها، وبأنفسكنّ.
التعليقات
شكرا ميسان على هذا النص الرائع, فهو يثبت أنّ الهوية الجندرية هي هوية تُبنى اجتماعيا وليست مولودة معنا.
إضافة تعليق جديد